هل التفكير تحليل وتبسيط أم أنه تركيب وتعقيد؟

بين منهج العرض ومنهج الاكتشاف

هل التفكير تحليل وتبسيط أم أنه تركيب وتعقيد؟

"قلة هم أولئك الذين يرتقون عندما ينزلون خطوات الى الوراء" - فريدريك نيتشه

على إثر نشر مقالي في "الكذب في عالم سوء التفاهم" في موقع "المجلة" الغراء (16/06/2025)، علق أحد الزملاء الذين أقدرهم وأعزهم متسائلا: "هل هناك جمهور يقرأ هذا الطرح العميق للأفكار في الصحف؟".

ربما لم يعمل الزميل إلا على بلورة سؤال أستحضره عند كل كتابة، خصوصا عندما صارت هذه تعتمد "الوسائط الجديدة" أساسا: هل الفكر بناء "حقائق"، أم هو مقاومة أخطاء؟ بلغة جيل دولوز: هل الفكر يجيب عن "استفسارات"، أم يولد "أسئلة"؟ هل مرمى الكتابة هو الوقوف عند بسائط الأمور و"تصيد وضوح جامع" مهما كانت "قوة" ذلك الوضوح، أم أنه سعي وراء دفع الكاتب والقارئ إلى استبعاد الوضوح "السهل"، وانتهاج طريق "الصعوبة" مع ما تتطلبه من ترو وبطء وتردد، وما يتمخض عن ذلك من تعثر وتلكؤ، وفشل في بعض الأحيان؟

فيلسوف البداهة

عندما نذكر "البساطة والوضوح" ينصرف ذهننا، ولا شك، إلى من سمي "فيلسوف الوضوح والبداهة"، أعني مؤسس الفلسفة الحديثة، رينه ديكارت. غير أن الأمر ربما ليس بالبساطة ولا الوضوح الكافيين حتى عندما يتعلق بهذا الفيلسوف. ما زلت أذكر إلى اليوم عبارة أستاذنا في تاريخ الفلسفة، المرحوم نجيب بلدي، عندما كان ينبهنا بلهجته المصرية المحببة إلى تعقد الأمور في ما يخص مؤسس الفلسفة الحديثة فيردد: "خذوا بالكم، ديكارت ليس ديكارتيا". كان ذلك تعقيبا على امتحان كان السؤال المطروح فيه: "هل طبق ديكارت المنهج الذي تحدث عنه في كتابي "القواعد" و"المقال" على كتاب "التأملات"؟ كان رأي أستاذنا أن منهج "القواعد" لا يمكن أن يطبق إلا على "الامتداد" الذي هو علاقات ونسب، وأن "الفكر"، يقتضي منهجا مخالفا ليس هو، على أي حال، ما اشتهر بـمنهج ديكارت الذي يمتدح الفكر التحليلي، وينتقل من البسيط نحو المعقد، ومن التحليل نحو التركيب.

نعلم أن مؤسس الفلسفة الحديثة سيضطر، في أحد أجوبته على الاعتراضات التي وجهت إلى كتابه، إلى التمييز بين ما أطلق عليه "منهج العرض" وما دعاه "منهج الاكتشاف". هذا التمييز يجعل الكتابة مجرد عرض لما سبق اكتشافه، ولن تدخل قط في صميم عملية إنتاج المعنى بحيث لن تتمكن من الاكتشاف إلا عندما تكشف. آنئذ يغدو العقل قدرة، لا على التوليد المسترسل، وإنما على التراجع المتواصل.

تاريخ العلوم، الذي هو تاريخ منتوجات العقل، هو أولا وقبل كل شيء، تاريخ العثرات والأخطاء والأزمات

لطالما اقترن العقل والعقلانية عندنا بالظفر والتقدم والبناء والنماء. غير أن التفاتا إلى تاريخ العلوم، وخصوصا تلك التي اعتبرت مهد العقلانية وأنموذجها الأرقى، وأعني الرياضيات، من شأنه أن يبين لنا أن ذلك الاقتران أقرب إلى الوهم منه الى الواقع الفعلي. فتاريخ العلوم، الذي هو تاريخ منتوجات العقل، هو أولا وقبل كل شيء، تاريخ العثرات والأخطاء والأزمات.

