فيلم "الخطاة" بين التجديد السينمائي والثقافة الشعبية

ثمن الجمال الفادح في عالم الأضداد

© 2025 Warner Bros. Entertainment Inc. All Rights Reserved.
© 2025 Warner Bros. Entertainment Inc. All Rights Reserved.
مشهد من الفيلم

فيلم "الخطاة" بين التجديد السينمائي والثقافة الشعبية

من آن إلى آخر، تفرز صناعة السينما فيلما يثير نجاحه طفرة حول العالم. قد لا يظهر في الفيلم بطل محبوب أو نجم شباك، وقد لا يكون وراء صناعته مخرج ذائع الصيت، لكن الفيلم/ الظاهرة نفسه قد يتفوق بنجاحه على أفلام أخرى تتمتع مسبقا بكل هذا الدعم المضمون. فيلم Sinners الأميركي أحد هذه الأفلام، وتجربة مشاهدته تثير السؤال الحتمي: ما الاستثنائي فيه، بحيث يحصد إلى جانب إيرادات شباك التذاكر، على منصة السينما العالمية IMDB تقييما مرتفعا بشكل لافت: 8.1 / 10؟

يقدم رايان كوغلر، مخرج "الخطاة" وكاتبه، عملا يمزج أكثر من نوع سينمائي هوليوودي بذكاء وحيوية. دراما، وأكشن، وقصة بلوغ فتى سن الرشد وسط مجتمع أميركي في ثلاثينات القرن الماضي، حيث الفصل العنصري لا يزال قائما، ورعب من مصاصي الدماء الذين ينتظرون في الظلام دعوة للدخول إلى حفل جماعي. اللافت ليس فقط في مزج هذه الأنواع، وكل منها نوع مكرس على حدة يستأهل انجذابا جماهيريا من النوع الشعبي بطبيعة الحال وليس النخبوي. إنما الجديد هنا هو قدرة صناع الفيلم على الابتكار في تنفيذ هذه الخلطة، على خلق تجديد ما، فارق نسبي، بما يجعل الفرجة في "الخطاة" لا فقط تجربة ممتعة، إنما أيضا، وعلى نحو ما مبهرة.

الببغاء ومصاص الدماء

يتأسس "الخطاة" على فكرة فلسفية أو روحية يشرحها لنا كاملة صانع الفيلم قبل البدء في دراما قصته، وهي قابلية الجمال للاختبار. وتقضي بأن الجميل وحده، هو الذي يتعرض لاختبار الشر أو الظلام، وتفترض أنه لولا وجود الجمال تقريبا، لما وقع الاختبار.

الجديد هنا قدرة صناع الفيلم على الابتكار، على خلق تجديد ما، فارق نسبي، بما يجعل من الفرجة في "الخطاة" لا فقط تجربة ممتعة، إنما أيضا مبهرة

تجد فكرة الفيلم صداها في تقاليد الأفارقة الذين انتزعوا من أراضيهم واستعبدوا وأجبروا على الانتقال إلى مجتمع جديد، ولم يعد أمامهم إلا أن يصحبوا موسيقاهم معهم، لا سيما "الجاز" أو "البلوز"، كما اعتادت السينما على تسمية هذا النوع من الموسيقى. اعتقد الأسلاف، أن هذه الموسيقى التي ابتكروها، والتي استخدموها لاحقا أداة يحررون بها أنفسهم من الوضع العبودي الأدنى، ولو على مستوى الفن وحده، يمكن أيضا أن تكون بوابة للشر كما هي للشفاء. حسب فلسفة الفيلم، يتساوى الشيطان مع الرجل الأبيض، في افتتانه بهذا النوع من الموسيقى. يقول سلم، فنان شارع أسود، في جملة حوارية في الفيلم: "البيض يحبون الموسيقى التي نصنعها، لكنهم لا يحبوننا نحن". مثل الرجل الأبيض، يسعى الشر، على طريقته لامتلاك الفن، لكن الفنان كذلك، غير أنه في "الخطاة" سيساومه على نوع ما من الخلود في مقابل الاستسلام للامتلاك، واعيا بالوضع العنصري الأدنى للإنسان الأسود، مستغلا إياه لتحقيق مآربه في الآن نفسه.

