"الحرب هي استمرار للسياسة" كما قال المنظر العسكري الألماني الكونت كارل فون كلاوزفيتز في كتابه: "عن الحرب"، وعليه فالحرب الدائرة حاليا بين إيران وإسرائيل، هي انعكاس لهذه النظرية، ولكونها امتدادا مباشرا لسياسات كل منهما، وتجسيدا للتنافس الذي يسود علاقات القوة بينهما، واستكمالا لصراعهما على النفوذ في المنطقة، باختلاف أدوارهما المتناقضة، وتبعا لمصالحهما المتضاربة.
علاوة على ما تقدم، يمكن النظر إلى هذه الحرب أيضا باعتبارها صراعا بين أيديولوجيتين دينيتين: الصهيونية وولاية الفقيه. فبعد انتصار الثورة الإيرانية، تمكن رجال الدين في إيران من بناء نظام حديدي لعبت فيه الأيديولوجيا الدينية؛ ولا تزال، دورا محوريا، وأسهم بطرق مختلفة دينية وثقافية وعسكرية، في نمو الأصولية الشيعية في المنطقة وانتشارها، ما لبث أن أصبح قوة إقليمية في مواجهة إسرائيل، التي تمكنت تدريجيا منذ إعلان تأسيسها من تشكيل دولتها الدينية، وتحويل ثقلها العسكري إلى خطر حقيقي يهدد دول المنطقة وشعوبها.
ولكي تكتمل قواعد الصراع، كان لا بد لهاتين الأيديولوجيتين الدينيتين أن تبنيا ترسانتيهما وتعسكرا مجتمعيهما. إسرائيل المدعومة عسكريا من الولايات المتحدة، التي تتدفق إلى مخازنها كل أنواع الأسلحة الفتاكة والحديثة، في مقابل إيران التي تفتقر إلى تقنيات الأسلحة المتطورة والسلاح الجوي الفعال، والنقطة الأخيرة تحديدا دفعتها إلى التركيز على صناعة الصواريخ، وبناء برنامجها النووي، الذي اعتبرته إسرائيل تهديدا وجوديا لها، وسعت إلى القضاء عليه أكثر من مرة.
إسرائيل، مدفوعة بالدعم الأميركي اللا محدود، لا تسعى فقط إلى إضعاف إيران نوويا أو عسكريا، أو إسقاط نظامها السياسي بالضربة القاضية، بل تهدف إلى إعادة هيكلة البنية السياسية والاقتصادية والعسكرية لمنطقة الشرق الأوسط
من نافل القول إن إسرائيل، مدفوعة بالدعم الأميركي اللا محدود، لا تسعى فقط إلى إضعاف إيران نوويا أو عسكريا، أو إسقاط نظامها السياسي بالضربة القاضية، بل تهدف إلى إعادة هيكلة البنية السياسية والاقتصادية والعسكرية لمنطقة الشرق الأوسط. فليس سرا أن المشروع الأميركي– الإسرائيلي يتطلع إلى شرق أوسط جديد، تكون فيه إسرائيل القوة العسكرية والأمنية العليا.
هذا التفوق العسكري الإسرائيلي، لم يكن ممكنا لولا الدعم الأميركي المتواصل، فلطالما دعمت الإدارات الأميركية السابقة إسرائيل من دون تردد، الفرق هذه المرة هو أن ترمب يستخدم السلطة المطلقة والعارية، ويتجاوز كل المعاهدات والقوانين الدولية، ويسعى إلى محو أي تهديد، ولو كان بسيطا لإسرائيل لعقود مقبلة، لأن ذلك يعيق "حلمه الأميركي".
بالنسبة لإيران، لطالما كان شعار "الموت لإسرائيل" و"زحفا زحفا نحو القدس" أساسا في خطابها السياسي لفرض نفسها كقوة إقليمية، لكنها في طريقها إلى تحقيق "حلمها"، أخطأت كثيرا، وارتكبت تجاوزات، بدأت من قمع شعبها بالحديد والنار، ثم احتلالها أربع عواصم عربية وانتهاك سيادة دول أخرى.
وسط هذا الخريطة السياسية المتشابكة والتطورات المتلاحقة، شهد فجر الأحد تصعيدا خطيرا، تمثل بدخول الولايات المتحدة مباشرة في الحرب الإسرائيلية-الإيرانية، وتنفيذ مقاتلاتها عملية "مطرقة منتصف الليل"، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية في عمق الأراضي الإيرانية (فوردو ونطنز وأصفهان) بقنابل ضخمة خارقة للتحصينات.
ورغم أن إسرائيل لم تعلن مشاركتها رسميا في الضربة، فإن هذا لا ينفي أنها المحرّض عليها، فهي تعتبر المنشآت النووية الإيرانية خطرا وجوديا على أمن دولة إسرائيل، وأن بقاءها في أمان يمنح طهران استمرارية تقاسم النفوذ معها في المنطقة.
وفي حين يمكن قراءة عملية "مطرقة منتصف الليل" على أنها رسالة أميركية عن تراجع المشروع الإيراني وتقدم الإسرائيلي، تنتظر إسرائيل أن يدفع هذا الهجوم إيران إلى تصعيد عكسري جديد، لا يتناسب وقدراتها العسكرية الضعيفة، التي ظهرت جليا منذ بداية الحرب، في المقابل يظهر أن إيران التي تعتبر برنامجها النووي ومصانع صواريخها الباليستية "مقامات مقدسة"، لن تسكت عن الاعتداء، خاصة أن تفسيره هو إعلان تفوق أيديولوجيا على أيديولوجيا، والسكوت عنه هو اعتراف علني بانتصار إحداهما وهزيمة الأخرى.
الصراع بين إسرائيل وإيران صراع سياسي أيديولوجي مسلح، يظهر هذا بعد كل جولة قصف من كلا الجانبين: إسرائيل تعمل على ترسيخ سرديتها، وإيران تسابق الزمن للحد من انهيار مشروعها
في الواقع، أثبتت الأيام العشرة من الحرب الإسرائيلية على إيران، ضعف موارد إيران وقدراتها المحدودة على الرد بالمثل، فكيف إذا كانت تنوي توسيع نطاق الحرب؟ وإضافة إلى المحدودية العسكرية، فإن الأزمة الكبرى التي تعاني منها إيران هي نفاد احتياطها الاستراتيجي على الصعيد الشعبي أولا، ثم التعاطف الإقليمي ثانيا، وهي خسارات قديمة متراكمة لم تعرها بالا، ويمكن القول إنه في ظل هذه الخسارات السابقة والحالية لن ترجع إسرائيل إلى قواعدها، إلا بعد أن تعلن إيران استسلامها، ما يعني أن الحرب طويلة الأمد.
ففي الظاهر، بدأت هذه الحرب بذريعة توجس إسرائيل من برنامج إيران النووي، ولكنها في الجوهر هي صراع سياسي أيديولوجي مسلح، يظهر هذا بعد كل جولة قصف من كلا الجانبين: إسرائيل تعمل على ترسيخ سرديتها، وإيران تسابق الزمن للحد من انهيار مشروعها.