هدى فخر الدين لـ"المجلة": أتنفس عندما أكتب بالعربية

الترجمة إلى الإنكليزية في هذه اللحظة عمل عقيم

هدى فخر الدين

هدى فخر الدين لـ"المجلة": أتنفس عندما أكتب بالعربية

تنتمي الشاعرة والمترجمة والأكاديمية هدى فخر الدين إلى الوجوه النقدية التي برزت في السنوات الأخيرة في المشهد الثقافي العربي وذلك من خلال دراساتها حول الشعر العربي القديم والحديث، بحيث تعمل صاحبة "ومن ثم العالم" (2025) على تأصيل فعل الكتابة لا بجعلها تنخرط في أساليب الكتابة الغربية ومفاهيمها، بقدر ما تسعى جاهدة إلى تملك التراث العربي ومحاولة تطويع نظرياته ومفاهيمه وسياقاته داخل كتابة مركبة تقترب في تجلياتها من الفكر. فحين تكتب فخر الدين الشعر، تحول اللغة إلى أداة للتعبير عن ذاتها ووسيلة لإدانة الواقع وتحولاته.

تقدم أستاذة الأدب العربي بجامعة بنسلفانيا، وهي تنقب في التراث الشعري العربي وتعمل على ترجمة التجارب الشعرية العربية إلى اللغة الإنكليزية، تجربتها الأكاديمية بوصفها شكلا من أشكال المقاومة الثقافية ضد كل سلطة أجناسية يحاول المهتمون بها طمس التراث الشعري العربي الكبير بجعل الرواية لسان حال المرحلة.

لمناسبة صدور عملها الشعري "ومن ثم العالم" كان لـ"المجلة" هذا الحوار مع الشاعرة والناقدة هدى فخر الدين.

بداية، ما الذي تقولينه لنا عن مجموعتك الشعرية الجديدة "ومن ثم العالم" وما الذي جعلك تلتحمين بالشعر وليس القصة أو الرواية مثلا؟

هذه مجموعات نصوص كتبتها بين صيف 2021 وشتاء 2024. وهي طمح إلى أن تكون شعرا كما أحب أن أقول عادة. فيها شيء من السرد وشيء من اليوميات أو المذكرات، ولكن ما أسعى إليه هو الحدث اللغوي الذي يتجاوز الأحداث التي أسردها أو الذكريات التي أستعيدها أو الشخصيات الحقيقية والخيالية التي أقدمها. ولذا لا أتوقف كثيرا عند هذه التحديدات وأدعي، بيني وبين نفسي، أنني حين أكتب أسعى إلى الشعر بمعناه المطلق وهو حين تكون اللغة بحد ذاتها حدثا وذاتا مفكرة وليست مجرد أداة أو وعاء لأفكار منفصلة عنها أو سابقة عليها. وطبعا في هذا مجازفة. قد أصيب وقد أخفق، ولكني أطمئن إلى هذا السعي، إلى هذا التوق باللغة نحو ما هو أبعد من الموضوع أو الفكرة.

لسان مزدوج

تكتبين باللغتين الإنكليزية والعربية، بما يجعل لسانك مزدوجا من الناحية الثقافية. ألا تشعرين بنوع من الاغتراب وأنت تعبرين من لغة إلى أخرى؟

الكتابة الشعرية أو تلك التي تطمع بأن تكون شعرا، نوع من الاغتراب بحد ذاتها، حتى داخل اللغة الواحدة. الشعر هو اللغة وكأنها تكتشف نفسها للمرة الأولى. وكما يقول أبو تمام هي اغتراب وبحث دائم عن التجدد، "فاغترب تتجدّد".

عندما أكتب بالعربية، أحاول أن أعود إلى هذه الفتنة الأولى التي ترتبط في تجربتي بما نشأت على سماعه من الشعر الجاهلي والعباسي

أكتب المقالات والأبحاث بالإنكليزية وحتى الآن لا أمل عندي في الوقوع على الشعر أو الإمساك بشيء منه إلا حين أكتب بالعربية. فعندما أكتب بالعربية، أتنفس. لا أفكر بالضرورة في جمهور أو في قارئ معين. ربما أفكر في أول لقاء لي مع اللغة، اللغة كصوت، كنوع من السحر. عندما أكتب بالعربية، أحاول أن أعود إلى هذه الفتنة الأولى التي ترتبط في تجربتي بما نشأت على سماعه من الشعر الجاهلي والعباسي والقرآن الكريم. وقد صار هذا الفضاء مرتبطا ارتباطا وثيقا بإحساسي بنفسي، بما أظن أنني عليه أو أود أن أكونه.

