بينما كانت إيران تخوض الحرب الأخيرة، كانت محكمة أميركية تدين "اللبناني" الموالي لإيران هادي مطر، وتقرر سجنه خمسة وعشرين عاما، بعد إدانته بمحاولة اغتيال الروائي البريطاني-الهندي سلمان رشدي، استجابة للفتوى الشهيرة التي أصدرها المرشد الإيراني الأسبق آية الله الخميني عام 1988.
ثمة رابط موضوعي بين الأمرين، بين الحادثة والعشرات من أمثالها، وبين الحرب الأخيرة التي تخوضها. حتى إن كل واحدة منها تكاد أن تكون سببا ونتيجة للأخرى، كل واحدة منها تؤدي إلى الأخرى.
فطوال خمسة عقود، أنتج الحكم الإيراني سلسلة من الوقائع الحياتية والسلوكيات السياسية والخطابات الأيديولوجية، تجاوز في كل واحدة منها هوية ووظيفة إيران كدولة عضو في المجتمع الدولي، ملتزمة بمواثيقه ومعاييره وأعرافه. بل ثبّت هوية عامة لبلاده، تعرضه كتنظيم سري مؤدلج، يبتغي إيقاع أكبر أشكال الأذى بمن يعتبرهم مناهضيه السياسيين ومخالفيه الرمزيين. أشياء من مثل رعاية تنظيمات مسلحة وجماعات أيديولوجية في البلدان الأخرى، وتدخل وتعكير مستدام للمتن الوطني في البلدان الأخرى، وطرح أفكار ورؤى شديدة الانغلاق تجاه العام الخارجي، تقسم الحياة ومن عليها إلى عالمين متباينين ومتصارعين بالضرورة، وتلهف جنوني لخلق صورة عن الحياة وكأنها "معركة كبرى مستدامة، وقريبة الحسم".
مع كل تلك الأفكار، كان الحكم الإيراني يراكم طوال هذه العقود ترسانة مريعة من الأسلحة والبنى العسكرية والبرامج النووية المشكوك في طبيعتها، ومعها تنظيمات عسكرية لا تُحصى، منقطعة الولاء والتبعية لهيكل الدولة، لكن ذات روابط تنظيمية وأيديولوجية مع الشخص والذات الحاكمة للبلاد وذاته، وتاليا مصالحه ورؤاه. تنظيمات عسكرية غير قابلة للمراقبة والنقد والمحاسبة، لا يُمكن النفاذ إلى بنيتها الداخلية، حتى من قِبل أكثر مؤسسات البلاد شرعية، البرلمان. وطبعا تنظيمات لا تتصرف حسب المصالح التقليدية لأية دولة ومجتمعها الوطني، كالسعي لتقديم الحماية وتوفير شروط الرفاهية له، بل بناء على ما يعتبره مركز الحُكم "مصلحة الحاكمين العليا".
بينما تتجه مختلف دول المنطقة لرسم فضائها الوطني وتشكيل مؤسساتها الكيانية كعضو في المجتمع الدولي، تبدو إيران بكل هذا العسر
في هذا المقام، يصبح ما يجمع الأمرين هو "تحلل الدولة"، وفقدانها كأداة مبنية على مواثيق تعريفية ومؤطرة لآليات الفعل العام، ومؤسسات منفذة لـ"الصالح العام". فمجموع السلوكيات في الخارج والداخل تؤكد غياب ذلك تماما، مقابل حضور مكثف لذات تختصر كل المعاني والمصالح والمسارات في ذاتها، وتبني كل السلوكيات حسب مصالحها، دون ميثاقية دستورية أو مؤسسات دولتية مُحددة.
في واحد من وجوهه، يبدو هذا الأمر تخليا تاريخيا استثنائيا. فبينما تتجه مختلف دول المنطقة لرسم فضائها الوطني وتشكيل مؤسساتها الكيانية كعضو في المجتمع الدولي، وإن بخطوات وأدوات وحظوظ متفاوتة، تبدو إيران بكل هذا العسر، في مشهد معاكس تماما لما كانت عليه هذه المنطقة من العالم في أوائل القرن المنصرم.
وقتئذ، كانت إيران رائدة استثنائية في تاريخ منطقتنا، تغلي في دواخلها، طلبا للحداثة السياسية، عبر "الثورة المشروطية"/ الدستورية الإيرانية (1905-1911)، التي كانت تجربة جبارة لنفاذ الحداثة السياسية العالمية إلى ربوع منطقتنا. فالتجربة التي فرضت على الحكام القاجاريين الإقرار بدور وسلطة "مجلس النواب" وتأطير سلطة الحاكم بالدستور، فتحت الباب واسعا أمام كل شعوب منطقتنا لأن تدخل التاريخ الحديث.
فالحداثة السياسية كانت في واحدة من تجلياتها تعني أن يكون احتكار الدولة للعنف والسيادة مشروطا بانفتاحها على أمة مواطنيها، وأن تكون شفافية مؤسسات الدولة تجاههم وحقهم في مراقبتها أساس علاقتهم معها، وأن يكون التزام الحكام بالميثاق الأساسي الذي تقوم عليه سلطتهم، أي الدستور، معيار صلاحهم وبقائهم، أبدعها وثبتها الإيرانيون أولا في تاريخ منطقتنا. وثبتوا معها هوية إيران كدولة وطنية لأمة مواطنيها، وليست كيانا إمبراطوريا متجاوزا لهذه الهوية، ووحشا عنيفا متطلعا لغير مصالح وحقوق شعبه في الداخل، ومتجاوزا صورته وهويته ككيان من المجتمع الدولي في الخارج.