سيريل رامافوزا…الدبلوماسي المتمرس

فن المحافظة على رباطة الجأش في أصعب المواقف

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا خلال حملة انتخابية قبل الانتخابات العامة لعام 2024 شمال ديربان، في 14 مايو 2023

سيريل رامافوزا…الدبلوماسي المتمرس

عندما زار رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، ووفده واشنطن في مايو/أيار، كانوا يأملون في إعادة ضبط العلاقات بعد أشهر من التوتر مع إدارة دونالد ترمب. لكنهم بدلاً من ذلك، وقعوا في كمين في المكتب البيضاوي، كما حدث سابقا مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وأُجبِروا على مشاهدة مقطع فيديو يزعم حدوث ما يسمى "الإبادة الجماعية" للبيض في جنوب أفريقيا. واتضح لاحقا أن إحدى الصور التي رفعها ترمب كانت في الواقع لقطة من فيديو لـ"رويترز" جرى تصويره في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وليس في جنوب أفريقيا.

كثيرا ما ضخّم حلفاء ترمب مزاعم العنف ضد الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا، ومن بينهم إيلون ماسك، وهو نفسه من مواليد بريتوريا في جنوب أفريقيا، ومقدم البرامج السابق في قناة "فوكس نيوز" تاكر كارلسون، الذي بث مقاطع عن الإبادة الجماعية المزعومة خلال ولاية ترمب الأولى. تباينت ردود الفعل على استجابة رامافوزا، فأشاد البعض برباطة جأشه وسلوكه التصالحي في مواجهة غضب ترمب، فيما انتقده آخرون لعدم الرد بقوة أكبر.

وكان الرئيس زيلينسكي قد سبق رامافوزا في الوقوع بفخ ترمب في وقت سابق من هذا العام، حين وجد نفسه في خضم مواجهة محتدمة وعَلنية مع دونالد ترمب خلال اجتماعهما في المكتب البيضاوي. أما رامافوزا، فقد تعامل مع استفزاز مشابه بهدوء وروح مرحة، مقدّما لبقية قادة العالم نموذجا ناجحا في احتواء مسرحيات ترمب التصادمية، ما قد يثني الرئيس الأميركي عن تكرار مثل هذه الأساليب في المستقبل.

وفيما هتفت الجماعات اليمينية في جنوب أفريقيا لتصرف ترمب، أوضح نقاد آخرون أن البلد تديره حكومة وحدة وطنية متعددة الأحزاب. وقد روى رامافوزا لاحقاً هذه الواقعة بروح الدعابة، فقال: "كنت قد بدأت أعتاد على التفاعل مع هذا الرجل، عندما سمعته فجأة يقول: لا، أخفضوا الأضواء. وصف الكثيرون ذلك بأنه كمين، أما أنا فكنت في حيرة من أمري، ورحت أفكر: ما الذي يحدث؟".

في بلده، يواجه رامافوزا وحزبه، "المؤتمر الوطني الأفريقي"، (ANC)، ضغوطا متزايدة، حيث يمر الاقتصاد في حال من الركود، والجريمة والبطالة مرتفعتان، والفساد مستمر، والخدمات العامة متعثرة، والبنية التحتية متداعية، وسط غياب شبه كامل لآليات المساءلة.

ولا يزال حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي"، الذي يعاني من انقسامات داخلية، عالقا منذ ما يقرب من عام في ائتلاف غير مستقر– حكومة الوحدة الوطنية– مع عشرة أحزاب أخرى، حين أُجبر على تقاسم السلطة بعد أداء انتخابي سيئ. وكانت رحلة رامافوزا إلى واشنطن تهدف جزئيا لتأمين اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة، وهو أمر حيوي لتحفيز اقتصاد جنوب أفريقيا ومكافحة البطالة.

نقل رامافوزا هذه الحاجة الملحّة مباشرة إلى ترمب خلال لقائهما في المكتب البيضاوي، مشددا على أن الاستثمارات الأميركية ضرورية لمعالجة البطالة، التي تُعدّ من أبرز المحرّكات لارتفاع معدلات الجريمة في جنوب أفريقيا

نقل رامافوزا هذه الحاجة الملحّة مباشرة إلى ترمب خلال لقائهما في المكتب البيضاوي، مشددا على أن الاستثمارات الأميركية ضرورية لمعالجة البطالة، التي تُعدّ من أبرز المحرّكات لارتفاع معدلات الجريمة في جنوب أفريقيا. وزاد من إلحاح الموقف احتمال عدم تجديد اتفاقية "أغوا" التجارية في وقت لاحق من هذا العام، في ظل توجّه ترمب الانعزالي. وتمنح هذه الاتفاقية الحيوية جنوب أفريقيا امتياز الدخول إلى السوق الأميركية من دون رسوم جمركية على سلع محددة، ما ساهم، وإن جزئيا، في دعم اقتصادها الهش.

ومع ذلك، هيمنت مزاعم ترمب بشأن ما سمّاه "اضطهاد البيض" على مجريات اللقاء، مما طغى على النقاشات التجارية. ويرى بعض المراقبين أن طريقة رامافوزا الهادئة في التعامل مع هذا الفخ الاستفزازي أكّدت مكانته كدبلوماسي متمرس، وأسهمت في تذكير الداخل والخارج بدوره المحوري في ترسيخ النظام القائم على القانون في جنوب أفريقيا. بل إن تقريرا حديثا لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) شبّهه بالزعيم التاريخي نيلسون مانديلا، واصفا إيّاه بأنه "أعظم باني وميسّر للتحالفات في تاريخ جنوب أفريقيا. فقد كان في صلب المفاوضات التي أنهت نظام الفصل العنصري في مطلع التسعينات، ولعب دورًا حاسمًا في الحفاظ على وحدة البلاد حين كانت التوقعات تميل إلى انهيارها. لقد واجه خصوما أشد قسوة، ومع ذلك حافظ على هدوئه، وابتسامته، ورباطة جأشه".

