العدالة الانتقائية... مخاطرة لا تتحملها سوريا

العدالة الانتقائية... مخاطرة لا تتحملها سوريا

استمع إلى المقال دقيقة

كان الهدف من البيان الصحافي، الذي أصدره الأسبوع الماضي عضو لجنة السلم الأهلي، حسن صوفان، هو تهدئة الغضب الشعبي الذي أثاره إطلاق سراح عدد من رموز النظام السابق المتهمين بارتكاب جرائم حرب. تلقى السوريون البيان في البداية بتفاؤل حذر، واعتبره كثيرون بادرة أولى من بوادر الشفافية التي طال انتظارها، ومؤشرا على أن الحكومة الانتقالية قد تستجيب أخيرا لمطالبهم بتوضيح موقفها الغامض من العدالة والمحاسبة.

غير أن هذا التفاؤل سرعان ما تبدد. فبدلا من أن تسهم تصريحات صوفان في تهدئة التوترات، أشعلت غضبا شعبيا وأكدت المخاوف القائمة. ورأى كثيرون أن دفاعه عن قرار إطلاق سراح مسؤولين من النظام السابق دون محاكمة أو تفسير أو مراجعة قانونية، يعكس تضحية بالعدالة لصالح اعتبارات سياسية. ومع تآكل الثقة في الإجراءات الرسمية، يتزايد خطر لجوء المواطنين إلى القصاص الفردي الانتقامي، وهو مسار لا يهدد السلم الأهلي فحسب، بل يقوّض أيضا فرص تحقيق انتقال قانوني موثوق.

هل السلام الأهلي أهم من العدالة؟

في المؤتمر الصحافي الذي عقده حسن صوفان في وزارة الإعلام بدمشق، أوضح موقف اللجنة، مشددا على أن السلم الأهلي ينبغي أن يكون حجر الزاوية للاستقرار الوطني. وحذّر من أن العدالة الانتقالية لا ينبغي أن تتحول إلى حملة ملاحقات قضائية شاملة، بل يجب أن تركز على محاسبة "العقول المدبرة وكبار المجرمين"، أي المسؤولين المباشرين عن الجرائم الجسيمة، وليس كل من انتمى إلى النظام السابق.

لا ريب في أن هذا التصور ينسجم من حيث المبدأ مع المعايير الدولية في مجال العدالة الانتقالية، غير أن الإجراءات الحكومية ودفاع صوفان عنها قوّضا هذا الإطار عمليا.

وقد جاء إطلاق سراح شخصيات مثل فادي صقر، القائد السابق لـ"قوات الدفاع الوطني" والمتهم على نطاق واسع بقيادة حملات قمع عنيفة، تحت ذريعة أنهم "لعبوا دورا إيجابيا" في الحد من إراقة الدماء. لكن هذا التبرير الذي صدر من دون شفافية أو تدقيق قانوني، كشف عن سابقة خطيرة تفيد بإمكانية ضمان ما يُسمى بالسلم الأهلي من خلال العفو عن المتهمين بجرائم جسيمة، ما دام ذلك يخدم أهدافا سياسية.

بدلا من أن يهدئ التوتر، أثار المؤتمر الصحافي عاصفة من ردود الفعل الشعبية الغاضبة. وتحدى الصحافيون الحاضرون صوفان مباشرة، واتهموه بتبييض صفحة مجرمي الحرب عبر تصويرهم كوكلاء للسلام. وشددوا على أن روايته أعادت تدوير نهج الاستبداد: صفقات خلف الكواليس، وتسامح انتقائي، والتخلي عن المحاسبة لصالح مكاسب سياسية آنية.

رفض الدولة معالجة جرائم الماضي على نحو علني وعادل، لا يخمد الاضطرابات، بل يثير ردود فعل خطيرة من القصاص الفردي، الذي قد يخرج عن السيطرة

وسارعت منظمات المجتمع المدني وخبراء في القانون وجماعات حقوق الإنسان بالانضمام إلى موجة الإدانة. وشدد المحامون على أن لجنة السلم الأهلي تجاوزت حدودها: فالمحكمة وحدها، وليس هيئة عينت لأسباب سياسية، هي من تملك سلطة تحديد الإدانة أو البراءة. وحذرت منظمات حقوق الإنسان من أن هذه الإجراءات ترسل رسالة مدمرة، تقول إن المحاسبة مسألة مرنة، والعدالة قابلة للتفاوض، ويمكن المصادقة على الإفلات من العقاب إذا كان ذلك مناسبا للحظة السياسية.

