معمارية لبنانية تنقذ بيت عائلتها في الذكرى المئوية لبنائه

شاهد على الإرث المعماري العريق للعاصمة بيروت

واجهة المنزل البحرية (فيكان آفاكيان)

معمارية لبنانية تنقذ بيت عائلتها في الذكرى المئوية لبنائه

"يا للروعة، أين هذا المكان، هل نستطيع حجزه، هل هو قهوة، مطعم أم فندق؟". هذه بعض التعليقات ردا على صورة نشرتها على حسابي على "إنستاغرام" من قلب منزل جميل في بيروت يطل على كورنيش عين المريسة، واللبناني عموما، وخاصة في بيروت، محروم من البحر، إذ أن للبحر "ثمنا" عليك دفعه للمنتجع أو الفندق، حتى تراه أو تقترب منه، والأماكن العامة مثل كورنيش عين المريسة نادرة في لبنان وخاصة في بيروت، فما قصة هذا المنزل الجميل القريب جدا من الكورنيش؟

كنت جالسا مع صديقة في حي الجميزة البيروتي، حين أخبرتني عن المشروع، "صديقتي معمارية، ولديها مشروع فني، لقد رممت منزل عائلتها"، وهي الآن تتيحه للعموم لرؤيته من الساعة الخامسة إلى السابعة مساء، وكان ذلك لفترة محدودة، من 19 إلى 31 مايو/ أيار.

لم أتردد في زيارة المنزل في ذلك اليوم. ذهبت مع صديق على دراجته النارية ووصلنا إلى المكان المنشود، الذي يصعب عدم الاهتداء إليه، وهو كائن في الطابق الثاني من بناية قديمة مؤلفة من 3 طوابق فقط، في منطقة تجتاحها الأبراج والفنادق والمشاريع السكنية الكبيرة، وقد ظل هذا المبنى صامدا منذ بنائه في 1925، فواجه مختلف الحروب ومشاريع التوسع العمراني، والمشاريع التدميرية للعمارة التي عرفت بما يسمى إعادة الإعمار في بيروت بعد الحرب الأهلية في تسعينات القرن الماضي.

تاريخ المنزل

تروي ألى التنير لـ"المجلة" قصة منزل عائلتها في عين المريسة التي دخلت إليه لأول مرة عام 2021 بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، وذلك بسبب أن البيت كانت تستأجره لعقود عدة سيدة خرجت منه بعد الانفجار، لترى التنير المنزل في حال من التصدع بين زجاج مكسور، وخشب متناثر، ولم يرمم مع آثار الانفجار، شأن المنازل الأخرى في بيروت، لأن احدا لم يكن يسكنه حينذاك، وكانت الأولوية لترميم المنازل المأهولة.

بني البيت على أرض يملكها آل التنير مطلة على البحر. جدة والد ألى كانت هي المالكة الأساس في عين المريسة، وحسب "خالو عزيز" كما تناديه ألى، فهو ولد في هذا البيت عام 1928، وعمره الآن 97 سنة ويسكن في الطابق الأخير من المبنى. يقول عزيز إن البيت بني في 1925، لكنه في الأوراق الرسمية، مسجل في 1935. من هنا تبدأ الرواية، هنالك تاريخان للمبنى، التاريخ الرسمي، وشهادة عزيز الذي ولد فيه.

مبنى آل التنير (فيكان آفاكيان)

ظل المبنى من طابقين فقط حتى الخمسينات، عندما سافر عزيز إلى المملكة العربية السعودية للعمل في مطبعة وجمع ما يكفي من المال ليشيد الطابق الثالث الذي لا يزال يسكن فيه حتى اليوم.

علاقة العائلة بالمنزل

أسباب عدة جعلت ألى وعائلتها يعيدون ترميم المنزل، فهي درست الهندسة المعمارية وتاريخ العمارة في بيروت، كما أن ذاكرة أبيها المتوفى أثرت فيها، بسبب تعلقه بالبيت والبحر وعلاقته به، وقد ورثت هذا التعلق من والدها، الذي عاش طوال حياته هناك. فكرة أن البيت بقي صامدا في وجه كل الحروب التحولات العمرانية في بيروت، كما أن وجود عزيز في المبنى، شجعا ألى، فهو يعيش في ذلك البيت منذ 97 عاما، والنقاشات مع عزيز رسخت فكرة لدى ألى أن تاريخ العائلة هو من تاريخ هذه الأرض وهذا المنزل. فمنذ 250 عاما هاجر آل التنير من اللاذقية إلى بيروت وسكنوا في عين المريسة، وما زالوا. فالتعلق بهذا المكان له أسباب عدة، منها المهني والشخصي والعام والتراثي والتاريخي أيضا.

