سينما الشارع تعود إلى غزة والأطفال جمهور متعطش للفرح

مبادرات فردية في مواجهة الدمار

REUTERS/Ibraheem Abu Mustafa
REUTERS/Ibraheem Abu Mustafa
فلسطينيون يشاهدون النسخة السادسة من مهرجان السجادة الحمراء للأفلام، في مسرح تم تجديده حديثا في مدينة غزة، 13 أكتوبر 2022

سينما الشارع تعود إلى غزة والأطفال جمهور متعطش للفرح

غزة: في شرق مدينة غزة، حيث حي الدرج، المكان المنذر بالإخلاء من سكانه من جانب الاحتلال الإسرائيلي، تبرز محاولة أخرى للتمسك بالحياة، حيث عاد رواد ثقافيون غزيون، لتفعيل مبادرة "سينما الشارع"، التي توقفت بفعل حرب الإبادة، مثلها مثل معظم الفعاليات الثقافية في المدينة، حيث، وبشكل تدريجي، هدم الاحتلال بطريقة ممنهجة، معظم المؤسسات الثقافية والمسارح والمكتبات، واغتال الكثير من الشعراء والفنانين، خلال هذه الحرب.

انطلقت "سينما الشارع" عام 2021، بهدف تعزيز المشاركة المجتمعية، وتعزيز دور الفن في حياة الغزيين، وقدمت الى الجمهور الفلسطيني العديد من العروض السينمائية، من أبرزها فيلم "سواقة الباص". كما اهتم الفريق بالجانب الترفيهي مع الأطفال من خلال تقديم العديد من العروض الفنية المخصصة لهم.

فقبل أيام انطلق الأطفال وأهاليهم إلى "مسرح هوليست"، ليشاهدوا عروضا جديدة لمبادرة "سينما الشارع"، يضحكون ويتأملون، يفكرون ويستعيدون، ولو قليلا، صورة الحياة القديمة التي غادرت غزة منذ انطلاق الحرب.

السينما والحقيقة

تسعى المبادرة إلى مقاومة الموت، وإشاحة النظر ولو مؤقتا عن واقع بائس وصلت إليه الحياة في غزة. إنها إرادة أخيرة للقول بأن غزة لم تمت، والأرض لا تزال تصدر الثقافة، ورعاية الهوية، بالرغم من كل أشكال الخراب. فهل من مغزى لاستعادة تلك الثقافة، بينما يباد المكان والإنسان؟ إنه سؤال حول ماهية الوجود بأسره، وكذلك ماهية الجمال في عمق حرب تبيد كل شيء.

"المجلة" التقت الفنان والناشط محمد ياغي، المشرف على فعاليات "سينما الشارع": "المدنية راحت". فلا شيء من شكل المدينة القديمة بقي كما كان، ولا شيء في أذهان الناس سوى أسئلة بدائية تعود بالإنسان إلى أول مخاوفه: كيف سنأكل؟ أين نحتمي؟ متى تتوقف هذه الحرب؟ ثم يضيف بشيء من الحماسة، كمن يبحث عن كنز: "لكن حين عدتُ لأعرض لهم أفلاما وألعابا لأطفالهم، شعرت أنني أقول لهم: ما زالت هناك حياة. ما زالت هناك أحلام. ما زال هناك أمل".

إنها إرادة أخيرة للقول بأن غزة لم تمت، والأرض لا تزال تصدر الثقافة، ورعاية الهوية، بالرغم من كل أشكال الخراب

لم تعد مبادرة ياغي ورفاقه مجرد أنشطة تبدأ وتنتهي، بل أصبحت فعل بقاء، وفلسفة حياة، مكونات يتم تدويرها للوصول الى رغبة جديدة في إثبات الذات وتأثيث الأرض بأثاث جديد، بعدما أعدم الاحتلال إمكانات العيش البسيطة.

"في مبادرة سينما الشارع، لا نعرض أفلاما فحسب، بل نقول للناس إن الفرح موجود رغم الموت، رغم الألم، رغم الحرب. لا بد أن تكون هناك حياة"، هكذا يقول ياغي برؤية تعيد التفكير في معنى صمود شعب فلسطين.

