الأسد وجنبلاط... اللقاء الأخير (4-6)

الزعيم الدرزي: ما يحدث في لبنان هو حرب تحرير شعبية تهدف لفرض نظام سياسي جديد

المجلة
المجلة

الأسد وجنبلاط... اللقاء الأخير (4-6)

تنشر "المجلة" على ست حلقات محاضر اجتماعات الرئيس السوري الاسبق حافظ الاسد والزعيم الدرزي وقائد الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط قبيل وأثناء الحرب الأهلية اللبنانية والتي شهدت نهاية العامين الأولين منها دخول القوات السورية إلى لبنان واغتيال كمال جنبلاط على أيدي من يُعتقد أنهم عناصر من أجهزة المخابرات السورية سنة 1977. هنا الحلقة الرابعة.

المقدمة: وثائق سرية سورية عن الدخول إلى لبنان واغتيال كمال جنبلاط

الحلقة الأولى: الأسد "يستجوب" جنبلاط عن خصومه في لبنان... ويرفض عودة "البعثيين" إلى سوريا

الحلقة الثانية: ما بعد عين الرمانة... لبنان على شفا الحرب الأهلية

الحلقة الثالثة: من "السبت الأسود" إلى الدامور: حوار وسط المجازر

تكللت جهود وساطة الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد بالنجاح في 22 يناير/كانون الثاني 1976. وأعلن الرئيس اللبناني سليمان فرنجية وقف إطلاق النار برعاية سورية.

جاء ذلك بعد يومين من زيارة زعيم "الحركة الوطنية اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" كمال جنبلاط الأخيرة إلى دمشق. ومن أولى النتائج الإيجابية كانت إعادة افتتاح مطار بيروت وسحب استقالة رئيس الحكومة رشيد كرامي.

كما نجحت الوساطة السورية أيضا في جمع الأطراف على برنامج إصلاحي يتضمن المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في المقاعد النيابية والوظائف الحكومية، بالإضافة إلى إصلاحات اقتصادية واجتماعية. وزار فرنجية دمشق في فبراير/شباط 1976. وأعلن بعدها عن "الوثيقة الدستورية" التي نصّت على المناصفة ووجوب موافقة رئيس الوزراء على التشريعات. لكنها لم تتطرق إلى بقاء منصب قائد الجيش في الطائفة المارونية. كما نصت الوثيقة على عودة الفصائل الفلسطينية إلى حدود اتفاقية القاهرة 1969، قبل بدء الإصلاحات.

وفي 11 مارس/آذار 1976، قاد الضابط في الجيش اللبناني عزيز الأحدب انقلابا فاشلا على سليمان فرنجية سمي "الانقلاب التلفزيوني". ورغم تأييد جنبلاط له، فإن الانقلاب لم يكن له أي تأثير سوى في زيادة الاحتقان ضد فرنجية، ما دفع فصيل "جيش لبنان العربي" المنشق عن الجيش اللبناني (بقيادة أحمد الخطيب) إلى قصف القصر الرئاسي. وتصدّت له قوات "جيش التحرير الفلسطيني" الموالية لسوريا، وكان الأسد قد أرسل وحدات من هذا الجيش ومن منظمة "الصاعقة" الفلسطينية الموالية لدمشق، للفصل بين الميليشيات المتنازعة منذ نهاية عام 1975، قبل ستة أشهر من تدخل الجيش السوري في ليلة 31 مايو/أيار–1 يونيو/حزيران 1976.

حاولت سوريا إيجاد مخرج للأزمة وفق تصورها، فتم التوصل لاتفاق مع رئيس الجمهورية سليمان فرنجية على تعديل الدستور لانتخاب رئيس جديد قبل شهر سبتمبر/أيلول 1976. ورفض جنبلاط هذه الصيغة وأعلن في 22 مارس/آذار 1976 رفضه لمشروع التسوية، مطالبا سوريا برفع يدها عن لبنان لتتمكّن القوى الوطنية من إقامة حكم "تقدمي" مناديا بمعركة "شاملة لا رجعة عنها". تصاعدت المعارك ابتداء من 24 مارس/آذار، وقامت قوات "الحركة الوطنية" التي يتزعمها جنبلاط باجتياح الشطر المسيحي من جبل لبنان، بمساعدة من الفلسطينيين، وتوسعت سيطرتهم لتشمل معظم المناطق اللبنانية.