© 2025 Warner Bros. Entertainment Inc. All Rights Reserved.
مشهد من الفيلم

يمكن العثور على الفكرة نفسها في كتاب جلال الدين الرومي الشهير، "المثنوي". حين يحكي قصة التاجر الذي أحب الغناء الجميل للببغاء، فابتاعه، وأودعه أسيرا في قفص. يركز الرومي الذي تعامل مع "المثنوي" بوصفه كتاب تعاليم روحية مستلهمة من القرآن الكريم، على أن طلاوة صوت الببغاء، وغناءه الشجي، هما ما أوقعاه في الأسر. ثم يجد الببغاء نفسه مضطرا إلى ادعاء الموت، كي يتخلى عنه التاجر، ويتركه يعود إلى أهله. بادعاء الموت، يضرب الببغاء عمدا ومؤقتا عن الغناء، حين يدرك أنه يجر عليه عليه لا فقط الاختبار الروحي، لكن أيضا بلاء السجن.

هذا ما يحدث في "الخطاة"، لكن بطريقة مختلفة. إذ يتبنى الفيلم سردية أن سامي (مايلس كيتون)، مغني البلوز الفتى الأسمر، هو الذي يدعو القوى الشريرة إلى جماعته من دون قصد، حين يظل يغني: Somebody takes me "فليأت أحد ويأخذني". ويعد صوت سامي الجميل، وفقا لمعتقد الأسلاف الذي ينهض عليه الفيلم، أرض المعركة التي سيدور عليها صراع الخير والشر. وبسبب جمال صوته، سيكون عليه أن يختار إما أن يضرب عن الغناء، تفاديا لاحتمال الشر (أي كقصة الببغاء في كتاب الرومي)، أو أن يستمر معارضا في ذلك سلطة الأب في الكنيسة، باحثا له عن طريق ثالث.

في الواقع، يفتتح الفيلم بهذا السؤال: ها هو سامي نجا مما لم نعرفه بعد، وسنكتشفه بالتدريج، لكن ماذا سيختار في المستقبل؟ كيف سيرد على اختبار الظلام؟ علما بأن اللقطات السريعة التي يتذكرها من هول ما رآه ليلة أمس في زمن الفيلم، تبقى مرعبة بالنسبة إلينا وهي استباقية كذلك، بما أننا لم نختبر معه بعد هذه الليلة.

تقاليد المشاهدة

من هنا أيضا، يمكن النظر إلى توليف "الخطاة" أو مونتاجه، بوصفه عنصر نجاح أساسيا في الفيلم. جنبا إلى جنب الموسيقى، التي هي خلاصة الجمال التي يتصارع على امتلاكها فريقان.

يمكن النظر إلى توليف "الخطاة" أو مونتاجه، بوصفه عنصر نجاح أساسيا في الفيلم. جنبا إلى جنب الموسيقى، التي هي خلاصة الجمال التي يتصارع على امتلاكها فريقان

أوركسترا من عازفين عديدين وبارعين، كانت وراء عزف ثيمات الموسيقى الحلوة للفيلم. ليس هذا فقط، ثمة جمالية ما في الحساسية السمعية التي تكتنف الشريط السينمائي كله. على سبيل المثل، نرى قصص تعذيب السود، أقرباء أو معارف أو أصدقاء أبطال الفيلم من خلال الحكي الصوتي لا المرئي. بينما تركز الصورة نفسها على الحاضر، حيث يسعى الشقيقان التوأم سموك وستاك (يؤديهما ممثل واحد هو مايكل ب. جوردان) إلى إنشاء حانة للسود، يستثمران فيها مدخراتهما بعد سنوات من العمل الشاق الذي كاد يودي بهما، ومن ناحية أخرى يؤسسان بها سلطة بديلة، تساوي نفسها بسلطة البيض، وتثبت هيمنتها الذكورية أساسا، ولو على الذكور السود الآخرين غير المطيعين. لكن طبعا من غير أن تفقد رحمتها تماما.

