مكة المكرمة، تلك المدينة التي تهوي إليها أفئدة المسلمين من كل فج عميق، وتتوق القلوب إلى زيارة بيت الله الحرام والطواف بالكعبة المشرفة، لم تكن يوما موضع شوق المسلمين وحدهم، بل كانت أيضا منارة تشد أبصار الرحالة الغربيين وتداعب مخيلة المستشرقين. ولأنها حرم مقدس يحظر على غير المسلمين دخوله، أحاطها الغياب بحضور طاغ في الوعي الأوروبي، حتى غدت في نظرهم مدينة الأسرار، ومركزا للدهشة والتخيل.
منذ القرون الوسطى، بدت مكة في أعين الرحالة الغربيين جوهرة التاج في خريطة الرحلات الاستكشافية. يخفق لها قلب المغامرة، وتغري المكتشفين بما خفي منها أكثر مما ظهر. كانت الحجب التي تلفها أقوى من أن تقاوم، فاندفع نحوها نفر من المغامرين، متخفين تحت عباءة الإسلام، في مسعى لاكتشاف قصصها وطقوسها وأسرار زوارها، غير عابئين بالأخطار التي قد تودي بهم في أي لحظة. هكذا تداخلت القداسة بالفضول، واختلطت روحانية المكان بنزعات الاكتشاف، فدون أولئك الرحالة فصولا مدهشة من الترقب والتقمص والتجلي.
ولم تقتصر دوافعهم على المعرفة وحدها، فكان للسياسة وأطماع الاستعمار نصيب في هذا الشغف، إذ سعى بعضهم لجمع معلومات جغرافية واستخباراتية عن قلب العالم الإسلامي. وهكذا، اجتمعت نوازع الروح والمعرفة والسياسة، فكانت مكة في نظرهم ذروة ما يمكن بلوغه في أدب الرحلة، مقصدا محفوفا بالرهبة والتحدي، محاطا بقداسة لا تجرؤ المغامرة على الاقتراب منه إلا متنكرة.
التنكر وسيلة عبور
أمام الحظر الشرعي القاضي بمنع دخول غير المسلمين إلى مكة والمدينة، لم يكن أمام الرحالة الغربيين سوى التنكر وسيلة للتسلل إلى الحرمين الشريفين والاطلاع على المشاعر المقدسة. ارتدى هؤلاء المغامرون لباس المسلمين، وتسموا بأسمائهم، وأتقنوا اللغة العربية أو لهجات شرقية، بل إن بعضهم درس القرآن والشعائر الإسلامية ليحاكي المسلمين في المظهر والسلوك. تظاهر كثيرون بالإسلام، وادعوا الانتماء إلى مجتمعات مسلمة بعيدة كي لا يثيروا الريبة.