طلب ياسر عرفات من كمال جنبلاط الذهاب إلى دمشق للقاء الرئيس حافظ الأسد، لكن الأخير رفض استقباله قبل وقف القتال

اللقاء الأخير الفاصل: 27 مارس 1976

طلب ياسر عرفات من كمال جنبلاط الذهاب إلى دمشق للقاء الرئيس حافظ الأسد، لكن الأخير رفض استقباله قبل وقف القتال. ومع اشتداد حدة المواجهات، دعت أطراف وشخصيات لبنانية بارزة دمشق إلى التدخل لوقف تمدد جنبلاط، وعلى رأسها البطريرك الماروني مار أنطون بطرس خريش. وافق الأسد على استقبال جنبلاط، تزامنا مع تحرّك سريع من مجلس الأمن الدولي، وتكثيف الاتصالات الدبلوماسية الفرنسية، وتصاعد حالة الغليان الداخلي في لبنان، ما جعل الأنظار تتجه إلى دمشق بانتظار موقفها.

أ.ف.ب
من اليسار إلى اليمين: رئيس الوزراء اللبناني صائب سلام، والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، والزعيم المسيحي بيار الجميل، والزعيم الدرزي كمال جنبلاط، خلال حفل في بيروت، (صورة أرشيفية غير مؤرخة تعود إلى أوائل سبعينيات القرن العشرين)

عشية اللقاء، اجتمع الأسد بوزير الخارجية عبد الحليم خدام واللواءين حكمت الشهابي وناجي جميل وقائد تنظيم "الصاعقة" زهير محسن، لبحث الوضع الميداني في لبنان. على الجانب الآخر، تمنى حلفاء جنبلاط عليه أن لا يخرج مختلفا مع الأسد، إذ يقول جورج حاوي (عضو المكتب السياسي لـ"الحزب الشيوعي اللبناني" أثناء الحرب ثم أمينه العام) في مقابلة ضمن برنامج وثائقي عن الحرب اللبنانية: "بادرت جنبلاط بالقول: رغم أنني أعارض هذا اللقاء، لكن بما أنك قررت المضي فيه، أرجوك لا تخرج منه وأنت على خلاف مع حافظ الأسد. ناقش معه بكل صراحة حتى النهاية، لكن إذا وصلت إلى طريق مسدود، فمن الأفضل أن توافق على ما يطرحه. أعتقد أن حافظ الأسد سيكون صريحا جدا معك، وأنا على علم بظروف معينة تمنعه من الموافقة على برنامجنا. لذا إما أن يُلغى اللقاء، أو إذا تم، فأرجو أن لا تختلف معه. وقد وعدنا جنبلاط بأنه سيبذل كل جهد ممكن، وأكد تفهمه لموقفنا. ودعناه بعدها وغادر (إلى دمشق)".

التعليم الطائفي في لبنان يعزز الهويات الطائفية على حساب الهوية الوطنية الجامعة. المدارس الطائفية تدرس تواريخ متناقضة، مما يعمق الانقسام ويكرس الصراع

جنبلاط

في السابع والعشرين من مارس/آذار 1976 وصل جنبلاط دمشق برفقة عباس خلف ومحسن دلول ورياض رعد من "الحزب التقدمي الاشتراكي"، واجتمع بالأسد لمدة سبع ساعات ونصف. حاول الأسد إقناعه بضرورة وقف القتال والبحث عن سبل تنفيذ التسوية السياسية المتفق عليها، مؤكدا أن سوريا لا تتمسك بالرئيس فرنجية "ولكنها تتمسك بوحدة لبنان".

بدأ اللقاء في أجواء ودية وأبدى الأسد اهتماما بمعرفة مستجدات الحراك الذي يقوده أحمد الخطيب، من خلال "جيش لبنان العربي". روى جنبلاط أنه التقى بالخطيب ورأى فيه "خميرة وطنية"، ثم انتقل النقاش إلى تركيبة الجيش اللبناني، والممارسات السائدة بداخله من طبقية وتمييز بين الضباط والمجندين. وحسب جنبلاط، فإن هذه العوامل هي التي دفعت الخطيب إلى تأسيس ما يشبه الجيش الشعبي، والذي التف حوله الجنود. أشار جنبلاط إلى ظاهرة تجييش الشباب، وامتد حديثه ليشمل النظام التعليمي والتربوي في لبنان والاختلافات بين المدارس ومناهجها، مما أدى إلى انحسار تعليم المبادئ والأخلاق. وأكد أن "الجيل الجديد ينزع إلى التغيير الشامل"، وأن وعي الشباب ارتفع نتيجة انخراطه في القتال، وأصبح منضبطا أكثر لكنه "لم يصل إلى المستوى المطلوب، وهذا لأن الشباب لم يتربوا في المدرسة". تابع في الحديث عن إشكالية التعليم، مشيرا إلى أن "التعليم الطائفي في لبنان يكرس الانقسام ويعزز الهويات الطائفية على حساب الهوية الوطنية الجامعة. المدارس الطائفية في لبنان تدرس تواريخ متناقضة، وكل طائفة تروي التاريخ من وجهة نظرها الخاصة، مما يعمق الانقسام ويكرس الصراع".