أ.ب
ترمب يُطلع رامافوزا على مقالات صحافية عن مزاعم بانتهاكات حقوقية ضد المواطنين البيض في جنوب أفريقيا

وأضاف التقرير: "في الآونة الأخيرة، قاد البلاد بحكمة عبر سنوات الاستيلاء على الدولة القاتمة في عهد جاكوب زوما، ثم عبر إجراءات الإغلاق الصارمة خلال جائحة كوفيد. كما أبقى حزب (المؤتمر الوطني الأفريقي) واقفا على قدميه، وإن بشق الأنفس، بعد تعثّره في انتخابات عام 2024، قبل أن يقوده– وهو في أضعف حالاته– إلى غمار سياسات التحالف المعقدة التي تطلبت مناورة دقيقة لضمان الاستقرار في موقعه في الرئاسة على الرغم من المعارضة المتنامية من داخل حزبه ذاته."

من هو سيريل رامافوزا؟

وُلد سيريل رامافوزا في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1952 في ضواحي جوهانسبرغ، ونشأ في ظل نظام الفصل العنصري، حيث أمضى طفولة قاسية انتهت به– مع ذلك– إلى أن يصبح خامس رئيس لجنوب أفريقيا بعد سقوط ذلك النظام. كانت عائلته من بين ملايين العائلات السوداء التي رُحّلت قسرا إلى مناطق نائية، واستقرّت في بلدة سويتو التي أصبحت لاحقا رمزًا للمقاومة.

يروي كاتب سيرته، أنتوني بتلر، أن رامافوزا كان، حتى في سنوات دراسته المبكرة، لا يتردد في تحدي المدرسين الذين يرى أنهم غير ملتزمين، واصفا إياه بأنه شاب واثق من نفسه وذو شعبية واسعة.

في المرحلة الجامعية، انخرط رامافوزا في حركة الوعي الأسود، الأمر الذي وضعه تحت مراقبة أجهزة الأمن التابعة للنظام العنصري. وبسبب نشاطه السياسي، تعرّض لفترتين طويلتين من الحبس الانفرادي. وفي ثمانينات القرن الماضي، برز كخصم شرس لأرباب العمل البيض في قطاع التعدين، عندما قاد "الاتحاد الوطني لعمال المناجم" (NUM) في واحدة من أكبر الإضرابات العمالية في تاريخ البلاد.

انضم رامافوزا لاحقا إلى حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي"، حيث عمل عن قرب مع نيلسون مانديلا للتفاوض على إنهاء حكم الأقلية البيضاء، الذي سقط رسميا في عام 1994. وسرعان ما صعد في صفوف الحزب، ليشغل منصب الأمين العام، ويلعب دورا محوريا في صياغة دستور جنوب أفريقيا ما بعد الفصل العنصري، وهو دستور يُعدّ من بين الأكثر تقدمًا في العالم.

توقع كثيرون أن يكون خليفة مانديلا الطبيعي، غير أنه أُقصِي لصالح ثابو مبيكي، الأمر الذي أصابه بالإحباط ودفعه إلى الانسحاب من الحياة السياسية مؤقتا

وقد توقع كثيرون أن يكون خليفة مانديلا الطبيعي، غير أنه أُقصِي لصالح ثابو مبيكي، الأمر الذي أصابه بالإحباط ودفعه إلى الانسحاب من الحياة السياسية مؤقتا، فاتجه إلى قطاع الأعمال، حيث امتلك امتياز سلسلة مطاعم "ماكدونالدز" في جنوب أفريقيا، وشغل عضوية مجالس إدارة عدد من الشركات الكبرى.

لكنه عاد إلى الساحة السياسية عام 2012، وتولى منصب نائب رئيس الحزب تحت قيادة جاكوب زوما، قبل أن يخلفه في رئاسة البلاد عام 2018. وفي عام 2019، انتُخب لولاية رئاسية كاملة، وترأس فيما بعد الاتحاد الأفريقي بين عامي 2020 و2021، كما قاد استجابة بلاده لجائحة "كوفيد-19".

على الصعيد الدولي، انتهجت جنوب أفريقيا تحت قيادته سياسة أكثر حزما، إذ امتنعت عن إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وقادت جهودا دولية لمحاكمة مسؤولين إسرائيليين بتهم ارتكاب جرائم حرب في غزة. لكن على المستوى الداخلي، واجهت قيادته اختبارا قاسيا، إذ شهدت انتخابات العام الماضي أسوأ أداء لحزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" منذ نهاية الفصل العنصري، ما أجبره على إبرام اتفاق لتقاسم السلطة مع "التحالف الديمقراطي" (DA) وعدد من الأحزاب الصغيرة، حفاظًا على موقعه في السلطة.

ومع استمرار البلاد في مواجهة معدلات بطالة مرتفعة، وتفاوت اقتصادي حاد، وانقطاعات في الكهرباء، واستشراء للفساد، يجد رامافوزا نفسه في أمسّ الحاجة إلى دعم دولي. غير أن لقاءه المتوتر مع ترمب في البيت الأبيض يُضعف فرص حصوله على دعم أميركي وازن، ويتركه في مواجهة أزمات الداخل بثقة متآكلة وتحالفات هشّة.

font change