كاترين بوديه في بلاد الحمم الزرقاء

قصائد كتابها الجديد تولد وتتغذى من جرح مفتوح

AlMajalla
AlMajalla

كاترين بوديه في بلاد الحمم الزرقاء

"الشعر الحقيقي يقذف بكم مثل نفث بركان"، قالت يوما الشاعرة كاترين بوديه لأحد النقاد. قول يشكل خير تعريف بشعر هذه المرأة التي ولدت ونشأت في جزيرة لا ريونيون، وتقيم منذ عام 2009 في جزيرة موريشيوس. شعر يهدر مثل بركان حي، ويقذف بكلماته على شكل حمم زرقاء، حارقة بقدر ما هي منيرة.

لا عجب إذن في عنوان كتاب بوديه الجديد، "خطاطة الحمم الزرقاء"، الذي صدر حديثا في بروكسيل عن دار "إديرن"، ويمنحنا، بتضمنه دواوينها الثلاثة الأخيرة، فرصة قراءة مكثفة من شعرها الفريد الذي يقع في 15 ديوانا، وتمتد جغرافيته "من أعماق الألم إلى قمم الجمال"، ومن الجزيرة التي ولدت فيها إلى تلك التي تقيم حاليا فيها، والاثنتان حاضنتان لتنوع كبير من الشعوب واللغات والأديان والثقافات. أما "الحمم الزرقاء" في عنوان الكتاب، فترمز إلى تلك الوحدة بين مياه المحيط الهندي وأرض هاتين الجزيرتين البركانيتين اللتين تقعان فيه. وحدة تطور بوديه في بوتقتها شعرية كونية تستمد سطوتها من وقع خطابها، شكلا ومضمونا، ومن انعدام أي مرجع آخر لها سوى نفسها، وإن تغذت بطريقة فريدة، حاذقة، من المذاهب الروحية الكبرى والثقافات الحاضرة في هذه المنطقة.

تهجين وتفاعل

تجدر الإشارة بداية إلى أن بوديه تسعى في مشروعها الكتابي إلى التمايز عن موضوعي التهجين والتفاعل الثقافي اللذين بات كل منهما كليشيها يُنظر من خلاله إلى سكان جزر المحيط الهندي، بغية اقتراح وصف جديد للعيش المشترك الفريد في هذه الجزر، وتشجيع انبثاق شعر يقول هذه التجربة من داخلها. وضمن هذا السعي، تتحرر في كتابتها من الإكراهات الشكلية بفضل لغة حميمة تشكل، بتجاوزها أي شكل من أشكال التصنيف، خير ركيزة لها لمساءلة التموضعات الهوياتية وتشريح مفهوم الهوية بمبضع كلماتها المصقولة تارة، والفجة تارة أخرى.

من هذا المنطلق، تسائل بوديه الاستخدامات السياسية للذاكرة الاستعمارية، مع التركيز على تفكيك الثيمات، وتطوير شعرية إدانة تتضمن إشارات عديدة إلى تاريخ جزيرتي لا ريونيون وموريشيوس، وتحديدا إلى فصل العبودية وتكميم الثقافات المحلية فيهما. هكذا أعادت النظر في القراءات التقليدية للأساطير الهندية، مقترحة قراءة أخرى مستيرة لها، وضمن تفكيكها تاريخ الجزيرتين، صاغت مفهوم "التجرد من التاريخ" (déshistoire) الذي بات معتمدا في العلوم الاجتماعية، لتجسيد "فكرة الإنسان العاجز عن تكوين نفسه وعن الالتصاق بما فُرض عليه بالقوة"، وبسبب ذلك، ينزع إلى حل الروابط المقيدة لفكره وسلوكه. مفهوم يحدد بقوة تجربة سكان لا ريونيون وموريشيوس، تاريخهم ولغتهم.

هكذا أعادت كاترين بوديه النظر في القراءات التقليدية للأساطير الهندية، مقترحة قراءة أخرى مستنيرة لها

من هنا أهمية جمع دواوين بوديه الثلاثة الأخيرة في كتاب. فلأنها تكثف موضوع عملها الكتابي الفريد، وتعكس ارتباطها الحميم، لا بل التحامها بذلك الفضاء الجغرافي الذي تتجذر فيه شعريتها: "لا نغادر جزيرة كما نغادر حبيبة. حين نولد على جزيرة، يبقى قلبنا أبدا تحت الإقامة الجبرية فيها. لا نغادر جزيرة، فهي تلتهمنا من الداخل مثل سرطان جميل نحت الضباب جباله. حتى لو أحرقنا تماثيلها، تسكننا الجزيرة. مثل قاتل يعود دائما إلى مسرح جريمته، لا نغادر جزيرة، لأنها مثل بداهة يرسم البحر حدودها".

