ما الذي يعنيه انسحاب "فاغنر" من مالي؟

الجغرافيا السياسية تدفع الكرملين إلى تبني مراجعات تكتيكية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
جنود ماليون يقفون بجانب مبنى مدمر في غاو، بعد تفجير سيارة مفخخة ليلا في 13 نوفمبر 2018

ما الذي يعنيه انسحاب "فاغنر" من مالي؟

ثمة تطورات دراماتيكية اكتنفت المشهد المالي خلال الأيام الماضية، على خلفية إعلان مجموعة "فاغنر" العسكرية الروسية الخاصة أنها "ستغادر مالي بعد قتالها في المنطقة لمدة 3 سنوات ونصف السنة وإكمالها مهمتها في هذا البلد الأفريقي"، والجزء المهم في هذه التطورات هو إعلان "الفيلق الروسي" بقاءه في المنطقة.

ويصطدم قرار انسحاب "فاغنر" بمبرر نهاية المهمة بأسئلة جوهرية تبحث عن إجابات منطقية: السؤال الأول، يتعلق بالخلفيات التي تقف وراء ذلك وانعكاساته على السلطات العسكرية الانتقالية في باماكو وعلى المنطقة بأكملها، لا سيما وأن القرار تزامن مع تصاعد الهجمات بين قوات الجيش والجماعات المسلحة في مالي ويمكن الإشارة هنا إلى التصعيد بين الجيش المالي وجماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" التي قالت منذ أسبوع تقريبا إنها استخدمت طائرات مسيرة في هجومها مكّنتها من الاستيلاء على معدات عسكرية متعددة الأغراض تابعة للجيش المالي.

ويتعلق السؤال الثاني بطبيعة الوجود الروسي في المنطقة، خاصة وأنه يجري حديث عن تعويض "فاغنر" بـ"فيلق أفريقيا"، وهل يتوافق هذا الوجود مع المقاربة الجزائرية التي تدعو إلى المحافظة على التماسك المجتمعي من خلال الحوار والثقة المتبادلة؟ وهو الموقف الجزائري المتجدد الرافض للتدخل الأجنبي في إنهاء الصراعات والنزاعات في الدول الأفريقية، وتم تأكيده مرارا وتكرارا في مالي وليبيا في أكثر من مناسبة. وفي الأخير يحضر سؤال ملح ثالث حول طبيعة النقاشات والمخرجات المحتملة بين روسيا والجزائر بشأن التطورات في الساحل وعما إذا كانت هذه المرحلة تشكل "فرصة جديدة" لتطبيق اتفاق السلم والمصالحة المنبثق عن مسار الجزائر.

خلفيات

في الحديث عن الخلفيات التي تقف وراء قرار انسحاب مجموعة "فاغنر" الأمنية من مالي يحضر الكثير من الأسباب من بينها: الضغوط الجزائرية المباشرة وهنا يمكن تسليط الضوء على تطورين مهمين يتعلق الأول بتوثيق التعاون العسكري مع أميركا بإبرام مذكرة تعاون وقع عليها في العاصمة الجزائرية الجنرال مايكل لانغلي والوزير المنتدب للدفاع الوطني في الجزائر قائد أركان الجيش الجنرال سعيد شنقريحة، في يناير/كانون الثاني 2025.

الوضع الميداني والضربات الموجعة التي تلقتها ميليشيا "فاغنر" الروسية وتشتيت جهودها تعتبر أيضا أحد أسباب سحب مجموعة "فاغنر" العسكرية الخاصة في مالي

والتطور الثاني مرتبط بالتحرك الجزائري باتجاه موسكو لإيصال رسالة تعبر فيها عن رفضها القاطع لوجود قوات "فاغنر"، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف بوضوح في مؤتمر صحافي انعقد في يناير الماضي حيث قال: "أخطرنا أصدقاءنا الروس بأننا كجزائريين لن نسمح ولن نقبل بأن تعامل حركات سياسية (في إشارة منه إلى حركات الأزواد في شمال مالي، وكانت من بين الأطراف الذين وقعوا على اتفاق الجزائر للسلم في مالي) وكأنها جماعات إرهابية، كذلك عرضنا عليهم تجربة الجزائر الرائدة في معالجة الملفات في منطقة الساحل الأفريقي، وأن العمليات العسكرية وحدها لن تؤدي إلى سلام دائم".