ومن جانبه، أبدى الأسد تفهما لهذه الإشكالية، مشيرا إلى أهمية توحيد المناهج التعليمية وبناء رواية تاريخية وطنية جامعة كمدخل أساسي لبناء هوية وطنية لبنانية.

إلى أين تريدون الوصول؟

استفسر الأسد عن القتال الدائر في بيروت، وخصوصا معارك منطقة الفنادق، فشرح جنبلاط الواقع الميداني بالقول: "الحركة الوطنية حققت تقدما ملموسا في معارك بيروت، و(الكتائب) تكبدت خسائر فادحة". وفي محاولة لفهم أهداف الحركة الوطنية، طرح الأسد سؤالا مباشرا: "إلى أين تريد الحركة الوطنية الوصول؟ هل تهدف إلى إقامة نظام اشتراكي كامل في لبنان؟". أعجب جنبلاط بالسؤال ورد قائلا: "فعلا... هي ثورة شعبية ولها دور اجتماعي وسياسي، لذلك من الصعب أن تتوقف إلا في حال إقناع الناس بحد معين من المكاسب". وشبّه ما يجري بـحرب الاستقلال في الولايات المتحدة الأميركية، مؤكدا أنه "من غير الممكن أن تسير الأمور على ما يرام في حل (نص على نص)". ثم حدّد الحد الأدنى من طموحات الحركة الوطنية بقوله: "على الأقل يجب أن نصل إلى مستوى نستطيع فيه فرض نظام سياسي جديد، يمكن من خلاله تطوير البلد بشكل ديمقراطي". وأضاف أن تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى "نوع من الحسم العسكري حتى لو لم يكن شاملا".

من الجيّد أن يتم تخفيف وجود الجيش السوري قليلا لكيلا نعطي حجة لإسرائيل

جنبلاط

"سوريا خاسرة بالتأكيد"

أجابه الأسد: "لم تكن المصلحة هي التي دفعتنا لنتدخّل (في نهاية عام 1975). طبعا بلا شك هناك مصلحة بين الثورة في سوريا والمقاومة والحركة الوطنية في لبنان، لكن في حينها لم نفكّر كثيرا بعقولنا.  عندما أدخلنا القوات السوريّة إلى لبنان، لم يكن هناك علم لدى الحركة الوطنية بذلك، ولا الثورة الفلسطينية لم يكن لديها خبر". اعترف الأسد بأن سوريا كانت الخاسر الأكبر من تدخلها وقال: "في حساب المصلحة والربح والخسارة، سوريا خاسرة بالتأكيد، لكن في الحقيقة نحن بشر... شعب واحد نعرفكم وتعرفوننا. الثورة بهذا الشكل بالفعل هي ثورة شعبية، وفي هذا العصر يجب أن تصل ثورة من هذا النوع إلى بناء اشتراكية كاملة لا حلول وسطا فيها. ولكن، من المستحيل تحقيق النصر العسكري الشامل دون تحقيق تغيير جذري في كل مناحي الحياة. هذا الأمر يتحقق بنضال ديمقراطي لا بحسم عسكري".

"حرب تحرير شعبية"

عاد جنبلاط ليؤكد في مداخلة طويلة أن ما يحدث في لبنان هو "حرب تحرير شعبية تهدف لفرض نظام سياسي جديد"، وكشف عن هدفه الاستراتيجي المتمثل في "السيطرة على كامل الجبل وصولا إلى بكفيّا معقل آل الجميّل". وأضاف: "في الجبل اليوم سقطت خمس قرى، وإذا بقيت هذه التطورات يمكن أن نصل إلى بكفيّا بعد يوم أو يومين، ومن هناك ننزل إلى بيت مري، ونستطيع أن نسيطر على النفط الذي هو عصب الحركة". سأله الأسد عن الهدف النهائي، فأجاب جنبلاط: "فرض نظام سياسي جديد بالقوة". تطرق إلى الطائفية، معتبرا أن لبنان يمر بمرحلة "انتصار العلمنة على الطائفية السياسية". وتحدث عن ضرورة إجراء إصلاحات سياسية وتعديلات تطال مجلس النواب، طارحا فكرة التمثيل النسبي، وقيام مجلس شيوخ إلى جانب البرلمان، يتم تسمية أعضائه من النخب والشرائح اللبنانية المختلفة.