© 2025 Warner Bros. Entertainment Inc. All Rights Reserved.
وونمي موساكو في فيلم "الخطاة"

تتقدم شخصيات النساء هنا في ثلاثة نماذج أساسية. نموذج الأنثى العارفة، المعطاءة، التي تملك معرفة باطنية تؤهلها لكشف الشر وإن أخفقت في إيقافه، أي نموذج الساحرة. وتتجسد في شخصية آني (تؤديها وونمي موساكو). وثمة الشخصية الغاضبة، المرأة المهجورة لكن أيضا المغوية وهي التي ستجر الشر إلى الأخوين وهي ماري (هايلي ستينفليد). ثم المرأة الآسيوية العاملة الذكية والمقاتلة التي تحرض فريق السود على المواجهة الخاسرة سلفا مع مصاصي الدماء، لأن الموت ينبغي أن يقابل ببسالة، شخصية ليزا (هيلينا هو).

© 2025 Warner Bros. Entertainment Inc. All Rights Reserved.
مشهد من الفيلم

ومع ذلك، فعلى طريقة سينما هوليوود لا تبدو شخصيات النساء على قدم المساواة مع الرجال الذكور، وحتى مشهد ممارسة الحب بين آني وسموك رغم حسيته، هو تقريبا مشهد ممارسة الحب بين نابوليون وجوزفين في فيلم ريدلي سكوت المعروض العام قبل الماضي. في هذا الجانب لا يقدم "الخطاة" جديدا. 

كأن الفيلم يقول إن سلاما حقيقيا لا يمكن أن يحدث بين قطبين، وإن تعمدت نهاية الفيلم خلخلة هذا التطرف

في العودة إلى الشقيقين التوأم، فهذه الثيمة في ذاتها هي بلا شك عنصر جذب جماهيري. أن نذهب إلى السينما، كي نراقب المشاهد التي يظهر فيها الشقيقان في كادر واحد، وأن نحاول التنبؤ بالطريقة التي حدث فيها تقسيم الشاشة بينهما. إلى هذا، يتألق فريق التمثيل بدءا من فريق الطيبين من السود طبعا، وصولا حتى إلى فريق الأشرار، وفي مقدمهم: ريميك ( الشاب الأبيض) الأيرلندي الأصل، مصاص الدماء الذي يعرف كيف يغوي ضحاياه، مرة بالغناء ومرة بالذهب.

بين الحب والغضب

يلعب الفيلم بصفته فيلما دراميا وفيلم رعب كذلك بشدة على هذه النظرة القطبية للعالم بين حب وكراهية. بين أبيض وأسود. ويبدو في هذه النظرة القطبية مخلصا كذلك إلى الثقافة الشعبية التي ينتمي إليها، لا سيما مع وجود مصاصي الدماء تحديدا، أبرز علامات هذه الثقافة في سينما الرعب.

© 2025 Warner Bros. Entertainment Inc. All Rights Reserved.
مايكل ب. جوردان في فيلم "الخطاة"

وهذا الانقسام الحاد بين طريقين لا ثالث لهما، لا يبرر فقط المشهد الملحمي الكبير في منتصف الفيلم بالضبط: مشهد الأغنية التي يؤديها مايلس كيتون، وفيها انصهار للأزمنة الموسيقية والإنسانية. شيء في تنفيذ الأغنية بهذه الطريقة المجنونة إن جاز التعبير والحرة كذلك، ينبني بقوة على تلك النظرة القطبية للعالم. إنما يبرر أيضا كل العنف والقتل وسفك الدماء الذي سيحدث لاحقا لا سيما في الربع الأخير من الفيلم، وكأنه يقول إن سلاما حقيقيا لا يمكن أن يحدث بين قطبين، وإن تعمدت نهاية الفيلم خلخلة هذا التطرف إلى حد ما.

ربما يكون النموذج الأقرب شبها بفيلم الخطاة هو فيلم "إيميليا بيريز"، لجاك أوديار. خصوصا للبطولة السينمائية للأغنية وللموسيقى والرقص ولمحاولة تأسيس عالم، بشبابيك وأيضا بقيود مغايرة عن عالمنا الحقيقي. ولئن كان "بيريز" يتفوق في الفنية وفي الطموح إلى الحرية وحتى في أنثويته، فإن "الخطاة" بملحميته الشعبية، يبقى أكثر التصاقا بالواقع المؤسف، حتى وهو يناقضه، ويكذبه وينتصر عليه في الخيال فقط. 

font change