أ.ب
صورة غير مؤرخة، وزعها الجيش الفرنسي، تظهر مرتزقة روس يستقلون طائرة هليكوبتر في شمال مالي

الوضع الميداني والضربات الموجعة التي تلقتها ميليشيا "فاغنر" الروسية وتشتيت جهودها تعتبر أيضا أحد أسباب سحب مجموعة "فاغنر" العسكرية الخاصة في مالي، ويقول في هذا المضمار الخبير الأمني أكرم خريف لـ"المجلة" إن "فاغنر" وجدت صعوبة كبيرة في التعامل مع التلال والجبال الوعرة في مالي، "حيث أظهرت فشلها في مواجهة السكان المحليين الذين يدركون جيدا طبيعة المنطقة وتضاريسها الوعرة وهذا ما مكنهم من إلحاق هزائم كبيرة بمرتزقة (فاغنر) الروسية ويمكن الاستدلال بمعركة يوليو/تموز 2024، فضلا عن تحالف سكان الطوارق في شمال مالي للتصدي للانتهاكات والعنف الذي تعرضوا له من طرف هذه الجيوش الخاصة". وسبق وأن دعت الجزائر إلى تحرك دولي لمتابعة الجيوش الخاصة في إشارة إلى (قوات فاغنر الروسية)، ففي 27 أغسطس/آب الماضي طالب سفير الجزائر لدى الأمم المتحدة، عمار بن جامع، خلال جلسة في مجلس الأمن الدولي بـ"محاسبة الأطراف التي استخدمت طائرات مسيرة في قصف قرى مالية قرب الحدود"، قائلا إن "من ضغطوا على الزر.. لا يخضعون للمساءلة أمام أي طرف".

الجغرافيا السياسية دفعت الكرملين إلى تبني مراجعات تكتيكية تقوم على استبدال "فاغنر" التي هي أساسا شركة خاصة بـ"الفيلق الأفريقي" والملقب أيضا باسم "فيلق المشاة الروسي"

وشهدت الجزائر في الأشهر الأخيرة حركة دبلوماسية لافتة، إذ عرفت زيارات متعاقبة لعدد من المسؤولين العسكريين والسياسيين الروس مثل الزيارة التي قام بها يوري فاليائيف، نائب رئيس لجنة الدفاع والأمن الروسية ورئيس مجموعة الصداقة البرلمانية الجزائرية–الروسية الذي كان مرفوقا بوفد رفيع المستوى واستقبل من طرف اللواء محمد صالح بن بيشة، الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024 استقبل رئيس أركان الجيش الجزائري، الفريق السعيد شنقريحة، نائب وزير الدفاع الروسي، الفريق ألكسندر فومين، أعقبها لقاء جمع وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على هامش مجلس وزراء خارجية دول مجموعة العشرين في جوهانسبرغ، وخلال اللقاء تم التأكيد على "التنسيق الوثيق في السياسة الخارجية من أجل تسوية سريعة للصراعات حصريا بالطرق السياسية والدبلوماسية القائمة على مبادئ القانون الدولي المتعارف عليها". وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي حل نائب وزير الخارجية والممثل الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط وأفريقيا ميخائيل بوغدانوف بالجزائر، وجاءت الزيارة تزامنا مع بروز مؤشرات توحي بوجود توتر غير معلن بين موسكو والجزائر على خلفية وجود قوات "فاغنر" الروسية ونشاطها في مالي.