غلاف "الميتاشعريّة في التراث العربي"

عندما أكتب بالإنكليزية، تتسارع أنفاسي. أكون في حالة تأهب أو مواجهة. ففي ذهني، قارئ أو متلق "آخر"، ليس مكترثا بما فيه الكفاية وقد يكون عدائيا في بعض الأحيان. حين أكتب بالإنكليزية أشعر بأن علي أن أثبت شيئا، أو أن أقلب شيئا رأسا على عقب. أريد لجملتي الإنكليزية أن تنتهي بضربة ما، أريدها أن تصوب شيئا أو تستعيد شيئا أو تكشف عن شيء.  لهذا السبب، في الإنكليزية أكون متأهبة وفي حالة مواجهة دائمة.  

من الشعر إلى النقد

إلى جانب الشعر تكتبين النقد وتجعلينه في خدمة الممارسات الشعرية العربية. إلى أي حد استطاعت التجارب الشعرية العربية أن تجترح لها أفقا شعريا عربيا، بعيدا من نماذج الحداثة الشعرية التي ظهرت في لبنان وسوريا والعراق وغيرها؟

حركة الحداثة العربية في القرن العشرين كغيرها من حركات الثورة والتجديد، تبدأ كمشروع رافض للمؤسسات التي سبقت، ولكن سرعان ما تتحول إلى مؤسسة بحد ذاتها، لها مركز تسلط عليه الأضواء وأطراف أو هوامش تغفل. ولهذا السبب تظل المقاربة الأكاديمية أو المدرسية كما المقاربة الصحافية والإعلامية مقصرة في تتبع هوامش الحركة التي أحيانا تظل أكثر وفاء للطاقة التجريبية الثورية من المركز. وهذا حالنا في دراسة الحداثة العربية.

غالبا ما نتغافل عن بدايات الحداثة في المغرب العربي والخليج العربي وفي اليمن ونظل مقصرين في تتبع تجلياتها

غالبا ما نتغافل عن بداياتها في المغرب والخليج العربي وفي اليمن وإلى مساهمات المهجر منذ بدايات القرن العشرين وحتى يومنا هذا، ونظل مقصرين في تتبع تجلياتها خارج لبنان وسوريا والعراق ومصر.

صورة الأدب العربي

باعتبارك أستاذة للأدب العربي في جامعة بنسلفانيا. ما نظرة المجتمع الثقافي الغربي للأدب العربي المعاصر اليوم؟ وما أهم النماذج الأدبية العربية التي تقرأ وتباع وتحظى باهتمام الغرب؟

المجتمع الثقافي الغربي امتداد للأنظمة السياسية الغربية، ولذلك فإن الاهتمام بالأدب العربي كان ولا يزال امتدادا للمصالح الغربية وانعكاسا للنظرة الاستشراقية إلى آدابنا وثقافاتنا. وغالبا ما يكون تلقي الأدب العربي في اللغات الغربية قاصرا، فيه تسطيح وتحوير واختزال. الفلسطيني شيء واحد، وفق هذا المنطق، وكذلك اللبناني والعراقي والسوري... وهكذا. وهذا هو التنميط الذي يتعامل من خلاله المهيمن القوي مع الضعيف المهمش في كل المجالات.

هدى فخر الدين

في الفسحة الضيقة المتاحة لنا في المشهد الثقافي الغربي ومؤسساته، تصعب علينا قراءة تراثنا الأدبي قراءة نقدية مخلصة لجوانبه الفنية والجمالية، وذلك لأننا مستنزفون ومنهمكون في سعينا إلى إثبات وجودنا أصلا. فتصير دراسة أدبنا انشغالا جانبيا على هامش المقاربات الغربية الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والتاريخية القاصرة عن النقد الأدبي الحقيقي لأنها تسطح الأدب وتتعامل معه كوثيقة أو مصدر للمعلومات. وأثر هذا مؤذ وخطر ولا سيما في مجال دراسة الشعر. لهذا السبب نشهد الإقبال المبالغ فيه على الرواية العربية والمذكرات وغيرها من الأشكال النثرية التي تسهل ترجمتها كما يسهل تسطيحها واستهلاكها.

