عيد الموسيقى في باريس... بهجة اللحظة وعطش الجسد

تلوث غير مسبوق من جماعات منظمة

ROMAIN PERROCHEAU / AFP
ROMAIN PERROCHEAU / AFP
جمهور يتجمع على ضفاف نهر السين لحضور حفلات مجانية ضمن مهرجان "عيد الموسيقى"، 21 يونيو 2025

عيد الموسيقى في باريس... بهجة اللحظة وعطش الجسد

لم يعد التقليديون وحدهم ينفرون من الضجيج أو الصخب الذي يلازم الموسيقى الحديثة، أو ما بعد الحديثة، باعتبار أن هذا الصخب، الناتج من أصوات زاعقة بمصاحبة آلات موسيقية غير منضبطة، يندرج ضمن التلوث السمعي وليس شيئا آخر، ففي احتفال "عيد الموسيقى" الأخير في العاصمة الفرنسية باريس، وجد كثيرون أنفسهم بعيدين عن هذه الأجواء المعتادة سنويا بعد انتشار أخبار تشير إلى وجود أناس يستهدفون النساء من خلال طعنهن بإبر تحتوي على مواد فيروسية أو مخدرة، ما يعني أن التلوث لم يعد مقتصرا على السمع، حسب المفهوم التقليدي، بل اتسع ليشمل كل الجسد.

العيد الكبير

هناك أعياد كثيرة في باريس، ليس أقلها عيد رأس السنة أو عيد الإنسانية، أو العيد الوطني، وهي تتبع تقاليد عريقة في هذه المدينة منذ أكثر من قرن، حتى أن همنغواي ألف كتابا بعنوان "باريس حفلة" أو "باريس عيد"، معتبرا أن كل يوم هو عيد في باريس، لكن "عيد الموسيقى" في فرنسا، يبدو أنه أصبح العيد الأكبر في هذا البلد الذي ابتكر هذه المناسبة عام 1982، أيام الرئيس فرنسوا ميتران، باقتراح من وزير الثقافة حينئذ جاك لانغ. كانت الفكرة يومها أن الفرنسيين يتعلمون الموسيقى في المدارس ولا يحصلون على فرصة للعزف أو تقديم مواهبهم في مكان عام، ولهذا خُصّصت لهم الساحات والحدائق والمقاهي والشوارع في هذا اليوم (21 يونيو/ حزيران) ليعزفوا ويغنوا ويرقصوا بشكل حر ومجاني. وصار هناك أكثر من مائة بلد اتبع فرنسا في تخصيص هذا اليوم للموسيقى.

موسيقى الشعوب

ما يلفت في باريس، هو التنوع الهائل للموسيقى التي تقدّم في هذا اليوم، فهي إذ تأتي من معظم جغرافيا الأرض، فإنه يصبح من الممكن التعرف إلى موسيقى وأغاني الشعوب، كتلك التي تنحدر من تقاليد موسيقية قديمة، مثل الشرقية والأفريقية واليونانية والسلتية والأندلسية وموسيقى السكان الأصليين في أميركا الشمالية. كما يمكن الاستماع إلى ألحان من الصين والهند واليابان ومصر وكوريا وبلدان أميركا اللاتينية، مع ما يصاحبها من رقصات وآلات موسيقية تقليدية، غير تلك التي عُرفت أو صاحبت نشوء الموسيقى الحديثة في أوروبا.

تبدو بعض هذه الاتجاهات صرخة احتجاج ضد الواقع والحروب والقوانين الاجتماعية، كأنها امتداد لما قامت به فرقة "البيتلز" قبل أكثر من ستين سنة

وإذ تعكس الموسيقى تنوع ثقافة هذه الشعوب الراسخة، فإنها تقدّم جنبا إلى جنب مع الموسيقى الحديثة، كموسيقى "الجاز" و"الهيب هوب" و"الراب"، ومختلف التقليعات الموسيقية الأحدث، التي تمضي على هذا المنوال، ويلاحظ فيها غالبا غياب المؤلف الموسيقي أو الشاعر، حيث صار لها وجهتها الإيقاعية غير المؤطرة بأي شكل موسيقي. ومن هذه الأنواع موسيقى "تراب" (Trap)  و"دريل" (Drill) و"ساوند كلاود راب" (Sound Cloud Rap)  وهي أنواع تتميز بكلماتها القاسية أو العدوانية الرافضة، المتقاطعة مع أقوال الشارع وفعل الجريمة.

ROMAIN PERROCHEAU / AFP
عشاق الموسيقى يستمتعون بعرض "دي جي" في مقهى خلال مهرجان "عيد الموسيقى"، 21 يونيو 2025

وهناك "هايير بوب" (Hyperpop) التي تعتمد على الأصوات الإلكترونية والأساليب الرقمية، مثلها مثل عشرات الأنواع الإلكترونية المصنفة بالعدوانية، إضافة إلى عشرات التجارب التي تمزج بين "الهيب هوب" و"الراب" والثقافات المحلية، على غرار الفرق الكورية الجنوبية والنيجيرية والإسبانية.

صرخة احتجاج

على كل حال، تبدو معظم هذه الأعمال عصية على التصنيف، والكثير منها يتجاوز الحدود الأخلاقية والقيمية التي عادة ما تُقرّها أو تفرضها الرقابة، حتى في البلدان الأكثر انفتاحا وديمقراطية، بل وتتجاوز حقوق التأليف والأداء وكل ما له علاقة بالقوانين.