ما مصير النفوذ الروسي في الساحل الأفريقي؟

المؤكد اليوم أن الجغرافيا السياسية دفعت الكرملين إلى تبني مراجعات تكتيكية تقوم على استبدال "فاغنر" التي هي أساسا شركة خاصة بـ"الفيلق الأفريقي" والملقب أيضا باسم "فيلق المشاة الروسي"، والذي أنشئ من طرف وزارة الدفاع الروسية ويتولى إدارته نائب وزير الدفاع، يونس باكياف غاروف، ومقارنة بـ"فاغنر"، ترتكز مهامه على تقديم الدعم العسكري والتدريب والتعاون في مكافحة التمرد مع الحكومات المحلية الموالية لروسيا في بلدان مثل ليبيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى.

كشفت تقارير إعلامية، عن التوجه نحو إعادة دمج معظم أفراد "فاغنر" في تشكيل شبه عسكري حكومي والإبقاء عليهم في الشمال وبالتحديد في منطقة كيدال على الحدود مع الجزائر

ويحمل هذا التغيير مؤشرات تبرز بوضوح رغبة موسكو في انتهاج سياسة جديدة في الساحل الأفريقي، ويقول في هذا السياق الخبير الأمني أكرم خريف إن "رحيل (فاغنر) أمر إيجابي لأن الميليشيا لم تكن مؤطرة وكانت تخضع لأوامر باماكو وأغلب تلك الأوامر تنص على أن أغلبية سكان الشمال يجب التعامل معهم على أساس أنهم إرهابيون"، لكن هذا التغيير في تقديره لا يعني إطلاقا إنهاء الحلول العسكرية للمسائل السياسية، ويوضح المتحدث قائلا: "لا أظن أن الفيلق الأفريقي ستقتصر مهامه على الاستشارة فقط بل سيتدخل في الميدان لمحاربة الإرهاب وهذا يتنافى تماما مع ما تريده الجزائر".

أ.ف.ب
متظاهر يحمل لافتة كُتب عليها "الجزائر = إرهاب" خلال مظاهرة أمام السفارة الجزائرية في باماكو، 8 أبريل 2025

وكشفت تقارير إعلامية، نقلا عن مصدر دبلوماسي، عن التوجه نحو إعادة دمج معظم أفراد "فاغنر" في تشكيل شبه عسكري حكومي والإبقاء عليهم في الشمال وبالتحديد في منطقة كيدال على الحدود مع الجزائر وهي المنطقة الأقل تطورا في مالي وهو ما يوحي بتوجه السلطات العسكرية الانتقالية نحو إعطاء طابع مؤسس لطغيانها في هذا البلد، واتضح هذا التوجه في تصريحات أدلى بها مصدر عسكري مالي لوكالة "فرانس برس"، إذ أكد "استمرار التعاون العسكري مع روسيا سواء مع (فاغنر) أو غيرها" وأن "موسكو ستبقى شريكا استراتيجيا لباماكو في مجال التعاون العسكري".

الرأي نفسه استقرت عليه "جبهة تحرير أزواد" التي رفضت "تبرير كل تحول استراتيجي على أنه قرار سيادي"، ووصفت الإعلان بأنه "مسرحية إعلامية وتغيير في الشكل لا في المضمون، وهو مجرد استبدال ذراع إرهابية مسلحة بأخرى والانتقال من (فاغنر) إلى (فيلق أفريقيا)". وفي تقدير قادة التنظيم الذين اندمجوا بشكل كامل في حركة موحدة تتولى تمثيل شعب شمال مالي والدفاع عن مصالحه منذ عام تقريبا "لا يمثل هذا الانسحاب قطيعة، بل هو تمسك بنفس النهج الوحشي المبتذل لنموذج قائم على القمع، والانتهاك المنهجي لحقوق الإنسان، واحتقار السكان المحليين"، لافتين إلى أنها ممارسات "موثقة ومدانة على نطاق واسع"، كما أن الخطوة السالفة الذكر "لا تعبر إطلاقا عن أي منعطف سياسي أو عسكري، بقدر ما "تعري المأزق الذي وصلت إليه الطغمة العسكرية الحاكمة العاجزة داخليا والمهانة دوليا، والتي لم تستطع توفير الأمن، ولا تملك أدنى تصور تنموي يخدم الشعوب التي تدعي تمثيلها".

font change