قد لا يكون الخلاف الأخير بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والملياردير إيلون ماسك الذي أدى إلى انفصالهما، مجرد تباين في الرأي حول مشروع قانون "الإصلاح الضريبي"، بقدر ما هو انعكاس لصدام بين عالمين متناقضين (الأرض والفضاء) وافتراق بين رؤيتين حول طبيعة السلطة وإدارة المستقبل.
بدأت القصة عندما غادر ماسك موقعه كمستشار غير رسمي في حكومة ترمب، بعد أربعة أشهر قضاها على رأس هيئة الكفاءة الحكومية ساعيا فيها إلى خفض الإنفاق الفيدرالي. ثم تأججت شرارة الخلاف حين انتقد ماسك مشروع قانون الإصلاح الضريبي الجديد، واعتبره "مثيرا للاشمئزاز والغثيان"، ورأى أنه سيزيد من عجز الموازنة ويدفع الحكومة إلى "اقتراض مبالغ فلكية"، ثم وصف لاحقا ترمب بـ"الجاحد"، ملمحا إلى أنه لولا دعمه المالي لما تمكن من الفوز في الانتخابات.
في المقابل، أعرب ترمب عن خيبة أمله في ماسك، واتهمه بمعارضة المشروع فقط بعد تقليص الدعم المخصص للسيارات الكهربائية، متوعدا بإلغاء الإعفاءات الضريبية لشركتي "تسلا"، و"سبيس إكس" المملوكتين لماسك، والعقود الحكومية المرتبطة بهما.
سرعان ما انتقل هذا التراشق الكلامي من الاقتصاد إلى السياسة، وتحول إلى مواجهة مباشرة وتوتر متصاعد، وصولا إلى انفجار العلاقة بين الرجلين، الذي يُتوقع أن تكون له انعكاسات على الاقتصاد الأميركي وعلى العقود الحكومية والإعفاءات الضريبية الخاصة بالقطاع التقني.
رغم ذلك، لا يمكن اعتبار الصراع بين ترمب وماسك مجرد خلاف حول وجهة نظر اقتصادية أو حتى سياسية، لأن ترمب، حامل لواء "أميركا أولا"، يطمح إلى إعادة ترسيم الحدود الاقتصادية، وإلغاء الرسوم الجمركية، واقتناص الصفقات التجارية، أما ماسك، فهو ابن العولمة المتوحشة، طموحه جامح، يرى في الذكاء الاصطناعي والروبوتات وغزو الفضاء، مستقبلا يتجاوز الحدود الجغرافية والسياسات التقليدية.
وعليه، فالصراع بينهما يجسد الصدام بين منطقين: منطق يؤمن بالعقود التجارية والإنتاج والاقتصاد الضريبي، ومنطق يرغب في خلق سلطة بلا حدود، وعالم تحكمه الأفكار لا الأوامر، والخوارزميات لا الأيديولوجيات.
ويجسد النقاش الذي دار على أطراف هذا الصراع، في جوهره، الخلاف بين الدولة العميقة والعولمة، ومن ناحية أخرى، يبدو وكأنه نتيجة متوقعة لبداية تفكك التحالف الذي نشأ بين بعض مليارديرات وادي السليكون وإدارة ترمب في بداية ولايته، حين استغلت هذه الطبقة التقارب من الجمهوريين لتمرير مصالح ضريبية وتوسيع الاستثمارات. لكن مع تغير المناخ السياسي وتصاعد التوترات، تباعدت المسارات، وانفرط العقد.
لا شك في أن ترمب حقق إنجازات سياسية واقتصادية سارميريعة لبلاده في فترة وجيزة. وماسك، الذي رأى فيه بالأمس فرصة، بات يراه اليوم تهديدا لا يقتصر على أميركا وحدها، بل يمتد إلى سلاسل التوريد العالمية، والبرامج الفضائية، مثل تلك التي تربط وكالة "ناسا" بشركة "سبيس إكس"، التي قد تجد نفسها داخل معركة تهدد برامجها ومشاريعها ومصيرها.
ما يجري هو فصل من فصول حرب بين السلطة السياسية والشركات الرأسمالية، هو صراع بين سلطات منتخبة وعمالقة تكنولوجيا تتجاوز سلطاتهم وقدراتهم التحكمية أجهزة الدول وإداراتها وحكوماتها
وإذا كان بمقدور ماسك، بما يملكه من ثروات ونفوذ إعلامي وتقني، الصمود في وجه الماكينة الترمبية الجبارة، فمن الممكن أن نشهد ولادة تحالف جديد، على أنقاض القديم، بين شركات التكنولوجيا العملاقة والحركات الليبرالية والديمقراطيين ربما، لمواجهة الحالة الترمبية، مما قد يؤثر سلبا على نتائج انتخابات التجديد النصفي التي تُجرى عادة بعد مرور سنتين على الانتخابات الرئاسية.
على العموم، لا يمكن اختصار صراع العروش بين ترمب وماسك، في ضرائب أو رسوم جمركية، لأن ما يجري هو فصل من فصول حرب أكبر بين السلطة السياسية والشركات الرأسمالية، هو صراع بين سلطات منتخبة وعمالقة تكنولوجيا تتجاوز سلطاتهم وقدراتهم التحكمية أجهزة الدول وإداراتها وحكوماتها.
هو صراع غريب أو جديد من نوعه، أشبه بالصراع بين الممالك السبع على "العرش الحديدي" في المسلسل الأميركي الفانتازي "صراع العروش"، والفانتازيا فيه بظهور السلطة السياسية الأميركية التقليدية مهددة بقدرتها على الإمساك بزمام الأمور، وباحتمال انتقالها من البيت الأبيض والكونغرس والبنتاغون، إلى مكاتب "غوغل" و"ميتا" و"أمازون" و"ستارلينك" و"مايكروسوفت" و"آبل".
ربما يحتاج استيعاب هكذا فكرة، إلى إعادة النظر في مفهوم السلطة وطريقة الحكم في عالم تحكمه التكنولوجيا الذكية. وربما- فيما الصراع دائر بين الرجلين- هناك في مكاتب شركات التكنولوجيا العملاقة، من بدأ في إعداد ملفات لمستقبل هذا القرن، وفي رسم ملامح عالم جديد، لا يشبه ما عرفته البشرية من قبل. عالم تُدار فيه الصراعات بالأجهزة الذكية والتطبيقات الإلكترونية وفي ساحات افتراضية، وينتصر فيه جنود غير مرئيين يجلسون خلف الشاشات، يستخدمون "سيرفيرات" الإنترنت وبرامج الذكاء الاصطناعي، ليحددوا مصائر ملايين البشر، والكوكب والكون كله، بتحريك أصابعهم على لوحات المفاتيح.