الأسد "يستجوب" جنبلاط عن خصومه في لبنان... ويرفض عودة "البعثيين" إلى سوريا (1-6)

اتهم جنبلاط بعض الدول العربية بتمويل كميل شمعون لـضرب اليسار المتحالف مع عرفات

المجلة
المجلة

الأسد "يستجوب" جنبلاط عن خصومه في لبنان... ويرفض عودة "البعثيين" إلى سوريا (1-6)

عُقد اللقاء الأول بين الأسد وجنبلاط في 22 يناير/كانون الثاني 1972، وكان لقاء تعارفيا، حاول فيه الطرفان تحليل المشهد اللبناني والدور الإقليمي في الحدث اللبناني، وذلك قبل ثلاث سنوات من اندلاع الحرب الأهلية. نظرياً، كلاهما كان في خندق واحد، يدعوان إلى محاربة الصهيونية ودعم القضية الفلسطينية، أما في الجوهر فكانا على نقيض تام بسبب وقوف جنبلاط مع ياسر عرفات باعتباره الرمز التاريخي للثورة الفلسطينية، بينما كان الأسد من أشد الناقمين على عرفات ويسعى إلى تقليم أظافره، سواء داخل المجتمعات الفلسطينية أو في دول الجوار. بدأ الحوار بمناقشة تفجيرات متفرقة وقعت مؤخراً في لبنان، ورأى جنبلاط أنها قد تكون "مُحرَّضة من أميركا أو جهات تهدف لتعطيل الانتخابات المقبلة." حذر من أن استمرار الفوضى "سيجعل الأمن مطلباً لكل مواطن... وقد يُسقط نظام الرئيس سليمان فرنجية (المنتخب منذ عام 1970). طرح الأسد فرضية "تورط حزب الكتائب" في هذه التفجيرات، وهو الحزب الماروني الذي أطلقه الشيخ بيار الجميل منذ ثلاثينات القرن العشرين، والذي كان معادياً للوجود الفلسطيني في لبنان. أما الفرضية الثانية، فهي أن هذه التفجيرات كانت صنيعة الميليشيات الفلسطينية. تساءل الأسد: "إذا كانت الكتائب لديها رغبة باستلام الحكم، فلها مصلحة في تلك الأعمال".

تحالفات انتخابية وصراعات داخلية

توسع النقاش إلى الانتخابات النيابية المقبلة عام 1972، وأشار جنبلاط إلى دور الزعيم اللبناني البعثي عبد المجيد الرافعي في طرابلس، المحسوب على جناح "البعث" الحاكم في العراق. سُر الأسد لإثارة هذه النقطة، بسبب خوفه الشديد من التغلغل العراقي في الداخل اللبناني وقال لجنبلاط: "الرفاعي هو صدى للحكم في العراق، ولا نستطيع تقييمه كتقدمي". كما انتقد سياسة حكام بغداد بقوله: "في فلسطين لا يساهمون بشيء، إيران تأخذ شط العرب وهم متفرجون"!

إقرأ أيضا: وثائق سرية سورية عن الدخول إلى لبنان واغتيال كمال جنبلاط

أعرب الأسد عن استيائه الشديد من تدخل "البعث" العراقي في الشأن اللبناني، داعياً جنبلاط إلى مساعدته على عرقلة مساعي الرئيس أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين.

حذّر جنبلاط من أن "إسرائيل تهدف لاحتلال حاصبيا وراشيا والليطاني... لتطويق الشام"، فردّ الأسد بتشديده على ضرورة التصدي، وقال: "لا يجوز أن نتشاءم... لكن الصورة صعبة"