Photo by Fine Art Images/Heritage Images/Getty Images
الفيلسوف رينه ديكارت (1596–1650)

أشكال العقلانية

توضيحا لذلك، ربما يتطلب الأمر التمييز بين شكلين من أشكال العقلانية: عقلانية ظافرة تنشد غزو المجاهيل، لا تنفك تحقق انتصاراتها، وعقلانية "مجاهدة" لا تنفك ترتد على أعقابها وتصحح أخطاءها، وتسترجع ما فاتها. إنها عقلانية لا يهمها ما تحققه من انتصارات، وإنما ما تتفاداه من هزائم، وما تتخطاه من عقبات، وما تتجاوزه من أزمات. هي إذن عقلانية تتغذى على فشلها، ولا تنفك تحس بأن الفشل يلاحقها. والمفارقة هنا هي أن هذا الإحساس وهذا التشرب لـ"ثقافة الفشل"، هما الكفيلان بأن يجعلا العقل ينتصر و"يتقدم" وينمو.

Wikimedia Commons
غاستون باشلار

لكي ينتج العقل موضوعاته ويهذب مناهجه، لا يكون عليه أساسا أن يتطلع إلى أمام، وإنما أن ينظر الى خلف، لا أن يراكم حقائق فوق ما تراكم من بداهات، وإنما أن يراجع ويعيد النظر، يجتهد ويجاهد، يصارع ويقاوم. فكأنه دوما عقل مخدوع تنصب له الكمائن، وتدبر له المكائد، وكأن سعيه الدائم هو فقدان الثقة في أدواته، والشك في يقينياته، و"اتهام" الوضوح. وهكذا، كلما بلغ مرماه انتابه نوع من "الندم الفكري" على حد تعبير باشلار. ما يعني أن الفكر لا يتوصل إلا إلى ما كان ينبغي معرفته. هذا ما يجعله روية وترويا أكثر منه عجلة واندفاعا. إنه توقفات وقطائع وانفصالات، ورجوع إلى الوراء، أكثر منه مواصلة وجريانا وانسيابا، وهو انعكاس يرتد على أعقابه مثلما يتراجع الشعاع الضوئي منعكسا على سطح المرآة réflexion.

كأنه دوما عقل مخدوع تنصب له الكمائن، وتدبر له المكائد، وكأن سعيه الدائم هو فقدان الثقة في أدواته، والشك في يقينياته

لعل هذا هو ما دفع الفكر المعاصر إلى أن يعيد النظر في المنزلة الأنطولوجية والمعرفية للخطأ. صحيح أن أصحاب نظرية المعرفة التقليدية، كانوا، هم كذلك، يأخذون الخطأ بعين الاعتبار في عملية المعرفة، إلا أنهم سرعان ما كانوا يتحايلون لاستبعاده بهدف إقامة "الحقيقة" وبناء صرحها، إذ لم يكن وجوده عندهم إلا وجودا عرضيا. وعودة إلى ديكارت، نحن نعلم أنه كان افترض "شيطانا ماكرا" يخدع العقل ويغشه. بل إنه جعل في العقل نفسه فعاليات تعوقه عن المعرفة مثل الذاكرة والخيال، وعلى رغم ذلك فإن العقلانية التقليدية لم تكن لتجعل الخطأ يتمتع بقوة تمكنه من أن يصمد ويستمر في الوجود. فقد كانت هناك دوما لحظة يرتفع فيها الخطأ ويزول ليدع المكان للمعارف الصائبة اليقينية. وما المهمة التي تبناها ديكارت لإقامة منهجه إلا طريق للتمكن من "حسن قيادة العقل" كما يقول، وتجنيبه الوقوع ضحية الأخطاء.

إعادة اعتبار

هذا الوجود "العرضي" للخطأ هو ما سيقوم ضده الفكر "التركيبي" ابتداء من كانط الذي سيجعل الأوهام من صميم العقل، إلى أن نصل إلى فلاسفة "الجدل" الذين سيقولون بـ"مكر التاريخ"، حتى ماركس الذي سيجعل الأيديولوجيا من صميم البنية الاجتماعية. هنا لن تعود الأخطاء والأوهام من قبيل الكائنات العرضية الزائلة التي قد يعفينا منها قليل من الحذر وحسن النية وعدم التعجل والسبق إلى الحكم ومراعاة قواعد بعينها، وإنما ستغدو من مكونات الذهن البشري بما هو كذلك، بل من دعائم البنية الاجتماعية ذاتها.