المقاربات الغربية الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والتاريخية قاصرة عن النقد الأدبي الحقيقي لأنها تسطح الأدب وتتعامل معه كوثيقة أو مصدر للمعلومات

رغم المكانة المعرفية التي يتنزلها الشعر العربي الحديث منه والمعاصر، ثمة نزوع كبير اليوم صوب التجريب الروائي. إلى أي حد في نظرك يؤثر هذا الاهتمام المبالغ فيه بالرواية وصناعتها على حساب الشعر العربي الذي يتراجع يوما بعد يوم في المشهد الثقافي العربي؟

نعم، وقد ذكرت بعض أسباب هذا التراجع في ما سبق. ولكن تجدر الإشارة إلى أن تجربة الرواية العربية لم تقيم نقديا بعد. وفي الكثير من الكتابات الروائية العربية استجابة لرغبة القارئ الأجنبي في اكتشافنا واستهلاك قصصنا في إطار أفكاره المسبقة والنمطية عن ثقافتنا، وهذا بأقل جهد ممكن.

هدى فخر الدين

لذلك نجد أن معظم الروائيين والروائيات العرب يتخيلون أن الفكرة المثيرة تكفي لبناء رواية، فيستخفون باللغة لا بل يتعمدون التهاون بها أحيانا سعيا إلى المباشرة والسهولة والانتشار الأوسع.  

الترجمة وصناعة المعنى

إلى جانب أعمالك الشعرية ومؤلفاتك النقدية، ترجمت العديد من الشعراء العرب إلى الإنكليزية. كيف تفهمين دور المترجم؟

الترجمة في أصلها قراءة نقدية متمعنة، وهي إن تصالحت مع ما يترتب على الرحلة بين اللغتين من خسائر، إلا أن عليها أن تسعى إلى الإضاءة على جانب من جوانب النص واستعادة أثره في اللغة الثانية. وترجمة الشعر بالتحديد، عليها أن تسعى إلى ما هو أبعد من الموضوع، عليها أن تطمح إلى تحقيق الشعر في المستوى اللغوي أو البلاغي أو الصوتي وإلى تقديم نص شعري في اللغة الثانية.

لم الإصرار على الحوار مع آخر يفتعل الاهتمام السطحي بنا في المستوى الثقافي بينما يدعم محونا

هذا هو طموح الترجمة على الأقل، قد لا يتحقق دوما، ولكن السعي إليه يفيد الترجمة ويسوغها كنص قادر على الوقوف وحده بدون الحاجة إلى التعكز على الأصل.

هل يمكن أن نعتبر الترجمة شكلا من أشكال المثاقفة التلقائية التي تتم بين الشعوب والحضارات؟

الترجمة في جوهرها حوار مثمر بين عوالم لغوية تحلم بأن يكون بعضها بعضا، يتحدث بعضها مع بعض على قدم المساواة. هذا هو حلم الترجمة المثالي. لكن، للأسف، نحن بعيدون عنه كل البعد في ترجماتنا إلى اللغات المهيمنة، وبالأخص إلى الإنكليزية. نحن نترجم في الفراغ. نقدم أنفسنا لآخر معاد، متعجرف، لا يقابلنا إلا باختزالات متعالية، في أحسن الأحوال.

هدى فخر الدين

وفي هذه اللحظة التي نشهد فيها على الإبادة الجماعية في غزة، وهي إبادة تستهدفنا جميعا، تستهدف لغتنا وذاكرتنا الثقافية وأحلامنا، وشعورنا بذواتنا، في هذه اللحظة، ما عدت متأكدة من جدوى الإصرار على التحاور مع الآخر في الإنكليزية.

أشعر بأن الترجمة إلى الإنكليزية في هذه اللحظة عمل عقيم. لم الإصرار على الحوار مع آخر يفتعل الاهتمام السطحي بنا في المستوى الثقافي بينما يدعم محونا وإبادتنا بقوة السلاح والسياسات المتواطئة؟ إذا كنا سنترجم أدبنا بعد هذا، فلنترجم بلا مهادنة، فلتكن الترجمة اقتحاما للغة الآخر، لنخلق مساحة لأدبنا بالقوة، محافظين على شيء من الكرامة والتمسك بجماليات لغتنا وذاكرتها الغنية الحية دون تشويه أو تحجيم أو اختزال.

font change

مقالات ذات صلة