ومن طرفه، كشف جنبلاط عن محاولات رئيس الجمهورية سليمان فرنجية إضعاف خصومه الداخليين، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة صائب سلام، أحد أقطاب الزعامة السنية في لبنان. اتهم جنبلاط رئيس الجمهورية بتحريض الرئيس السابق كميل شمعون ضد صائب سلام، وهو من الزعامات المارونية المتحالفة مع "الكتائب" وتشاركها في عدائها لمنظمة التحرير الفلسطينية. أجابه الأسد: "ربما كان من المفروض أن تتحركوا أنتم أكثر. المفروض أن لا يكون بين (صائب) سلام وبين (كميل) شمعون لقاء، ولا مع الكتائب". حذّر جنبلاط من أن "الكتائب يجلبون مدربين عسكريين من سويسرا... ويتدربون في أديرة مثل برمانا (في قضاء المتن)"، مؤكدًا على خطر تسليحهم ومشيراً إلى أنهم باتوا يمتلكون 10–12 ألف قطعة سلاح. أضاف جنبلاط أن هذا الأمر مقلق بالنسبة له ولياسر عرفات، ومن المفترض أن يكون مقلقا أيضاً لحافظ الأسد وسوريا. 

أ.ف.ب
دورية للجيش اللبناني في شوارع قرية سوق الغرب الجبلية، بعد وقف إطلاق النار في جميع أنحاء لبنان، عقب معركة سوق الغرب، خلال الحرب الجبلية بين المسيحيين والدروز في 26 سبتمبر 1983

التدخلات الإقليمية والخطر الإسرائيلي 

انتقل الحوار إلى الدور العربي في لبنان، واتهم جنبلاط بعض الدول العربية بتمويل كميل شمعون لـضرب اليسار المتحالف مع عرفات. حذّر جنبلاط من أن "إسرائيل تهدف لاحتلال حاصبيا وراشيا والليطاني... لتطويق الشام"، فردّ الأسد بتشديده على ضرورة التصدي، وقال: "لا يجوز أن نتشاءم... لكن الصورة صعبة". وفي نقاشهما حول "التقدمية"، وهي من أدبيات حزب "البعث" الحاكم في سوريا منذ عام 1963، وجد الرجلان قاسماً مشتركاً في العقيدة، حيث هاجم الأسد الأحزاب العربية التي ترفع شعارات دون أفعال، قائلاً: "التقدم ليس كلمة تُلصَق بالإنسان... إنه مرتبط بالإنجاز". كما دافع عن الربط بين القومية العربية والاشتراكية بقوله: "نربط نضالنا القومي بالنضال الاشتراكي... الصراع الطبقي ليس هو الاشتراكية". وهنا أثنى جنبلاط على كلامه، ودعا إلى وحدة اقتصادية كمدخل لأي إصلاح حقيقي، مستشهداً بالتجربة الأوروبية ومعتبراً أن هذا الأمر– إذا وُجد طريق لتحقيقه– سيكون ذا نفع كبير بالنسبة للبنان، الذي سيستفيد من حجم الاقتصادات العربية في دول أكبر منه وأكثر فعالية، مثل سوريا والمملكة العربية السعودية والعراق ومصر. 

في اللقاء الأول، هدف الأسد إلى بناء علاقة شخصية مع جنبلاط وسأله عن زيارته الأخيرة للهند

من أبرز ملامح هذا اللقاء كثرة الأسئلة التي وجهها الأسد لضيفه اللبناني، والتي وصلت إلى ما يشبه الاستجواب عن الوضع السياسي في بيروت. لم يكن الأسد يومها يعرف الكثير عن وضع لبنان الداخلي، وكان كثير الاعتماد في تقيمه على ما يقوله له وزير الخارجية عبد الحليم خدام. كما أنه لم يكن قد زار لبنان بعد منذ توليه الحكم عام 1970.  