عيوب هيكلية عميقة


وما يثير القلق بالقدر نفسه أيضا، هو المنطق الذي تستند إليه قرارات العفو غير الرسمية، التي منحت لشخصيات مثل فادي صقر. فهذه القرارات المرتجلة تقوض بشدة مصداقية مؤسسات العدالة الناشئة في سوريا. فعندما يشاد بأفراد متورطين على نحو موثق في أعمال عنف جماعي، بدلا من محاكمتهم، ينهار التمييز بين مجرم الحرب وباني السلام. وهذا لا يسيء فقط إلى ذكرى الضحايا، بل يشير أيضا إلى أن العدالة تأتي في المرتبة الثانية بعد المنفعة السياسية.
وهكذا فإن نهج الحكومة الحالي في تحقيق العدالة، بدلا من أن يسهم في تحقيق استقرار البلاد، فإنه يفاقم حالة عدم الاستقرار حدة. فعندما تحمي الحكومة أفرادا متهمين بارتكاب انتهاكات جسيمة، ومن دون إخضاعهم للتحقيق القانوني، فإنها تبعث رسالة خطيرة بأن العدالة مسألة قابلة للتفاوض، وأن الإفلات من العقاب أداة سياسية فعالة. وهذا لا يقوض سيادة القانون فحسب، بل يمهد الطريق لدورات متجددة من العنف.
والتداعيات واضحة بالفعل. فأعمال القصاص الفردي الانتقامية تتزايد، مع تزايد فقدان المجتمعات ثقتها بآليات المحاسبة الرسمية. وقد نشر عدد من المسلحين في دير الزور تسجيلا مصورا يحذرون فيه من أنهم سيأخذون حقوقهم بأيديهم إذا لم يحاكم الموالون السابقون للنظام. 
وفي حريتان، وهي بلدة شمال حلب، ذكرت التقارير أن السكان أصدروا إنذارا نهائيا يمهل العائلات الموالية للأسد مدة 24 ساعة، كي تغادر البلدة، وإلا ستواجه العقاب. وتفيد مصادر محلية، بأن هذه الإجراءات تنبع من تزايد الإحباط من تعامل الحكومة الانتقائي وغير الشفاف مع العدالة.
 والأكثر إثارة للقلق هو تزايد عمليات القتل خارج نطاق القضاء. ففي درعا وحمص وحدهما، اغتيل أكثر من اثني عشر شخصية من النظام السابق خلال الأسبوع الماضي. ولا شك في أن رفض الدولة معالجة جرائم الماضي على نحو علني وعادل، لا يخمد الاضطرابات، بل يثير ردود فعل خطيرة من القصاص الفردي، الذي قد يخرج عن نطاق السيطرة.

العدالة ليست تهديدا للسلام. إنما هي الطريق إليه. وأي تسوية سياسية لا تضع الحقيقة والعدالة وكرامة الضحايا في صميمها ليست حلا، بل هي تأجيل للأزمة القادمة

وما يبدو أن اللجنة، والسلطات الأوسع، تقلل من شأنه هو أن ما قد توفره هذه السلطات من هدوء مؤقت، عندما تعطي الأولوية لتحقيق مكاسب سياسية سريعة بتعاونها مع الجناة المعروفين، يهدد هو نفسه بإثارة حالة من عدم الاستقرار أشد وطأة. وكما تظهر الأحداث الأخيرة، يؤجج هذا النهج فعلا تصاعدا خطيرا في جرائم القصاص الفردي والانتقام. ولن يصمد السلام المبني على صدمات لم تعالج، وجرائم مرت بلا عقاب.
ليست سوريا أول دولة تخرج من صراع مسلح وحشي. فقد أعرب الرئيس المؤقت الشرع عن رغبته الشديدة في تجنب الأنظمة القائمة على المحاصصة الطائفية كما هو الحال في لبنان والعراق. ومع أن هذا القلق مبرر، فإنه ليس سوى درس واحد من دروس كثيرة يمكن استخلاصها من هذين البلدين. فقد سعى كل من لبنان والعراق إلى تحقيق الاستقرار عبر إبرام اتفاقات نخبوية مع أمراء الحرب والمقاتلين السابقين. وفي كلتا الحالتين، تمأسس الإفلات من العقاب، وهمشت العدالة، وظل الاستقرار السياسي طويل الأمد أمرا بعيد المنال.
ينبغي على الحكومة الانتقالية أن تسلك مسارا مختلفا. فلا يمكن إعادة بناء سوريا بإعادة استيعاب مهندسي العنف السابق في مواقع السلطة. فهذا لا يسيء إلى كرامة الضحايا وذكراهم فحسب، بل يقوض أسس الدولة الجديدة.
العدالة ليست تهديدا للسلام. إنما هي الطريق إليه. وأي تسوية سياسية لا تضع الحقيقة والعدالة وكرامة الضحايا في صميمها ليست حلا، بل هي تأجيل للأزمة القادمة... تستحق سوريا ما هو أفضل من الصفقات الغامضة وأكثر من أمراء الحرب المعاد تدويرهم. تستحق مستقبلا يرتكز على القانون والمحاسبة، وأصوات من عانوا المعاناة الأسوأ.
المعادلة بسيطة: لا سلام حقيقيا، ولا طريق للتعافي، ولا مصالحة وطنية من دون عدالة.

font change