تتصرف إسرائيل على أساس أن الظرف الراهن، الإسرائيلي والفلسطيني والإقليمي والدولي، يشكل فرصة سانحة لها لشن حرب مدمرة على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية (19 مخيما)، بالتوازي مع حرب الإبادة الوحشية التي تشنها، منذ عشرين شهرا، ضد فلسطينيي غزة.
في تلك الحرب تنتهج إسرائيل خطة تفضي إلى تقويض البنى التحتية لكثير من المخيمات، مع تجريف أحياء منها، بهدف تغيير معالمها وحتى محوها عن الخريطة، في سياق سعيها إعادة الهندسة الجغرافية والديموغرافية في الضفة والقطاع، بما يعزز هيمنتها على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، وبما يفضي إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني، وتاليا وأد فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، وصولا لتصفية قضية اللاجئين، نظريا وعمليا.
حاليا، تتركز حرب إسرائيل ضد المخيمات التي شكلت بؤرة للمقاومة المسلحة في الضفة، كمخيمات جنين وطولكرم وعين شمس في طولكرم، وبلاطة في نابلس، والفارعة في طوباس. وبالطبع فإن هذا الاستهداف يشمل تكبيد الفلسطينيين خسائر بشرية فادحة، بحيث ذهب ضحيتها 414 فلسطينيا، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى الآن، (من أصل 986 هم ضحايا الرصاص الإسرائيلي في كل الضفة)، مع 1390 جريحا، و2540 حالة اعتقال، وتدمير 1540 مبنى، ونزوح أكثر من 52 ألف مواطن من المخيمات، بحسب الإحصائيات الرسمية الفلسطينية، ما يؤكد أن إسرائيل تنتهج سياسة الترويع، والسحق لإخضاع الفلسطينيين، بمثال غزة، ومثال مخيمات الضفة أيضا.
اللافت أن ذلك الاستهداف يتضمن تدمير مباني وكالة الغوث (أونروا)، والتضييق على أنشطتها، لحرمان الفلسطينيين من خدماتها الواسعة في مجالات التعليم والصحة والإغاثة والخدمات البلدية، وهو ما ينسجم مع موقف إسرائيل القاضي بإنهاء خدمات "الأونروا" نهائيا، بما ينسجم مع موقفها السياسي القاضي بالتنصل من أي مسؤولية إزاء قضية اللاجئين الفلسطينيين، وتاليا تصفية الحقوق الوطنية المشروعة لهم، وضمنها حقهم في العودة والتطبيع.
وما يفترض إدراكه، بهذا الخصوص، أن إسرائيل حققت بعض النجاحات في تفكيك حق العودة للاجئين، بداية من فرضها سردية جديدة على الفلسطينيين، بإزاحتهم من سردية النكبة (1948)، التي انبثقت من إقامة إسرائيل، وولادة مشكلة اللاجئين، إلى سردية احتلال إسرائيل للضفة وغزة (1947).
اللاجئون الفلسطينيون في الداخل والخارج يتعرضون لمحاولات تفكيك وجودهم الاجتماعي، عبر محو المخيمات
ومعلوم أن الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، حينما انطلقت (1965) كانت لخصت هدفها، أو بررت ذاتها، بهدف "التحرير"، لكنها ما لبثت بعد عشرة أعوام أن ذهبت نحو تكييف أو تطبيع ذاتها مع الواقع، وتبعا لإمكانياتها، ووفقا للمعطيات العربية والدولية، وذلك بتبنيها البرنامج المرحلي الذي لخص حقوق الفلسطينيين المشروعة بحقهم في تقرير المصير، والعودة، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع.
لكن بعد عقد اتفاق أوسلو (1993)، بين إسرائيل والقيادة الفلسطينية، حصلت انعطافة سياسية أخرى، فبعد النكوص عن هدف التحرير، إلى هدف إقامة دولة في جزء من الأرض لجزء من الشعب، جرى النكوص عن حق العودة للاجئين لصالح الدفع بهدف إقامة دولة فلسطينية. وفي المحصلة فقد نجم عن هذا التحول تهميش مكانة اللاجئين الفلسطينيين في المعادلات السياسية، وتهميش كيان "منظمة التحرير" لصالح كيان السلطة، من دون أن تتحول تلك السلطة إلى دولة بمعنى الكلمة، بل ظلت سلطة تحت سلطة الاحتلال.
على ذلك، في حين كان لدى اللاجئين الفلسطينيين كيانان يرمزان لقضيتهم، أو يعبران عنها، كل بحسب وظيفته، هما: "منظمة التحرير الفلسطينية"، و"وكالة غوث اللاجئين" (أونروا)، فإن هذين الكيانين باتا في مهب الريح، إذ تضاءل دور المنظمة، في حين تواجه "وكالة غوث اللاجئين"، محاولات إسرائيلية وأميركية، لشطبها، أو تحجيمها ما أمكن، بالوسائل السياسية والإدارية والمالية.
في هذه الظروف والمعطيات، فإن اللاجئين الفلسطينيين في الداخل والخارج يتعرضون لمحاولات تفكيك وجودهم الاجتماعي، عبر محو المخيمات، وهذا حصل في مخيمات لبنان وسوريا، التي تعرضت للتدمير والحصار، ما اضطر أعدادا كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، في هذين البلدين، للهجرة إلى بلدان غربية. أيضا، هذا بات يحصل اليوم في مخيمات الضفة الغربية، التي تتعرض للتدمير، وإجبار الفلسطينيين فيها على النزوح عنها إلى مناطق أخرى، علما أن كل ذلك يجري بعد تدمير كل مخيمات غزة تدميرا تاما.
على ذلك، فإن القصة لم تعد تتوقف على تغيير السردية الوطنية الفلسطينية المؤسسة، فقط، ولا على دفع هدف حق العودة للاجئين الفلسطينيين للخلف، على نحو ما جرى في اتفاق أوسلو، إذ بات ذلك يشمل أيضا تفكيك وجود الفلسطينيين في مخيمات لبنان وسوريا، بل وتفكيك المخيمات ذاتها أو محوها على نحو ما جرى في غزة، ويجري في جنين وطولكرم ونابلس، وهو ما جرى في كثير من مخيمات سوريا، ولا سيما مخيم اليرموك.
وعن ذلك يقول الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي:
ترانسفير مخيمات اللاجئين. لا تقولوا إنه لا يوجد برنامج... يوجد. وهو برنامج شيطاني: إخلاء كل مخيمات اللاجئين في الضفة وتخريبها. وحل مشكلة اللاجئين. وقد بدأ هذا بتصفية "الأونروا" وهو يستمر بجرافة "دي-9". حيث طُرد 40 ألف شخص، وبدأ هدم بيوت بعضهم. المخيمات الثلاثة الموجودة في الشمال هي الآن فارغة من السكان ومدمرة. هذه ليست مكافحة لـ"الإرهاب". في هذه المكافحة لا يدمرون البنى التحتية للمياه والكهرباء والمجاري والشوارع. هذا تدمير لمخيمات اللاجئين. هذا لن يتوقف في نور شمس، أو في بلاطة وعسكر. حتى آخر المخيمات، الفوار الذي يوجد في الجنوب، لن يبقي أي شيء.
هذا ما تفعله إسرائيل الآن. نكبة... للمعرفة". ("هآرتس"-1/3/2025).