الأسد يستفسر عن حزب "الكتائب" 

سأل عن تفاصيل التحالفات الداخلية اللبنانية، بين حزب "الوطنيين الأحرار" الذي يتزعمه كميل شمعون و"الكتائب" بقيادة بيار الجميل، وعن الزعامات السنية والشيعية والأحزاب العابرة للمذهبية والطائفية، مثل "الشيوعي اللبناني"، و"الحزب السوري القومي الاجتماعي". أكثر ما كان يقلقه هو علاقة بعض هذه الأحزاب بالعراق، واعتماد الكثير منها على مال خارجي في شراء السلاح وتخزينه أو تهريبه، سواء إلى سوريا أو غيرها من الدول. وقد تجلى ضعف معرفة الأسد بالوضع اللبناني عندما سأل جنبلاط عن عقيدة حزب "الكتائب"، فأجابه الزعيم الدرزي: "الكتائب" عندهم نظام حزبي، يتحدثون عن القومية اللبنانية ويحمون الانعزالية التقليدية والطائفية الوطنية. هم مع أي دولة كبرى تكون قادرة على حمايتهم... بدأوا بفرنسا وعندما ضعفت، ساروا مع الإنكليز، ثم بعد ذلك مشوا مع الأميركيين".

في اللقاء الأول، هدف الأسد إلى بناء علاقة شخصية مع جنبلاط وسأله عن زيارته الأخيرة للهند. أجاب الأخير بأنه يسافر إلى الهند بشكل سنوي، وحدثه عن سياسة هذا البلد وعن علاقته بالصين وباكستان. وفي المقابل، حاول جنبلاط استكشاف رأي الأسد في السوريين المعارضين من "البعث"، المنفيين في لبنان، مثل رئيس الدولة الأسبق أمين الحافظ ومؤسسي الحزب ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار، أو من غير البعثيين مثل عبد الحميد السراج، مدير المكتب الثاني (المخابرات العسكرية) في الخمسينات ووزير الداخلية ثم نائب رئيس الجمهورية في زمن الوحدة السورية–المصرية (1958-1961). ويعتقد أن جنبلاط ساهم في ترتيب عملية خروج السراج من بيروت الى القاهرة عام 1962 بعد فراره من السجن في دمشق. أما البعثيون المعارضون، فمعظمهم لجأ إلى بيروت في السنوات 1963-1970، قبل المغادرة إما إلى العراق أو إلى أوروبا، بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. لم يكن الأسد منفتحاً على مناقشة هذا الأمر، لا مع جنبلاط أو غيره، وعده مسألة سورية داخلية. طلب جنبلاط من الأسد السماح لبعضهم بالعودة إلى سوريا، فأجابه الرئيس السوري: "ربما من الأفضل لهم البقاء في الخارج". 

في اللقاء الثالث، بدا الأسد أكثر اهتماماً بالوضع اللبناني. تحاور مع جنبلاط في الانتخابات الرئاسية وواقع الجيش اللبناني والتوازنات الداخلية، وعبّر عن قلقه من انتشار الطائفية في لبنان

اللقاء الثاني: تداعيات حرب أكتوبر 

في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 1973، عقد اللقاء الثاني بين الأسد وجنبلاط، بعد أسابيع معدودة على انتهاء حرب أكتوبر/تشرين الأول التي شنها الرئيس السوري مع نظيره المصري أنور السادات. ناقش الطرفان التحولات السياسية التي خلقتها الحرب، وشدد الأسد على فاعلية قرار الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود في استخدام "سلاح النفط" للضغط على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي. كما أشاد بإرسال قوات عربية إلى سوريا أثناء الحرب، كخطوة رمزية تعكس التضامن العربي رغم محدودية تأثيرها الميداني. كشف الأسد عن التفاوت التقني بين الجيشين السوري والإسرائيلي، قائلًا: "الخط الجوي والبحري لإسرائيل لم ينقطع، بينما عندنا تقريبًا انقطع"، وانتقد ضعف الدعم اللوجستي للقوات السورية والمصرية. لم يخفِ الأسد صدمته من قرار مصر وقف إطلاق النار المفاجئ في 23 أكتوبر واصفًا إياه بـضربة قاسية "عكّرت صفو التنسيق العسكري" بين الجبهتين المصرية والسورية. 