Photo by adoc-photos/Corbis via Getty Images
جورج كانغليم (1904–1995)، فيلسوف وطبيب فرنسي من مدينة كاستلنوداري، فرنسا. نحو عام 1935

ينبهنا الإبيستمولوجي ومؤرخ العلوم الفرنسي جورج كانغليم إلى الأهمية الكبرى لفيلسوف العلم الفرنسي غاستون باشلار والدور الأساس الذي لعبه في هذا المجال. ذلك أن الفضل كل الفضل يرجع في نظره إلى صاحب "الإبيستمولوجية اللاديكارتية" في إعادة الاعتبار الى مفهوم الخطأ وتنزيله المنزلة التي يستحق. فهو الذي أوضح أن الفكر هو، أولا وقبل كل شيء، قدرة على الغلط، وأن للخطأ دورا إيجابيا في نشأة المعرفة العلمية. فالحقيقة تستمد معناها عند باشلار، من حيث أنها تقويم لأخطاء. فكأن "وجودها" مدين للخطأ. بل إن "صورة الفكر العلمي ذاته ليست إلا حقيقة منسوجة على أرضية من الخطأ". إذ "لا وجود لحقائق أولى ومعارف بدهية، بل إن الأخطاء هي الأولى". ففي البدء كان الخطأ. و"كل حقيقة جديدة تولد بالرغم من البداهة" و"كل تجربة موضوعية صحيحة يجب أن تحدد دوما كيفية تصحيح خطأ ذاتي". فليس الخطأ والجهل، في نظر صاحب "فلسفة اللا" نقصا وعيبا ولا وجودا. ليس الجهل فراغا معرفيا، الجهل كثافة وامتلاء. والمعرفة "لا تصدر عن الجهالة مثلما ينبثق النور من الظلمة". الجهل بنية متماسكة: "إنه نسيج من الأخطاء الإيجابية الملحة والمتماسكة".

إن الفكر، وهو أمام المعرفة العلمية "لا يكون قط حديث النشأة، بل يكون شيخا مثقلا بالسن لأنه يحمل من ورائه عمرا طويلا، هو بالضبط عمر أخطائه"

إن الفكر، وهو أمام المعرفة العلمية "لا يكون قط حديث النشأة، بل يكون شيخا مثقلا بالسن لأنه يحمل من ورائه عمرا طويلا، هو بالضبط عمر أخطائه". وعندما يبلغ الحقيقة، فليس ذلك تطلعا إلى أمام، بل مراجعة ورجوع إلى خلف. فكل حقيقة هي دوما ما كان ينبغي أن نعتقده، وليس ما ينبغي علينا اعتقاده. كل بلوغ لحقيقة لا بد أن يصاحبه نوع من "الندم الفكري".

تراجع وندم

لن تعود مسألة المعرفة، والحالة هذه مسألة نمو وبناء، وإنما ستغدو تراجعا وندما على ما فات وما وقع الفكر ضحيته.

Photo by Bernard PascucciINA via Getty Images
غاستون باشلار في منزله خلال مقابلة تلفزيونية لبرنامج "في سنة، في يوم"

هذا الالتفات إلى ما فات، وهذا الرجوع قد يسمى جيينالوجيا الحقيقة، أو حفريات المعرفة أو التاريخ التكويني، إلا أنه يتبع الاستراتيجيا ذاتها. لكن ما ينبغي تأكيده هنا هو أن هذه الاستراتيجيا، بما هي استراتيجيا مضادة، فإنها لا يمكن أن تقوم في انعزال عن مقابلتها، إنها تقوم أساسا ضدها ولتقويضها والحفر في مسبقاتها. فلا بناء من غير تقويض، ولا حقيقة من دون أخطاء. لذا، فهي بالتحديد، نضال ومواجهة. وهي لا تجد الطريق معبدا، والنهج ميسرا، وإنما عليها أن تتحمل الصعوبات، بل وأن ترى إلى الأمور من حيث مقاوماتها و"صعوبتها".

لا مفر لإعمال الفكر أن يغدو، والحالة هذه، حدا من الاندفاع، و"ترويا" بالمعنى القوي للفظ. إنه إيقاف وفرملة وكبح. وهو نوع من "بعث الفراغات" مقابل امتلاء يقينيات الدوكسا و"بادئ الرأي". في هذا المعنى كتب موريس بلانشو: "في فقرنا الفكري يكمن غنى الفكر. فالفقر يجعلنا نحس أن التفكير يعني دائما أن نتعلم كيف نفكر أقل مما نفكر، أن نفكر في الغياب الذي هو الفكر، وأن نحافظ على ذلك الغياب عندما ننقله إلى الكلام". الفكر إذن غياب وتفكير في الغياب. فأن نفكر هو أن نتعلم كبح جماح الفكر، أن نتعلم أن نفكر أقل. هذا "الأقل"، هذا الخصاص والعوز manque ، هو خصاص نسبة إلى اغتناء وهمي، نسبة إلى وهم اغتناء. لا غرابة، والحالة هذه، أن يقترن الفكر اليوم، ليس باليسر والتراكم والبناء والتشييد، وإنما بالعسر والنقد والتراجع والحفر و"فك البناء". فهو ليس أساسا "بناء حقائق"، وإنما "مقاومة أخطاء".

font change

مقالات ذات صلة