وتبدو بعض هذه الاتجاهات صرخة احتجاج ضد الواقع والحروب والقوانين الاجتماعية، كأنها امتداد لما قامت به فرقة "البيتلز" قبل أكثر من ستين سنة، حيث سنجد مغنيا في "شاتليه"، وسط باريس، يعزف على آلة موسيقية ابتكرها بنفسه، وهو يردد أنه سيجمع مالا بأي طريقة وسيغادر البلد الذي يصفه بأقسى النعوت.

GABRIEL BOUYS / AFP
فرقة موسيقية تعزف في ساحة عامة خلال مهرجان "عيد الموسيقى"، 21 يونيو 2025

ولوحظ أن ساحة معهد العالم العربي في باريس احتفت بالأغنية العربية كعادتها، لكنها خصصت جزءا كبيرا من برنامجها هذا العام للأغنية الفلسطينية، فاستمع المحتفلون في الساحة إلى الكثير من الأغاني التراثية الشهيرة، مثل "وين ع رام الله" و"على دلعونا وعلى دلعونا "، وأغان قدمها الفنان الفلسطيني "أبو غابي"، وذلك وسط رفرفة الأعلام الفلسطينية التي جلبها الحاضرون الى الساحة، مع هتافاتهم "تحيا فلسطين".

عطش للحياة

في سنوات سابقة، شاهدت احتفالات عيد الموسيقى في مدن فرنسية كثيرة، كما شاهدتها في باريس، وما يمكن قوله، إذا ما استذكرنا الجموع الغفيرة التي تخرج للاحتفال بهذا العيد، إن الناس في تصرفهم هذا اليوم، وهم يغنون ويرقصون وينتقلون من ساحة إلى أخرى ومن شارع إلى آخر، كأنهم يعبّرون عن عطش الجسد للحب، أولا، ثم عن عطشهم للحرية والتمرد والتغير والحياة، عطشهم لكل شيء. وإذ تبدو بعض الأغاني، أو الرقصات، بلا معنى، فإن اللامعنى يصير مرادهم أو "معناهم" وحياتهم، التي تمضي كيفما اتفق.

الناس في تصرفهم هذا اليوم، وهم يغنون ويرقصون وينتقلون من ساحة إلى أخرى ومن شارع إلى آخر، كأنهم يعبّرون عن عطش الجسد للحب، أولا، ثم عن عطشهم للحرية والتمرد والتغير والحياة

بعضهم يختار الكحول ليملأ رأسه بنشوة أخرى غير نشوة الموسيقى، وحتى الذين لا يشربون نجدهم "سكارى وما هم بسكارى"، منتشين ببهجة اللحظة، اللحظة التي تصبح لديهم كل العمر.

ROMAIN PERROCHEAU / AFP
المغني نيك مالين يؤدي خلال مهرجان "عيد الموسيقى"، 21 يونيو 2025

لذا تنتشر القوارير في الطرقات، والزجاج المكسور الذي أطاح به غير المبالين بأي شيء، وقد تبقى الأشياء مكدسة في الشوارع أكثر من 36 ساعة إذا كان اليوم الموالي للعيد هو يوم إجازة أسبوعية لعاملي النظافة، مثل عيد هذا العام الذي صادف يوم سبت.

الطعن بالإبر

للشاعر اليمني فتحي أبو النصر مجموعة شعرية يُذكِّر عنوانها، "موسيقى طعنتني من الخلف"، بما حدث في يوم الموسيقى هذا العام في باريس، حيث فوجئ البعض بطعنات من الخلف وسط هذا الصخب الموسيقي الكبير. إذ صارت ساحات العيد مسرحا لجريمة تستهدف تلويث الجسد بمواد فيروسية، وذلك بعد تحريض قام به البعض على "طعن النساء أثناء الاحتفالات". فتعرضت أكثر من 145 امرأة للطعن بإبر طبية يُعتقد أنها تحتوي على مواد فيروسية، مثل فيروس نقص المناعة (الإيدز). لم تُصرّح السلطات بمحتوى المادة التي كانت في هذه الإبر الطبية، إلا أن مشاركين في الاحتفال شاهدوا أن هؤلاء النساء فقدن الوعي أو شعرن بالغثيان. وقالت الشرطة إنها اعتقلت اثني عشر شخصا مشتبها بهم، دون ذكر تفاصيل أخرى.

هؤلاء ليسوا جديدين في سلوكهم هذا، وهم عادة ما يظهرون في المناسبات الاحتفالية الكبرى، وكان آخرها مناسبة فوز نادي باريس سان جيرمان بلقب دوري أبطال أوروبا. فهم يقومون عادة باقتحام المحلات التجارية ونهبها ومواجهة الشرطة وحرق الممتلكات والسيارات. بعضهم ينتمي إلى جماعات منظمة، بسبب موقف أيديولوجي أو اجتماعي طبقي، وبعضهم يفعل ذلك من أجل الحصول على تعويضات من شركات التأمين، خاصة في حرقهم للسيارات.

هكذا، سيبقى عشاق الموسيقى والبهجة أمام معضلة شائكة بين تطلعهم الدائم للاحتفال والمنغصات التي تلوّث أجسادهم، سواء عبر الإبر أو غيرها.

font change