الوضع الدولي والتدخل السوري

قاطعه الأسد ليسأل عن الوضع الدولي بالنسبة للبنان، فأجابه جنبلاط: "أعتقد أننا تعدينا مرحلة التدخل الإسرائيلي، إلا بحجة الوجود السوري في لبنان. وهنا من الجيّد أن يتم تخفيف وجود الجيش السوري قليلا لكيلا نعطي حجة لإسرائيل". حذر الأسد من أن تخفيف وجود الجيش السوري "قد يقلب الميزان العسكري على الحركة الوطنية"، لكن جنبلاط أصر على موقفه قائلا: "الميزان العسكري اليوم مع الحركة الوطنية، وأنه من غير الوارد أن تتدخل إسرائيل". فاتح الأسد جنبلاط بأن قضية لبنان قد تعرض على مجلس الأمن من قبل الأميركيين والأوربيين، وتحدث عن الحراك البريطاني - الأميركي القائم في لبنان. أسهب بشرح موقفه من تدخلات الولايات المتحدة: "الأميركيون يعرفون، ونحن قلنا لهم، إننا إذا أردنا أن نتدخّل سنتدخّل، ولن نأخذ أو نعطي لا معهم ولا مع غيرهم. وعندما تدخلنا لم نأخذ رأيهم". ثم تطرق إلى موقف الولايات المتحدة من علاقة الموارنة بسوريا: "الأميركيون لا يريدون أن يسمع الموارنة كلام سوريا... يريدونهم كما كانوا سابقا. لا شك أن في لبنان هناك لعبة دولية كبرى". وفي ما يتعلق بموقف إسرائيل، أوضح الأسد: "الإسرائيليون أيضا هددوا عندما تدخل جيش التحرير الفلسطيني، والخطر من الفلسطينيين أكبر من الخطر من السوريين".

وفي شرحه لسبب التدخل السوري، قال الأسد: "عندما دخلنا في البداية، دخلنا لأسباب قومية، ونحن كل شيء نريده من لبنان هو العروبة. يمين أم يسار، كل ذلك له تقييم عندنا، لكن عروبة لبنان هي رقم واحد بالنسبة لنا. نحن في أي وقت مهما تكن الأخطار التي تترتب علينا سنتخذ هذا الموقف سواء صارت حرب محليّة أو حرب عالمية. في أي وقت نرى فيه مبررا أخلاقيا ووطنيا وقوميا لاتخاذ أي موقف سنتخذه بمعزل عن نصائح الأميركيين والإنكليز والروس سواء كانوا أصدقاء أم خصوما".

ثم وصف الأسد دور سوريا في الأزمة بأنه "وساطة حياد إيجابي" قائلا: "نريد أن نتكلم مع كل الأطراف، فلا يمكن أن تكون وسيطا دون أن تتكلم مع كل الناس. الوساطة شيء، وأن نقول إن هناك ثورة ندعمها شيء آخر".

إذا كنا نفتش عن احتواء أحد، فماذا يمكن أن يجلب لنا احتواء الثورة الفلسطينية؟ كيف نحتوي قضية نعيش من أجلها ونبذل كل جهودنا ودمائنا واقتصادنا من أجلها؟

الأسد

حول الوثيقة الدستورية

انتقد الأسد فكرة الانتخابات النسبية التي طرحتها الحركة الوطنية، محذرا من أنها قد تعمق الانقسامات الطائفية في لبنان: "ستطرح في لبنان قائمة شيعية، وقائمة سنية، وقائمة درزية، وقائمة مارونية، وقائمة كاثوليكية... وهذا الأمر يزيد الطين بلة. شخصيا، لا أذكر أنكم طرحتم قضية طائفية الرئاسات الثلاث، لا في تصريحاتكم ولا في أحاديثكم. نحن في سوريا والله، حريصون على نسف هذه الأسس، لكن عندما قام لبنان، هكذا قام". وذكّر الأسد بأن أغلب المطالب التي حملتها الوثيقة الدستورية ليست غريبة عن البرنامج السياسي للحركة الوطنية، واستعاد لقاءه السابق مع الرئيس سليمان فرنجية، قائلا: "قلت له عندما ذهبت إلى لبنان (في 7 يناير/كانون الثاني 1975)، إن المرء عندما يصبح رئيسا للجمهورية يصبح رئيسا وأبا للجميع".

