مع مطلع الألفية، كانت الدولة الأردنية قد لمست ضرورة التغيير البنيوي فيها، من خلال التحديث اللازم مع كل ما تحمله متغيرات تلك الألفية الجديدة على كل المستويات، خصوصا ذلك التسارع الصاروخي في تكنولوجيا المعرفة وثورة المعلومات.
كان التركيز قد بدأ مع عهد الملك عبدالله الثاني، في قطاعات حيوية مهمة، مثل التربية والإسكان والصحة، مع تركيز على إصلاح القطاع العام، أي المنظومة برمتها. وتم استحداث وزارة تطوير القطاع العام كوريث لوزارة التنمية الإدارية.
تعاقبت البرامج والاستراتيجيات والأفكار لتطوير منظومة القطاع العام، وترشيق الجهاز البيروقراطي الضخم، لكن ضخامته وتشابك تعقيداته وشبكة المصالح المستفيدة من تغوله، كانت هي الغالبة حتى اليوم. ورؤى الملك الحديثة والتقدمية في قطاعات الصحة والإسكان والتعليم، اصطدمت بجدران مسلحة من البيروقراطية والتشتيت الإداري الممنهج.
كشاهد على تلك المرحلة وعن قرب، أرى أن الإدارة لم تكن في المستوى المطلوب، بتفتيت الجهاز البيروقراطي لغايات ترشيقه، ومواءمته مع المتغيرات العالمية، بل وصلت أحيانا وفي مراحل مبكرة إلى عبث معلن.
من ذلك، أنه وفي عام 2006، أجرت صحيفة يومية رصينة مقابلة طويلة مع وزير تنمية إدارية سابق، لم يبق "معاليه" ولم يذر بحق وزارة تطوير القطاع العام، واعتبر وجودها عبئا على الدولة، وطالب بحلها وتفكيكها، ومحوها من جدول الحكومات. بعد أقل من عام، كان الشخص نفسه وزيرا لذات الوزارة التي طالب بمحوها، والتي كانت لا تزال في عملية "اجترار" البرامج والأفكار والمشاريع والاستراتيجيات، بذات كم الإنفاق الهائل على كل ذلك.
اليوم، ومع جملة التحولات الإقليمية والعالمية الضخمة بالحجم والصادمة بالتأثير، لا تزال أزمة "تطوير القطاع العام" أسيرة الطرق الالتفافية، التي لا تواجه المشكلة، ولا تزال البيروقراطية "المترهلة بنمطها القديم ومنتهي الصلاحية" تقف بصلابة أمام نخب تكنوقراطية "ساقطة من الأعلى" واتجاهاتها عمودية دوما، وهي تصطدم بالجهاز المتمدد أفقيا بلا توقف. وهو ما يعطل كل عمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي في الدولة.
وهذا له آثاره المباشرة، في ظل التحولات الجذرية في الإقليم، الذي بدأت ملامحه تتشكل مع الحرب الراهنة على أسس تكاملية لا تحالفات سياسية مصلحية، وستتضح معالمه الجديدة بعد أن تنتهي المواجهات والحروب الحالية، والتي تم "خلقها" كلها لتهيئة التغيير الآتي.
المشهد الأردني بشقه البيروقراطي "المتحجر" يلقي بظلاله الثقيلة على مرونته السياسية، ويعطل كل محاولاته للنهوض اقتصاديا
المشهد الأردني بشقه البيروقراطي "المتحجر" يلقي بظلاله الثقيلة على مرونته السياسية، ويعطل كل محاولاته للنهوض اقتصاديا، لأنه يطرح أسئلة حول قدرة الأردن نفسه، أن يكون شريكا استراتيجيا في مجمل الترتيبات الإقليمية الضخمة في شرق المتوسط.
يتحدث مقربون عن إنجازات يقودها رئيس الوزراء جعفر حسان، في وضع أسس مشاريع تكاملية ضخمة، تضع الأردن في سياق التحولات الإقليمية، مثل مشروع السكك الحديدية الذي يشرف عليه الرئيس شخصيا، ويلقى اهتماما استثنائيا من القصر، لكن رغم كل تلك الجهود وساعات الـ"زوم" الطويلة على أعلى مستوى مع الشركاء الإقليميين، فإن الأسئلة تجد طريقها لتصطدم بهذه الإدارة العامة، التي لا تزال تقدس التعليمات واللوائح أكثر من التشريعات أو مصالح الدولة العليا.