REUTERS/Mohammed Salem
عائلات فلسطينية أمام شاشة عرض كبيرة في مقهى على شاطئ البحر خلال حدث سينمائي نادر، في مدينة غزة، 11 أغسطس 2023

لكن أية حياة تلك التي تخرج من بين الأنقاض؟ وأي ضحكات يمكن رصدها من جسد تم تجويعه، حتى أوشك على الانهيار؟

نافذة للحياة

انتشر فريق "سينما الشارع" في "مسرح هوليست"، محاطا بأطفال أتوا بحثا عن نافذة أخرى للحياة، يأملون ألا تغلق في وجوههم من جديد. في الأعلى أصوات طائرات، كواد كابتر، لا تغيب عن سماء المدينة، وتستعد لقتل أي منهم، أو جميعهم، لكنهم لا يكترثون لمرارة الموت، في وجود حلوى السينما في المدينة.

يعلق محمد ياغي: "رأيت في وجوه الأطفال حيرة غريبة، خليطا من الحزن والفرح، كأنهم يختلسون نظرة إلى حياة أخرى كانت لهم قبل الحرب. حتى عيون الأطفال تشي بتعب قديم، برغبة هائلة في حياة آمنة لم تأت بعد".

توزعت الضحكات بين الأطفال، ربما للمرة الأولى منذ أشهر طويلة مع الحرب، وتأملوا بعمق ما تقدمه شاشة السينما، نسوا الحرب قليلا، وصار في إمكانهم تصديق أن الحياة لا تزال ممكنة.

هل هذه العروض مجرد تسلية؟ هل تنقلهم خارج حدود الجغرافيا المدمرة؟

إنها صورة تحمل التناقض الغريب، والتأمل المذهل، في أن تعاكس مشروع الفوضى الذي يخطط له لأشهر طويلة من الاحتلال، بأن تصنع تجمعا للأطفال، يؤسس لجلسة أخرى مع الفن والحياة، تستعيد شيئا من المفقود.

يقول محمد بتأكيد واضح: "حتى ونحن في قلب الحرب، كنا نعرض أفلاما تستهدف وعي الأطفال والأهالي حول معنى المشاركة المجتمعية، وتعلمهم ألا ينسوا وجودهم في هذا العالم. نحن صُناع أمل، حتى لو خذلتنا كل أدوات الحياة".

كثيرة التفسيرات التي تندرج تحت فعل ثقافي وسط الحرب، لكن أبسطها أن هناك أناسا تعبوا من أدوات الموت، أزاحوها جانبا، وقرروا فتح الطريق مرة أخرى، نحو ذواتهم، ونحو العالم.

تغير 

لم يبق شيء في غزة على حاله، بفعل الحرب، فقد تغيرت معالم الأرض والأماكن، وتحولت اليوميات، وكذلك الطريقة الاجتماعية في فهم الواقع والتعايش معه.

رأيت في وجوه الأطفال حيرة غريبة، خليطا من الحزن والفرح، كأنهم يختلسون نظرة إلى حياة أخرى كانت لهم قبل الحرب. حتى عيون الأطفال تشي بتعب قديم، برغبة هائلة في حياة آمنة لم تأت بعد

محمد ياغي

هؤلاء الأطفال كانوا يأتون لحضور الأفلام سابقا بعد انتهاء دوامهم المدرسي. يأتون  الى الفن من غرفة التعليم، أو من منزل يحتضن أحلامهم، ويخرجون من عالم الفن، ليستثمروا عقولهم والتغذية الذهنية في الحياة. الآن يأتون من الخيام البالية، وبعد أشهر طويلة من معايشة أشكال لا تعد ولا تحصى من الألم والخوف.

REUTERS/Fadi Shana
رجل فلسطيني يُعد شاشة عرض كبيرة في مقهى على شاطئ البحر، استعدادا لحدث سينمائي نادر، في مدينة غزة، 28 يوليو 2023

نسأل ياغي عن ذلك التغير، فيجيب: "كنت أرى الأطفال قبل الحرب بملابس جميلة وابتسامات واسعة. اليوم أراهم بجلود قديمة، بملابس بالكاد تسترهم. حتى عيونهم صارت باهتة، كأن الضوء هاجر منها".

إذن، السؤال هنا حول ما تفعله الحرب، وكيف تعيد تشكيل روح الإنسان من الداخل، ليس فقط بمجرد أن تهدم بيته وجدرانه.

عن أثر الحرب عليه شخصيا كفنان، يقول ياغي: "أنا مثل باقي الناس. قبل الذهاب الى العرض أكون مشغولا بجمع الخشب والماء وبعض الطحين. الأمر صعب جدا. لكن عندما أصل إلى القاعة يعود نشاطي. كأنني أعود الى حياتي الحقيقية، للحظة أحبها وأتقنها".