عبّر الأسد عن اعتقاده بأن مطالب جنبلاط– وإن كانت تحمل بعدا إصلاحيا مشروعا– بدت أحيانا وكأنها تميل إلى فرض الشروط، أو طرح "طلبات تعجيزية في لحظة توازنات دقيقة". قال الأسد: "أنا أعتقد أن النقاط التي كانت مطروحة قد تحقق منها 90 في المئة، وأعني التي كانت مطروحة بشكل جدي، والوساطة لا تسمح بأكثر من ذلك". كما لفت الرئيس السوري إلى أن الحركة الوطنية اللبنانية نفسها غير متجانسة في فهم آليات العمل وأساليبه: "أعتقد أنكم لو تركتم بعضكم فترة بعد هذه المناقشات والاجتماعات، وعدتم وجلستم مع بعضكم ستجدون أنه ليس لديكم فهم موحد حول كثير من هذه الأمور المطروحة".

أ ف ب
اجتماع لقادة منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية في بدايات الحرب في 1975

وتابع الأسد حديثه باستعراض المنعطفات التي مرت بها الأزمة اللبنانية بعد الوثيقة الدستورية، وأشار إلى ما طرحته لاحقا "حركة عزيز الأحدب" الانقلابية الفاشلة التي وصفها بغير المريحة: "إن ما تحقق في الوثيقة كان جيدا في ضوء المعطيات القائمة في لبنان، ثم جاءت (حركة عزيز الأحدب) فيما بعد وطرحت إقالة رئيس الجمهورية، ولكن حسب معلوماتي فإن هذا مطروح من قبل الحركة الوطنية قبل أن تطرحها حركة الأحدب".

وانتقل الأسد بعد ذلك إلى تقييم قضية رئاسة الجمهورية اللبنانية، مشيرا إلى محادثات سابقة أجراها مع جنبلاط، قال فيها: "كل الناس يعرفون أن علاقتنا بالأستاذ كمال قديمة وليست جديدة، وتتذكر وقتها قلت لك ما معناه أنه لا شيء يستحق هذه المعركة الآن، فأصلا رئيس الجمهورية في نهاية رئاسته. حتى في الولايات المتحدة الأميركية يكون الرئيس مشلولا خلال الأشهر الأخيرة، بل وفي السنة الأخيرة من رئاسته، فبالأحرى رئيس جمهورية في لبنان وهو في الـ3–4 أشهر الأخيرة من رئاسته".

ومن النقاط التي أراد الأسد توضيحها أن موقف سوريا من المسألة الطائفية لم يكن نابعا من حسابات دينية: "يهمنا أن لا يشعر أحد بأننا منطلقون من منطلقات دينية. هؤلاء الآخرون (المسيحيون) عرب مثلهم مثل المسلمين، ويجب أن تستوعبهم الحركة العربية. لا يجب أن نترك عندهم هذا الشعور".

"نخجل من مثل هذه الأقوال"

تابع الأسد في مداخلته الطويلة، متحدثا عن الاتهامات الموجهة لسوريا في الصحف اللبنانية، لا سيما عبارة "النفوذ السوري" التي اعتبرها مسيئة بحق سوريا. رفض الأسد تصوير سوريا كدولة أجنبية تمارس الهيمنة، معللا: "يقال: النفوذ السوري في لبنان يحجم فلانا ويقوي فلانا آخر... يخلخل نفوذ كمال جنبلاط، ويؤثر على نفوذ ياسر عرفات! نحن نخجل من مثل هذه الأقوال".

وتابع الأسد متحدثا عن العلاقة المعقّدة مع منظمة التحرير الفلسطينية، مؤكدا أن دعم سوريا لـ"فتح" سابق على تأسيس حركة "الصاعقة"، قائلا: "حتى في وقت من الأوقات عندما كانت (فتح) محاربة، كنا نقدم مساعدات كبيرة لها". وأشار إلى العلاقة الشخصية التي تربطه بأبو عمار (ياسر عرفات) ورفض الاتهامات التي تروّج لفكرة أن سوريا تسعى لاحتواء القرار الفلسطيني، ساخرا: "إذا كنا نفتش عن احتواء أحد، فماذا يمكن أن يجلب لنا احتواء الثورة الفلسطينية؟ كيف نحتوي قضية نعيش من أجلها ونبذل كل جهودنا ودمائنا واقتصادنا من أجلها؟".

