"الإطار التنسيقي" العراقي إزاء فشله السوري والإقليمي

حالَ الافتقار الى الأدلة العراقية ضد الرئيس السوري دون النجاح في تأطيره كعدو

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد، وقيس الخزعلي، زعيم "عصائب أهل الحق" التابعة "للحشد الشعبي" ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي، خلال إحياء الذكرى 21 لتأسيس "العصائب" ببغداد، في 3 مايو 2024

"الإطار التنسيقي" العراقي إزاء فشله السوري والإقليمي

لم يفلح "الإطار التنسيقي" في عدائه المعلن ضد "الوضع الجديد" في سوريا ولا في رفضه الشديد لرئيسها أحمد الشرع. إذ عجز عن تسجيل نقاط إقليمية أو حتى محلية عراقية ضد سوريا ما بعد الأسد. ففيما تُفتح الأبواب الإقليمية والدولية أمام الشرع على نحو متصاعد، تُغلق الكثير من هذه الأبواب أو تكاد في وجه عراق تنظر له المنطقة والعالم على أنه تابع لإيران التي تضعف على نحو متزايد، خصوصا بعد الضربات العسكرية الإسرائيلية ضدها وتهديد أميركا بضربات جديدة ضدها.

يزعج القبولُ الإقليمي والدولي المتزايد للشرع والاستعداد السياسي المصاحب لمساعدة سوريا وتأهيلها عبر دمجها في النظامين الإقليمي والعالمي "الإطارَ التنسيقي" كثيرا. فمثلا لم يكن مشهدا سارا للإطار ومؤيديه رؤية الشرع، في العاصمة السعودية، الرياض، يصافح الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ويجتمع به، بعد إعلان الأخير قراره برفع العقوبات الأميركية على سوريا، ليُتبعها بعد ذلك بتصريحات إيجابية عنه وعن رغبته في أن يرى سوريا التي عانت كثيرا تتعافى. عبر هذا المشهد كله، كان الشرع محط الاهتمام والأضواء عالميا وإقليمياَ، في وقت كان معظم الإطار التنسيقي يعترض بقوة على مجيئه للعراق لحضور القمة العربية الرابعة والثلاثين التي استضافتها بغداد. وقبل أيام من استقبال الشرع في الرياض والاحتفاء العام به هناك، كان أحد زعماء الإطار التنسيقي، رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، يحاجج بأنه لا يمكن استقبال الشرع في بغداد قائلا: "أرفض زيارة الشرع جملة وتفصيلا، وقلت ذلك في أكثر من مناسبة. مجيؤه إلى بغداد في هذا التوقيت الحساس لا يصب في مصلحة العراق". المالكي أضاف حينها أن مجيء الشرع إلى العاصمة العراقية مجازفة بحجة أن العراق لا يستطيع أن يضمن سلامته، في ما بدا تهديدا غير مباشر للشرع، وهو التهديد الذي كررته، على نحو مباشر، شخصيات قريبة من الإطار. زعيم "عصائب أهل الحق"، الشيخ قيس الخزعلي، الذي يُعد أحد الرافضين بشدة حضور الشرع في قمة بغداد، أشار، على نحو غير صحيح، إلى أن هناك أمرا قضائيا عراقيا باعتقال الشرع على خلفية أعمال إرهابية قام بها في العراق أثناء وجوده فيه بين عامي 2003 و2011، وهي الفترة التي قضى الرجل معظمها في سجون أميركية وعراقية في البلد قبل إطلاق سراحه بأيام قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية السورية ضد نظام بشار الأسد في مارس/آذار 2011.

بالنسبة للفصائل المسلحة العراقية، يُعتبر القبول بالشرع واستقباله في بغداد رئيسا لسوريا إقرارا بانتصار الطرف الذي حاربوه وتقويضا لشرعيتهم

وفي فبراير/شباط الماضي، أصدر القضاء العراقي بيانا نفى فيه الأنباء غير المؤكدة المتداولة عن وجود مذكرة اعتقال عراقية بحق الشرع. ومع ذلك، رفع ساسة من الإطار التنسيقي والمتعاطفين معه دعاوى أمام القضاء العراقي للحصول على مذكرة كهذه، من دون نجاح لحد الآن...