بطاقات بريدية

في شعرها، لا تخط بوديه "بطاقات بريدية" عن فردوس لا وجود له، كما يمكن أن يوحي به الاقتباس المذكور، بل تكتب نقيض هذه البطاقات، بدءا بقصتها الخاصة، حين تستحضر أحد أجدادها، جاك، تاجر العبيد: "ثمة أثر ملعون يغوص بجذوري في جذور هذه الجزيرة – نسب سافِر يقذف بي إلى شواطئ البدايات". لكننا لا نقرأ لديها نصوصا عن شعور بذنب ليس ذنبها، كما لا نقرأ نصوصا تصور نفسها فيها كضحية: "جاك، يا تاجر العبيد، هل ستطلب مني النفوس التي بعتها أن أشعر بالذنب مكانك؟ جاك، ثلاثمائة عام من الشمس لم تسود بشرتي، لكنها هجنت روحي".

"خطاطة الحمم الزرقاء"

تكتب بوديه أيضا نقيض تلك البطاقات البريدية لأن الواقع الاجتماعي اليومي لجزيرتي لا ريونيون وموريشيوس لا يتوافق مع الصور النمطية التي يروجها المسؤولون السياسيون فيهما، ووكالات السفر. ينطبق هذا الأمر خصوصا على "فسيفساء موريشيوس" التي تُقدم بوصفها نموذجا للتعددية والتسامح، في حين أنها "مغلقة بإحكام في خصوصياتها المختلفة"، فتقابل الشاعرة الرواية الرسمية التي تتحدث عن "جنة اجتماعية"، برؤية كارثية لبلد يقف باستمرار على شفير الانفجار.

في نصوصها المكثفة القصيرة، المكتوبة دائما بصيغة المتكلم، تستعيد بوديه باستمرار موضوع الفقد، وتتوجه إلى "أنت" غائب. نصوص تولد وتتغذى من جرح مفتوح، فتستحضر الليل، العزلة أو "حزن رحم عقيم": "أسيرُ في مجد المتسول الذي يخلع عنه جلودا كان يمكن الشمس أن تسلبها منه/ أنا لستُ الشمس/ في داخلي حلكة الليل". ومع أن الموت لا يسمى قط فيها، إلا أن الليل، والدم، وصورة الذئبة مع "أخويتها"، إضافة إلى "تلك العيون المكحلة بالرماد"، عناصر تخلق مناخ خراب يبلغ أوجه مع ذكر الجحيم: "هنا، في أعماقي، تختمر الجحيم".

كاترين بوديه

شظايا

لم يخطئ بالتالي أحد النقاد في تشبيه النبرة القاتمة، المأسوية، في شعر بوديه بالرماد الأسود لبركان بعد ثورانه. لكن الشاعرة تتجنب النحيب أو استعطاء الشفقة، فتقطع بنصل حاد الشكوى فور انبثاقها، شاهرة صورة السكين، ومصورة نفسها على شكل طيف منتصب: "أقف على الصدع الكبريتي لسماء آثمة". تتخلى أيضا عن أي ترابط بين أجزاء جملتها، مفتتة إياها إلى شظايا، مثل جسد الراوية داخل نصوصها: "نتبرج، نرسم جداريات كبرى.

تقابل الشاعرة الرواية الرسمية التي تتحدث عن "جنة اجتماعية"، برؤية كارثية لبلد يقف باستمرار على شفير الانفجار

على الجسد المحطم المتخم المسلوب". ومع أنها تقر بأنها لا تنصت إلا إلى نفسها، ولا تكتب عن "جرح العالم" و"شفاهه الحمراء"، إلا أن العالم ينسل إلى كتابتها الحميمة من طريق سلسلة من الإشارات إلى عالم الجزيرة: قصب السكر المقطوع الذي يحترق، الجبال الكئيبة، باعة عصير الأناناس، رائحة الكزبرة، الزورق في وسط البحيرة الشاطئية، الحافلة المسرعة نحو بور لويس... صور خاطفة بـ"سحر استعماري"، لا تخفف الألم، بل تذكر فقط بأن الحياة، بالنسبة إلى الآخرين، "تسيل مثل شراب حلو وكثيف".