تطرّق بعدها إلى موقف الاتحاد السوفياتي، فهاجم جنبلاط الشيوعيين ووصفهم بـالطابور الخامس لتبنيهم فكرة إنشاء وطن فلسطيني منفصل في الضفة وغزة. عارضه الأسد برؤية إيجابية للدور السوفياتي، لكنه استهجن بطأهم في تقديم الأسلحة المتطورة. قال الأسد: "الروس بطيئون، وسيقطف الأميركيون ثمار هذا الأمر". وأضاف أن إسرائيل كانت تُدخِل أسلحة جديدة في كل معركة، مثل صواريخ مضادة للدبابات جُلبت من مستودعات أميركية في ألمانيا، بينما ظل الجيش العربي يعتمد على تقنيات تقليدية. وفي نهاية الحوار، تطرّق الأسد إلى مواقف العرب من الحرب واصفاً إياها بالإيجابية، باستثناء العراق، على الرغم من قبول الرئيس البكر إرسال قوات عسكرية لمساندة الجيش السوري. وكون هذا اللقاء القصير قد تم في أجواء الحرب الأخيرة، لم يتطرق الرجلان إلى لبنان أو أية أحداث متعلقة به.  

اللقاء الثالث: لبنان بين الطائفية والتحالفات الإقليمية  

جاء اللقاء الثالث في 25 يونيو/حزيران 1974، حيث بدا الأسد أكثر اهتماماً بالوضع اللبناني. تحاور مع جنبلاط في الانتخابات الرئاسية وواقع الجيش اللبناني والتوازنات الداخلية، وعبّر عن قلقه من انتشار الطائفية في لبنان. كان الأسد يحبّ أن يتحاور في الشأن الإقليمي والدولي مع مختلف ضيوفه، وكان يسأل كثيراً. سأل جنبلاط عن طلب الحكومة اللبنانية الحصول على صواريخ من سوريا، فأجابه الأسد: "صواريخنا موجودة في لبنان قبل أن يطلبها أحد... نحن لا نفرق بين الدفاع عن لبنان وسوريا". 

أ.ف.ب
من اليسار، الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، والزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ورئيس "حركة أمل" الشيعية نبيه بري، ورئيس "منظمة العمل الشيوعي" محسن إبراهيم خلال اجتماع في بيروت، 30 أغسطس 1982

 

كما تطرّق النقاش إلى قانون التجنيد الإلزامي في لبنان، الموجود في سوريا منذ عام 1948، وتحدث جنبلاط عن ضرورة "تحجيم الجيش" وأعرب عن مخاوفه من تحوُّل الجيش اللبناني إلى "قوة انقلابية" على غرار ما حدث في سوريا والعراق. ردّ الأسد مازحا: "يا ريت"! (علواه)، معتبراً أن الجيش قد يكون أداةً لـلقضاء على الطائفية في لبنان. 

الطائفية والتوازنات الديموغرافية 

في الشأن اللبناني، قال جنبلاط إن القوة السياسية تتجه نحو تسمية الزعيم الطرابلسي رشيد كرامي رئيساً للوزراء، وهو عروبي وقريب من سوريا. أما عن رئاسة الجمهورية، فقد تطرق إلى احتمالية ترشح سليمان فرنجية لدورة ثانية، أو استبداله بابنه طوني (الذي قتل في مجزرة أهدن عام 1978). كان فرنجية صديقاً للأسد فلم يمانع استمراره في المنصب، وتساءل عن دور الزعيم الشيعي موسى الصدر في المعادلة السياسية، وهو مؤسس "حركة المحرومين" التي تحولت الى "أفواج المقاومة اللبنانية–أمل"). كشف جنبلاط أن الشيعة يشكلون 60 في المئة من سكان بيروت، وأن "60 في المئة من أملاك شارع الحمراء لهم (الشارع التجاري غرب العاصمة اللبنانية)، مشيراً إلى أن كثيراً منهم لا يحملون الجنسية اللبنانية. 

الحلقة الثانية: لقاء الأسد وجنبلاط بعد حادثة "عين الرمانة" واندلاع الحرب الأهلية 

font change

مقالات ذات صلة