والأمر لا يقتصر على ذلك المشروع الذي أوردناه مثالا، لعلمنا بأهميته لدى الصف الأول من الدولة، بل يتجاوزه إلى فرصة الأردن في جغرافيته السياسية كجاذب للاستثمار، وتوطينه كحالة اقتصادية أو تأهيله كمنطقة اقتصاد بينية في الإقليم، وهو ما يعيد طرح السؤال ذاته عن مدى أهلية "الإدارة العامة" في الأردن، لمواجهة كل تلك التغيرات الشاملة حوله، والتكيف مع ثورة تكنولوجيا المعلومات والمعرفة، وما يمكن أن تصنعه من عراقيل تكفي لعدم المضي قدما بأي مشروع يمكن للأردن أن يكون طرفا استراتيجيا فيه، وليس ممرا للعبور وحسب، وهو ما يجعله على حد وصف سياسي عربي في مسار غير مفهوم "حاليا على الأقل".
أعرف رئيس الوزراء، وقد التقيته مذ كان مديرا لمكتب الملك، وحتى بعد توليه رئاسة الحكومة، وأعرف مما تيسر لي من معرفة، أنه يبني أفكاره على التراتبية المنطقية، وهو مدمن عمل، ويختار معاركه السياسية "الداخلية" بدقة، وأنه– كما لا أزال أعتقد حتى اللحظة وأتمنى ذلك- لا يبني قراراته على معايير الحب والكراهية، لكن هل يكفي كل هذا دون تغيير أدوات تمكنه من تحقيق رؤية حكومته، حسب كتاب التكليف الملكي الذي تشكلت حكومته على أساسها؟
تأهيل القطاع العام، لم تعد تكفيه برامج واستراتيجيات مزاجية تتغير بتغير وزرائه، بل يحتاج ثورة بيضاء مدروسة بعناية، تكون على رأس أولويات الحكومة، وتفكيك "الحالة الديناصورية" للجهاز البيروقراطي يحتاج استراتيجية تشريعات، تفتح خارطة طريق لأنظمة ولوائح إدارية ملائمة للعصر الجديد، ومتماهية مع متغيرات الإقليم بكل ما فيه، كما يحتاج أيضا لثورة على الترهل "المعطل" للإصلاح، والذي لا تفككه زيارات ميدانية متكررة، لغايات الاستعراض الإعلامي، دون آليات ثقيلة من الخطط الاستراتيجية الواقعية والشجاعة، لتغيير الواقع الإداري في الدولة الأردنية. ويحضرني هنا قول للفقيه الدستوري الأردني الدكتور نوفان العجارمة مفاده: "إن العتبة المقدسة لكل الإصلاح في الدولة، هي تلك التي تمر عبر بوابة الموظف العام من خلال تأهيله".
وقول مثل هذا صادر عن رجل قانوني، اسمه مرتبط دوما بالتشريعات والقوانين، يستدعي تشريعات ترتقي بالرؤية الجمعية تجاه القطاع الخاص، الذي تتم شيطنته دوما، دون دعمه ودفعه ليكون شريكا حقيقيا في الدولة، لا أسير شعار الشراكة مع القطاع العام، الذي لا يقبل شريكا له من الأساس.
القطاع الخاص في الأردن قابل للتمدد والتوسع إقليميا لكن كيف يمكن استقطاب الثقة فيه إذا لم تكن تلك الثقة متوفرة من لدن الجهاز البيروقراطي المعطل لأي استثمار بحجة "الخوف على الدولة"
القطاع الخاص في الأردن قابل للتمدد والتوسع إقليميا، لكن كيف يمكن استقطاب الثقة فيه، إذا لم تكن تلك الثقة متوفرة من لدن الجهاز البيروقراطي، المعطل لأي استثمار بحجة "الخوف على الدولة"، والحقيقة أن الخوف موجود فعلا، لكن على تلك الكتلة الضخمة من المصالح التي تجذرت حد الوصول إلى مرحلة تخوين من يمسها.
دول الجوار تمد يدها إلى الأردن بعقلية منفتحة وبأدوات جديدة كليا، والمطلوب أردنيا اليوم تغيير أدواته بمجملها، لترتقي إلى ما يكفي للتعامل مع كل ما هو قادم... وهو قادم.