أما صورة البركان في قلب الجزيرة كاستعارة لقلب الشاعرة، الحاضرة بقوة في مجموعاتها السابقة، فتعود مجددا في القصيدة الأطول التي تمنح هذا المجلد عنوانه. قصيدة تذكر الحمم الزرقاء فيها، لأنها بردت، بأن زمن الثوران قد انقضى من دون أن يأتي بالسكينة: "إنها حكاية حديثة من داخل الحمم الزرقاء لبركان قلوبنا الخامد". تستحضر أيضا هذه القصيدة، في جو ضبابي شبه سحري، رجلا "بوجه مدمر" يحمل مزهرية بيديه المكبلتين، ويصل "متأخرا جدا"، لأن الأميرة فارقت الحياة، وجثتها الممددة على الأرض تحولت أشلاء. أما البعد الحلمي فيها، فيولد جملا متعرجة، تكاد تكون ساكنة: "برسمها بقلم لباد روعة خلوات منيرة، في الفضاء السادس للأسماك الملونة الصغيرة، تنسج بأصابعها اللازوردية معطف المِحَن". وفقط في الفرار داخل هذا البعد، وفي ترتيب الكلمات، يرتفع صرح القصيدة الحيوي: "الكلمة، ذلك المعبد الوحيد لتعبد الفراغ".

كاترين بوديه

معتم شعر بوديه، وهو أيضا احتفال بالحب والجمال والحرية. فمع أن الألم ينخر مفاصله، لكن الشاعرة لا تغرق في لججه، كما أن الغضب والعصيان فيه ليسا وضعية مصطنعة، بل ثوران ضمن السخط والإدانة: "حاملو الثورة ينهضون من كل جانب في ليموريا – سيُسحقون بسرعة – أو يُستبدلون بآخرين – في ليموريا الجريحة – في زخارفها السياسية – سيكون اندفاعهم فاترا – وسيكون صوتهم أعلى من قبضاتهم – ليموريا تموت من محارقها – لأن الجميع هنا يشعل محرقة – لجاره – ثم يدعوه للصعود إليها – في فيض أطواق الزهور".

البحث عن المطلق

يبقى شعر بوديه، الذي ينتمي أيضا إلى شعر الجزر بمواصفاته، شمولي الطابع. فمن البراكين إلى البحيرات، مرورا بالروائح المعطرة، توسع الشاعرة جغرافيته ليشمل العالم أجمع، بحثا عن مطلق في تناغم مع بيئتها الثقافية المتعددة. ولا عجب في ذلك، فما يميز مسعاها الشعري هو ذهابها إلى أبعد من مشاهد جزيرتها: "كل هذه الوجوه – القادمة من أعماق جميع الأعراق – المتحدثة بالغبار نفسه – بالابتسامة نفسها – من أعماق جميع الأعراق – تأتي جريحة ممزقة – لتخصيب الجزيرة – لإعادة ابتكار الفردوس – طوعا أو اكراها".

الشعر هو لحمتك الداخلية. كل قيود العالم لن تستطيع منعك من كتابته، إلا تلك التي تفرضها على نفسك

لكن الشعر الذي تكتبه بوديه منذ سن الرابعة عشرة هو قبل أي شيء استكشاف للذات وما يختلج في باطنها. فعلى سؤال: لماذا اللجوء إلى الشعر؟ أجابت يوما: "ماذا يبقى للإنسان بعدما سُلِب من كل شيء: خبزه، وطنه، شرفه، حريته؟ الشعر. إنه ليس مجرد كلمات غايتها تشكيل صور جميلة أو جمل رنانة لفتن الآخرين أو الخطب أو التنافس لغويا. الشعر ينبع من الداخل، ونفَسه يبقينا منتصبين، ويحررنا في كرامتنا كبشر (...). الشعر هو إيكولوجيا الفكر البشري: نعيد به تدوير ما هو قبيح، لجعله جميلا".

ثمة شرط واحد لكتابة هذا الشعر، وفقا إلى بوديه: "طهارة النفْس": "الشعر هو قميصك الداخلي النقي. يمكن دائما أن يلقي الآخرون الوحل على ثيابك الخارجية، لكن ليس على شعرك، أبدا. الشعر هو لحمتك الداخلية. كل قيود العالم لن تستطيع منعك من كتابته، إلا تلك التي تفرضها على نفسك. قيود الفكر الواحد، قيود الجشع والازدواجية والجبن والغطرسة. وهذه القيود تخنقك بالتأكيد أكثر من جميع أشكال العبودية".

font change

مقالات ذات صلة