جانب من المعرض (فيكان آفاكيان)

لماذ المعرض 

عند دخول المنزل، ورؤية مشهد البحر من غرفة الجلوس المفترضة، يخطر ببالك أن هذا هو المنزل الحلم الذي يريده أي شخص في لبنان، أن ينهض صباحا ليرى هذا المشهد، بدلا من رؤية الشارع أو السيارات أو الأبنية المكتظة في العاصمة، فلماذا تتخلى ألى عن هذه المتعة والامتياز وتتيح المنزل للعموم، ولو لفترة محدودة؟

داخل المنزل (فيكان آفاكيان)

تقول ألى إنها تريد تخليد تاريخ العائلة عبر هذا المعرض، وتريد من خلال هذا المشروع أن تحول الطابع الشخصي لديها إلى الحيز العام، فهي ترى أن مساحات كهذه صارت نادرة في بيروت، وشعرت بالمسؤولية لاستعمال هذا المكان الساحر لإعادة توطيد علاقة سكان المدينة بتاريخها وهويتها، ومن هنا جاءت فكرة إقامة معرض عن تاريخ البيت وتاريخ هذه العمارة، لفتح نقاش عن هذا الموضوع.

المشروع وبداياته

في عام 2021، بدأت ألى تبحث عن منح لتمويل مشروع إعادة ترميم المنزل، وجدت ذلك في منحة تقدمها مؤسسة موجودة في شيكاغو، وهي منحة ليس من السهل الحصول عليها، فقررت ترميم المنزل عبر المعرض، أي أن تشرك فنانين في عملية ترميم المنزل، لا أن تكون عملية ترميم تقليدية.

وتم العمل مع فنانين ومصممين لخلق فضاءات دائمة في البيت، وهم أساس المشروع كما تقول ألى، وفي ربيع 2022، حصلت على المنحة، بالإضافة إلى منحة حصلت عليها من "مؤسسة آفاق"، مما مكنها من تنفيذ مشروعها.

صورة مطلة على البحر (فيكان آفاكيان)

بدأت عملية توثيق المنزل والشغل الفني في أواخر 2022، وبدأت الورشة الفعلية في ربيع 2023، وانتهت في سبتمبر/ أيلول 2024، وكان يفترض أن يكون الافتتاح في 26 منه، إلا أن الحرب الإسرائيلية على لبنان التي توسعت في 23 من الشهر نفسه، حالت دون أن يتحقق ذلك، فتأجل افتتاح المعرض حتى مايو/أيار 2025.

تفاصيل المنزل والمداخلات الخمس

تألفت عملية إعادة ترميم المنزل من خمس مداخلات فنية، توزعت على غالبية أجزائه، فالمشربية الموجودة أعلى الواجهة المقابلة للبحر، تضررت بفعل الانفجار، وأرادت ألى أن تبقي ملامح هذا الحدث في المشربية، هنا تدخلت الفنانة جنى طرابلسي واستعملت القطع المكسورة منها، وأدخلت روح البحر فيها، لذلك يمكن أن نلاحظ الفارق بينها وبين المشربيات المحيطة التي لم تتضرر بفعل الانفجار.

 وفي الغرفة الرئيسة نفسها، هناك عملان فنيان آخران، عمل الموسيقي خيام اللامي الذي وزع الصوت في بنية البيت عبر نظام تنغيم مبني على المساحات العمرانية للمنزل، يعكس صوت البحر على نحو ما.

جانب من المعرض (فيكان آفاكيان)

كذلك الأمر مع المعماري ومؤرخ الفن الإسلامي خالد ملص الذي تدخل في الترميم عبر فتحة التهوية في المنزل، فصنع أغطية المكيف من حديد ولؤلؤ مع كتابة 3 أطول كلمات في القرآن على الغطاء، واستعمل الحديد لقوته واللؤلؤ لربطه بالبحر.

أما في الغرفة الأخيرة، فهناك عملان، أولهما الفيلم الذي صورته ألى مع "خالو عزيز"، وهو عبارة عن عملية توثيق تقوم بها ألى في محادثة بينها وبين عزيز حول تاريخ العائلة والمنزل، ويعرض على تلفزيون بشكل دائم في إحدى الغرف، والعمل الأخير هو للطبيبة والفنانة لارا تابت، التي أخذت عينات من البحر، ورصدت حركة البكتيريا، وحولتها إلى رسم على الجدران.

معرض ميلانو

في ميلانو عرض المشروع في الجناح اللبناني من معرض ترينالي ميلانو الدولي، وفاز بجائزة الجناح اللبناني، كما عرضت الأعمال الفنية المرافقة في ميلانو، مثل المشربية، والفيلم التوثيقي مع عزيز حول تاريخ المنزل، والأعمال الأخرى، وكان ذلك بمثابة فرصة للإضاءة على المشروع على نطاق أوسع.

الأسئلة والناس

يلاحق ألى التنير سؤال "لماذا لا تعيشين في البيت؟"، ولا تستفيدين من هذا المشهد المذهل والعلاقة المباشرة مع البحر، ولماذا المنزل فارغ؟ تجيب ألى أن الناس الذي زاروا المنزل يبحثون عن اللوحة، ولكن تأخذهم بعض الوقت لرؤية المداخلات الفنية المرتبطة بأساس المنزل والموجودة عبر جدرانه، فهو ليس بمعرض تقليدي، بل هو معرض يحكي قصة المنزل عبر هذه المداخلات الفنية.

font change