ليس غريبا أن يتصدر المالكي أو الخزعلي جهود العداء العراقي ضد الشرع في قمة بغداد التي كانت فاشلة على أي حال.  فالأول، عبر منصبه كرئيس للوزراء وقت اندلاع الاحتجاجات السورية ضد نظام الأسد، اتخذ القرار بوقوف العراق إلى جانب نظام الأسد ضد معارضيه، خوفا من امتداد ما عرف حينه بـ"الربيع العربي" إلى العراق في حال سقوط نظام الأسد. عمليا أدخل هذا القرار العراق في "محور المقاومة" الذي تزعمته إيران وتولت عبره الدفاع عن نظام الأسد، لتطيل عمره نحو 13 عاما. منذ ذلك القرار ابتعدَ  العراق على نحو تدريجي عن تحالفه مع أميركا ليثير ارتياب الأخيرة على نحو متصاعد لصالح تابعية متزايدة نحو إيران. أما الخزعلي الذي كان يتمتع بعلاقة وثيقة مع المالكي حينها، فقد كان فصيله العسكري، إضافة إلى "كتائب حزب الله" و"النجباء"، من الأوائل الذين طبقوا قرار المالكي، عبر دخوله في سوريا للدفاع عن نظام الأسد إلى جانب "حزب الله" اللبناني. وقد استخدمت الفصائل المسلحة العراقية حجة الدفاع عن الأماكن الشيعية المقدسة في سوريا، مقام السيدة زينب خصوصا في دمشق. ورغم أن هذه الفصائل انتشرت في جنوب دمشق حيث المقام، فإن معظم جهدها كان منصبا على مقاتلة معارضي النظام، بينهم "جبهة النصرة" و"الجيش الحر"، في مناطق مختلفة في سوريا كحلب وتدمر وحمص، فضلا عن تأمينها طريق الإمداد الطويل القادم من العراق الذي استخدمته إيران والفصائل العراقية لنقل المساعدات العسكرية والأفراد لإدامة معركة الدفاع عن نظام الأسد.

وبالنسبة للمالكي والخزعلي وزعماء الفصائل المسلحة العراقية التي شاركت في هذه المعركة، يُعتبر القبول بالشرع سياسيا واستقباله رسميا في بغداد رئيسا لسوريا والتعاون معه من أجل علاقات طبيعية ومثمرة بين البلدين إقرارا بانتصار الطرف الذي حاربوه وتقويضا لشرعيتهم كزعماء وتذكيرا بالقرارات الخاطئة التي اتخذوها، والأهم من ذلك كله، تهديدا لمستقبلهم السياسي، خصوصا في ظل الانتخابات البرلمانية المقبلة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني نهاية هذا العام. يحرصُ متشددو الشيعة داخل الإطار التنسيقي وخارجه، منذ إسقاط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، على صناعة إجماع "وطني" عراقي بخصوص "أبو محمد الجولاني" على أساس أنه إرهابي و"ذباح" أمعن في سفك دماء العراقيين، خصوصا الشيعة منهم، ليقدموا مثل هذه التوصيفات ضد الرجل على أنها بديهيات لا تستحق نقاشا أو تحتاج إثباتا، بالمنزلة نفسها التي يحتلها "أبو مصعب الزرقاوي" و"أبو بكر البغدادي" في التصنيف السياسي والشعبي العراقي.

أ.ف.ب
فلاح الفياض، قائد قوات الحشد الشعبي العراقية في زيارة للحدود العراقية السورية في 5 ديسمبر 2024

سُخّرت ماكينة إعلامية ضخمة لهذا الغرض، لكنها لم تُفلح في هذا، لأن السجل العراقي للرجل لا يدعم مثل هذه الاستنتاجات المبالغ بها كثيرا، بل يذهب هذا السجل غالبا بالاتجاه المعاكس لها وبالأدلة الرسمية العراقية والأميركية التي لا يمكن الالتفاف عليها.  زاد الأمر صعوبة على هؤلاء المتشددين خطابُ الشرع نفسه في أثناء العملية العسكرية "ردع العدوان" التي استمرت 12 يوما  وأطاحت عبرها "هيئة تحرير الشام"  بنظام الأسد، وبعد تحوله رئيسا فعليا لسوريا. في هذه، لم يتحدث الشرع كجهادي متطرف مهووس أيديولوجياً، مهتم فقط بإيقاع الأذى بخصومه بالاستناد على دعاوى دينية واثقة، كما كانت خطب الزرقاوي والبغدادي وغيرهما من زعماء "القاعدة" و"داعش" حيث اليقين الديني المتطرف واللغة المُهددة العالية التي تتوعد بالقتل وبالحرب الدائمة. على العكس من ذلك، كان الرجل يتحدث كسياسي يهتم بالمصالح الحديثة وليس بالعقائد القديمة التي هيمنت على خطابه في سنوات تشدده الجهادي السابقة، ويبعث برسائل تطمين مختلفة، نحو العراق وغيره، ويعلن رغبته بالتعاون على أساس الفوائد المتبادلة.