إنها لحظة انتصار داخلي على الموت، أو استيعاب غير معقول للتجربة، لا يراهما إلا من يجرب أن يكون فنانا في ساحة حرب.

أما الجمهور الذي يرتاد السينما، والأنشطة الثقافية، فيبدو أن الحرب خلقت لديه دوافع جديدة، جعلت من الالتفاف حول العمل الفني أمرا يمضي في الاتجاه العكسي.

يخبرنا ياغي: "في ظل الحرب زاد جمهور السينما، لأنها صارت أكثر شيء يمكنه أن يعبر عنا. عن هذا الألم الجماعي. عن هذه التجربة التي يصعب التعبير عنها بالكلمات وحدها".

لكن هذا الجمهور بدا بعيدا عن الحياة، مغتربا عن شيء اسمه المتعة، وبعيونه الذابلة، كان يستفيق من غيبوبته التي جعلت كل نظرة تجاه السينما لحظة تذكر وحزن، ونوستالجيا لكل الذكريات مع الأماكن الأشياء.

"بدت وجوه الأطفال حزينة متعبة، كأنهم لا يصدقون ما يحدث أمامهم، السينما تعود من جديد إلى الحياة". وكأن السينما أصبحت مرآة تبكي مثلنا، حين تُنصب في مسرح يحيطه الركام من كل جانب.

غياب التمويل

تبقى هذه المبادرات معلقة ومهددة بالتوقف في أي وقت، خاصة في ظل توقف معظم المنظمات الدولية عن ممارسة نشاطها وتمويلها في غزة، بفعل قيود الاحتلال.

هذه المبادرات قادرة على ترميم جزء كبير من الحالة النفسية والاجتماعية للأهالي والأطفال، حتى لو مؤقتا. حتى لو كمسكن لجراح لن تلتئم قريبا

محمد ياغي

إن بروز مثل هذه الجهود، يعبر عن استمرار المجتمع الفلسطيني في تدوير آلته الفكرية، وقدرته على إعادة إنتاج نفسه بالرغم من الوضع المتأزم داخل غزة.

يغيب التمويل عن مبادرة "سينما الشارع"، ويعمل المبادرون في ظروف قاسية، في ظل فقدان السيولة النقدية، وارتفاع العمولات على السحوبات النقدية من تجار العملة. وكذلك في ظل افتقار مقومات إنتاج العمل الفني كافة.

REUTERS/Mohammed Salem
عائلات فلسطينية أمام شاشة عرض كبيرة في مقهى على شاطئ البحر خلال حدث سينمائي نادر، في مدينة غزة، 11 أغسطس 2023

يعلق ياغي: "الأمر بالغ الصعوبة. لا أماكن متاحة، معظمها قُصف. لا كهرباء. الحرب مستمرة. الأمن معدوم. لكننا نستمر بجهودنا الذاتية، فقط لأن الحياة لا تنتظر الظروف المثالية".

تلك الظروف الصعبة تحتم على المبادرين الوقوف أمام تحديات مختلفة من أجل الوصول الى مجتمع طفولي انتهكت حقوقه كافة خلال الحرب.

الكثير من الأطفال يمرون بحالة نفسية مرضية، وهنالك إشكاليات  بدنية جراء الضغط المتزايد.

 عن قيمة السينما في مواجهة هذه الكارثة: "أكيد. هذه المبادرات قادرة على ترميم جزء كبير من الحالة النفسية والاجتماعية للأهالي والأطفال، حتى لو مؤقتا. حتى لو كمسكن لجراح لن تلتئم قريبا".

تبقى رسالة السينما وجودية محاكية للوعي البشري، تجدد حياة الإنسان، وتتفاعل مع وعيه، بحيث يخرج من طور ثباته، ويبقى دائم التطور. وفي حالة غزة، تمضي "سينما الشارع"، بينما حياة الإنسان في واقعها متوقفة، فتبدو مثل راية بيضاء بين كل المتقاتلين، تحمل معها السلام الذاتي والجمعي في آن واحد، وتطالب عجلة الحرب بالتوقف، ليست السينما وحدها تقول ذلك، فكانت رسالة الفنان محمد ياغي أيضا الى العالم: "كي تستمر السينما في غزة، أوقفوا الحرب".

font change