وعن ياسر عرفات قال: "صحيح أنه يخطئ كثيرا... لكن لا يجوز أن نبرز شخصا ونضربه في اليوم التالي".

ذكر الأسد أن المقاومة الفلسطينية نفسها طلبت "هليكوبترات للهجوم على تل الزعتر" وأكّد أنه "غامر من أجل لبنان". نفى أي صراع بين سوريا و"فتح" أو جنبلاط، قائلا: "لا أعرف كيف يمكن لقوة سورية أن تتضارب مع قوة الحركة الوطنية. لو رأينا أن قوتنا تتعارض معهم، لما تعاملنا معهم من الأساس".

"الخلاف بين اللبنانيين أزمة نظام، لا مجرد خلاف سياسي أو أمني. ومع بداية الوساطة السورية في لبنان، ظهرت بعض الاجتهادات والاختلافات في وجهات النظر"

جنبلاط

الانقسامات اللبنانية وحدود المناورة

كما روى الأسد أن ياسر عرفات طلب منه دعم إقالة سليمان فرنجية، لكنه رفض قائلا: "إذا استقال، فلن أتمسك به". وأضاف لجنبلاط: "أفهمت أبو عمار أن لا تلجأوا إلى استخدام القوة لأنها لن تحل المشكلة. عرض الأسد بتفصيل شديد لقاءه مع "التجمع المسيحي"، وقال: "أفهمتهم أنه إذا كانت مهمتهم أن يجلبوا لي قرارات فقط كناقلي بريد، فهذا غير مجدٍ"، رافضا أن يبدأ الحل من الجيش. وحذّر الأسد جنبلاط من التورط في مغامرات غير محسوبة، قائلا: "إذا لم يكن الهدف هو بناء نظام اشتراكي حقيقي، فلا مبرر لاستمرار القتال". ثم حذّر من خطر التدويل: "نحن على أبوابه، وهو بطابع ديني". وفي الوقت الذي عبّر فيه عن رفضه لأي تفكير بالتقسيم أو تدويل للأزمة، كشف عن اتصالات يومية تجريها الإدارة الأميركية مع سوريا، معتبرا أنها "تعمل على تعميق الطائفية في لبنان. واشنطن لن تُفاجأ إذا دخلت القوات السورية إلى لبنان، بل ربما تراهن على ذلك لإعادة صياغة التوازنات الطائفية".

"الدولة اللبنانية باتت مهترئة"

بدوره، تحدث جنبلاط مطولا وأكد أن الخلاف بين اللبنانيين هو "أزمة نظام، لا مجرد خلاف سياسي أو أمني. نحن في لبنان تعودنا على حرية الانتقاد، والعلاقة مع سوريا كانت في الماضي أكثر توافقا. لكن مع بداية الوساطة السورية في لبنان، ظهرت بعض الاجتهادات والاختلافات في وجهات النظر". وأشار إلى أن الجيش هو "عمود النظام الطائفي وبقاء المارونية السياسية"، واصفا الدولة اللبنانية بأنها "مهترئة على كافة الصعد، سياسيا واقتصاديا وإداريا وقضائيا". وأشار إلى أن النظام القائم لا يمكنه الاستمرار، وأن كثيرا من الإصلاحات التي طرحتها الحركة الوطنية باتت تحظى بقبول واسع، حتى من خصومها السياسيين، مضيفا أن "جذور المشكلة تكمن في النظام نفسه، وبمجرد بناء نظام وطني تقدمي ستزول كل الأزمات الأخرى، بما فيها الاحتكاك مع الفلسطينيين".

الأسد يغادر الاجتماع

غادر الأسد القاعة لإجراء مكالمة هاتفية، فتداول جنبلاط أثناء غيابه مع أعضاء الوفد اللبناني رأيه بما دار بينهما من حديث. رأى أن التدويل غير وارد "حاليا" بسبب الفيتو السوفياتي والصيني، كما أشار إلى حالة الإرباك في صفوف "الكتائب"، مستشهدا بدعوة بيار الجميّل للناس بالعودة للقتال، معتبرا أن هذه المناشدة دلالة على الانهيار المعنوي.

الحلقة القادمة: الأسد وجنبلاط وجها لوجه... جدال ومواجهة

font change

مقالات ذات صلة