حالَ هذا الخليط من افتقار الأدلة العراقية ضد الرجل وخطابه البرغماتي على رأس السلطة السورية دون النجاح في تأطيره كعدو مقبل مُحفز بمشاعر كراهية نحو الشيعة تغذي رغبات الانتقام منهم.

يراقب العراقيون باهتمام عال، ما يجري في سوريا منذ الإطاحة بالأسد لأن ما يحدث فيها يُذكرهم بما حدث في بلدهم بعد الإطاحة الأميركية بنظام صدام حسين

لكن الإطار التنسيقي يحتاج الشرع كعدو لأسباب عراقية،  بعضها حقيقي موضوعي مرتبط بالوقائع الطويلة الأمد، وبعضها الآخر نفعي ضيق له علاقة بالبنية الهوياتية الطائفية للأحزاب الشيعية الحاكمة. موضوعيا، يخشى الإطار من تأثيرات التحول السوري على العراق، لأسباب مفهومة تماما. بعد أسابيع من نهاية نظام الأسد، تناولَ المالكي مثلا، في بداية شهر فبراير/شباط الفائت، مسار الأحداث في سوريا في سياق القلق من تحديات سيواجهها العراق بسبب هذا المسار المفترض: "نحن الآن في صلب الفتنة التي نخشاها سواء كان في المنطقة أو في العراق. الذي حصل من اهتزاز في المنطقة أخيرا، أيها الإخوة، وأنتم تراقبون كيف انتهت سوريا كبلد مركزي محوري، انتهت تحت الإدارة التركية الإسرائيلية في الوقت نفسه... وكيف أصبح الحكم بيد من كانوا عندنا هنا في العراق يمارسون العمل الإرهابي وكانوا سجناء. وهل من المعقول أن الإرهابيين يستطيعون أن يحكموا بلدا مثل سوريا متنوع الأعراق والمذاهب والأديان؟ قطعا، لا".

في سياق خطابه هذا الذي ألقاه في محافظة كربلاء حذر المالكي متابعيه من احتمالات مواجهة مقبلة، قائلا: "في المقابل لا تطمئنوا ولا تستسلموا فهناك من يريد أن يكرر تجربة سوريا في العراق، ولكن نقول بكل صراحة العراق الآن بلد مستقر تحكمه آليات انتخابية وديمقراطية".

رويترز
تظاهرة ضد دعوة الرئيس السوري أحمد الشرع لحضور قمة جامعة الدول العربية في بغداد، في البصرة، العراق، 12 مايو

وبعد نحو أسبوعين، في سياق خطاب آخر وجهه هذه المرة لحركة البشائر التابعة لائتلاف "دولة القانون"، كرّرَ الرجل تحذيره من أن على العراقيين أن يكونوا مستعدين "لمواجهة تحديات قد تطرق أبوابنا" من أجل "حماية مجتمعنا وحماية بلدنا من الاختراقات ومحاولات الإسقاط والتأثير والتغيير". ثمة تنويعات مختلفة لتحذيرات المالكي وقلقه برزت، وعلى نحو منتظم تقريبا، في تصريحات ساسة "إطاريين" آخرين منذ نهاية نظام الأسد.

بعيدا عن التأطير السلبي والمؤامراتي في تصريحات الساسة الإطاريين بخصوص سوريا، تمسك هذه التصريحات ببعض الحقيقة التي تتعلق بالترقب العراقي العام، شعبيا وسياسيا، بخصوص مآلات التجربة السورية في ظل الإقرار الواسع عراقيا، الذي يختفي في هذه التصريحات، بأن تجربة التحول في العراق بعد 2003 فاشلة. يراقب العراقيون باهتمام عال، تعوزه الدقة في الفهم غالبا، ما يجري في سوريا منذ الإطاحة بالأسد لأن ما يحدث فيها يُذكرهم بما حدث في بلدهم بعد الإطاحة الأميركية بنظام صدام حسين.

وبسبب تجاور البلدين بالصلات المتبادلة التي يصنعها التجاور الجغرافي عادة، وتشابه نظامي الحكم السابقين فيهما (نظام بعثي قمعي أدار دولة شمولية تمحورت حول "القائد الضرورة")، واجهَ البلدان تحديات متشابهة بخصوص كيفية التعاطي مع تركة الماضي والتنوع الديني والإثني وإدارة الدولة الجديدة في أثناء المرحلة الانتقالية. وإذا كان الانتقال العراقي، بعد أكثر من عشرين عاما على بدئه، مخيبا، يثير الانتقال السورى الكثير من الفضول، سلبا وإيجابا، الذي يمكن أن يتحول إلى مصدر للإلهام في العراق في حال نجاحه. وهذا أشد ما يقلق "الإطار التنسيقي"، ومن هنا إصرار هذا الأخير على إحاطة الشرع وكامل التجربة السورية التي يقودها بتفسيرات طائفية ومؤمراتية تقوم على استنفار أخطار مقبلة ينبغي الاستعداد لمواجهتها من الآن، لقطع الطريق على احتمالات تعاطف عراقي، شيعي خصوصا، مع نجاح سوري مجاور يُذكِّر بالفشل العراقي والمتسببين العراقيين به…

قلق آخر وربما أعمق يواجهه "الإطار" هذه الأيام، يتعلق بضعف حليفه الإقليمي وراعيه الأساسي: إيران التي طالما استقوى بها ضد خصومه المحليين من "تشرينيين" وصدريين وسنة

يثير هذا التأطير الإشكالي في العراق لسوريا ما بعد الأسد الجانب الهوياتي الطائفي في الأحزاب الشيعية الحاكمة.  وتستعد هذه الأحزاب لخوض الانتخابات البرلمانية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل وهي تواجه فيها تحديين. الأول هو تحد سني عراقي مُحرك بالإلهام السياسي والهوياتي الذي أثارته بين السنة العراقيين سوريا تحت قيادة الشرع، ما يدفعهم، عبر سياسييهم الذين سينتخبونهم، لرفض علاقة التابعية الحالية بينهم والأحزاب الشيعية الحاكمة في بغداد، والإصرار على علاقة ندية قائمة على المساواة (تتضمن بعض خطوطها العريضة إنهاء النفوذ الاقتصادي والوجود الميليشياوي للأحزاب الشيعية في المناطق السنية، وقول سني في تقرير السياسات وصناعة القرار في بغداد، وليس مجرد حصة في المناصب بلا تأثير سياسي). من هنا كان تلويح جهات إطارية مؤثرة، بينها المالكي نفسه، باحتمال ذهاب الشيعة نحو الإقليم الفيدرالي أو الانفصال بدولة مستقلة فيها معظم الثروة النفطية العراقية. أما التحدي الثاني فهو القادم من رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذاهب نحو تشكيل تحالف انتخابي منافس سيكون فيه تمثيل سني على الأغلب ولا يقوم على استنفار الهوية الطائفية. وأحد أهم نقاط الاختلاف بين السوداني وصقور الإطار التنسيقي هو سوريا الجديدة وكيفية التعامل معها، ففيما يعتبر هؤلاء الصقور سوريا بقيادة الشرع عدوا تنبغي مواجهته، يريد السوداني تطبيعا كاملا، سياسيا واقتصاديا، للعلاقة مع سوريا، أي  سوريا الشريكة وليس سوريا العدوة.

أ.ف.ب
أعضاء في "حركة النجباء" العراقية يلوحون بالعلم الفلسطيني خلال تجمع حاشد في بغداد في 8 أكتوبر 2023، للتعبير عن دعمهم لعملية "طوفان الأقصى"

لذلك كان هناك غضب بين قوى "الإطار التنسيقي" من لقاء السوداني بالشرع في قطر بحضور أميرها الشيخ تميم بن حمد في منتصف أبريل/نيسان الفائت لأن هذا اللقاء منح الزعيم السوري شرعية الإقرار العراقي به رئيسا لبلد مجاور، وليس اتهاما بتزعم عصابة الذي يصر عليه "الإطار التنسيقي"، فضلا عن تاكيدات الشراكة والتعاون بين البلدين في البيانات الرسمية المختلفة التي صدرت بعد اللقاء. على الأغلب، زاد هذا اللقاء من إصرار الإطار على إفساد حضور الشرع في قمة بغداد، كتذكير للسوداني بحدود قوته التي ينبغي له أن لا يتجاوزها أولا، وثانيا لضمان أن لا تتحول استضافة عراقية سلسة وناجحة للقمة إلى نجاح للسوداني يمكن أن يوظفه الرجل انتخابيا في التنافس المقبل في نوفمبر. 

قلق آخر وربما أعمق يواجهه "الإطار" هذه الأيام، يتعلق بضعف حليفه الإقليمي وراعيه الأساسي: إيران التي طالما استقوى بها ضد خصومه المحليين من "تشرينيين" وصدريين وسنة. ومع احتمال ضغوط أميركية مقبلة ضد ذراعه الميليشياوية، الفصائل العراقية المسلحة، تبدو خيارات الإطار قليلة وشاحبة ستظهرها إلى العلن، على الأغلب، الانتخابات البرلمانية المقبلة.

font change