بعد أكثر من 4 عقود خاض فيها "حزب العمال الكردستاني" العمل المسلح ضد تركيا، أعلن زعيم الحزب عبدالله أوجلان من داخل سجنه في جزيرة إمرالي في تركيا إنهاء العمل المسلح والدخول في العمل السياسي الديمقراطي.
يقرأ البعض هذا التحول الكبير ضمن السياق التركي-الكردي. وإن كان لا يمكن تجاهل هذا السياق، إلا أن النظر للصورة من خارجها يُظهر أن هذا التحول يأتي من ضمن تحولات كبرى في المنطقة لا تقتصر على "حزب العمال الكردستاني" ولا على القضية الكردية والسياسة التركية فحسب. سياق بدأت معالمه تظهر بعد عملية "طوفان الأقصى"، وما لحقها من تطورات في لبنان نتيجة "حرب الإسناد"، وفي سوريا وسقوط نظام الأسد بعد عقود في الحكم و14 عاما من انطلاق الثورة ضده.
بعد "حرب الإسناد" التي شنها "حزب الله" والخسائر الكبيرة التي لحقت به، ازداد الضغط السياسي الدولي والإقليمي على لبنان لنزع سلاح ميليشيا "الحزب"، وأيا كانت المناورات وحملات التذاكي التي يخوضها "الحزب" وبعض اللبنانيين، إلا أن لبنان أمام خيارين، إما تسليم سلاح "الحزب" للدولة وإما استمرار الضربات الإسرائيلية على مواقع لـ"الحزب" ومن تبقى من قياداته وعزل لبنان عن العالم بسبب تراخيه في موضوع السلاح. ما يحصل إلى ذلك الحين هو تفاصيل تحدد أي لبنان سيختار اللبنانيون.
رئيس الوزاء العراقي بدوره قبل أيام وفي حديث لصحيفة "الشرق الأوسط" أكد أن العراق لن يقبل بوجود أي سلاح خارج نطاق مؤسسات الدولة، مشيراً إلى أن ذلك "واحد من الأركان المهمة والأساسية لبناء الدولة العراقية"، الأمر قد يبدو معقداً مع شرعنة "الحشد الشعبي" في العراق وانطواء فصائل طائفية تحت رايته، لكن الدولة التي تحدث عنها السوداني وتبنيه شعار "العراق أولاً" لا يمكن أن تبنى في ظل وجود فئة مسلحة تخضع لقرارات طائفية وميليشياوية لا لقرارات سياسية تتخذها الدولة العراقية.
وفي غزة التي لا زالت تحت القصف والقتل والحصار، أحد أبرز شروط الوقف الكامل لإطلاق النار هو إنهاء سلاح "حركة المقاومة الإسلامية" (حماس)، فـ"حماس" ليست السلطة المركزية وإن كانت قد سيطرت على الحكم في غزة. وبالمفهوم المؤسساتي هي فصيل مسلح، ميليشيا ولست دولة.
الوضع الأكثر تعقيدا هو سوريا، بعد 14 عاما من الصراع المسلح، فإن السلاح المتفلت هو السمة الأبرز مهما حاول البعض ادعاء العكس
الوضع الأكثر تعقيدا هو سوريا، بعد 14 عاما من الصراع المسلح، فإن السلاح المتفلت هو السمة الأبرز مهما حاول البعض ادعاء العكس، وقد برهنت الأحداث والمجازر الأخيرة أن السلاح لن يأتي إلا بالمزيد من الويلات على السوريين.
هو ليس فقط سلاحا درزيا أو كرديا أو عشائريا أو سلاح الفلول والميليشيات التي حاربت مع الأسد، بل هناك أيضاً سلاح الفصائل التي حاربت ضد الأسد وإيران، واليوم وبعد الإعلان عن انتهاء الثورة وبداية زمن بناء الدولة لا يمكن أن يتم تجاهل أي سلاح خارج إطار الدولة الوليدة.
مسار بناء هذه الدولة طويل وشاق، ولكن كما ذكرت سابقاً، فالبناء يجب أن يكون على أسس صحيحة، وتجربة لبنان والعراق ماثلة أمام الجميع، لا يمكن بناء دولة بوجود السلاح ولا يمكن تأجيل موضوع السلاح لأنه سيكون دوماً العائق أمام ترسيخ مفهوم الدولة.
الدولة ليست حاكماً ولا حزباً ولا فئة، بل هي الإطار المؤسساتي الضامن لجميع أبناء هذه الدولة.
تصدر أصوات من هنا وهناك تبرر عدم تسليم السلاح انطلاقا من أن السلطة في دمشق غير منتخبة أو فئوية، بعض هذه الأصوات كانوا من أشد المعارضين لحمل السلاح خلال الثورة، بعضهم الآخر ضد سلاح ميليشيات ومع سلاح ميليشيات أخرى، هذا كله يدل على قصر نظر في رؤية المشهد العام وفهم منطق "الدولة".
ثمة أخطاء وتقصير لا يمكن إخفاؤهما تقع فيهما السلطة في سوريا، ولكن تصحيح هذه الأخطاء وتقويم التقصير لا يتم بالعمل المسلح
ثمة أخطاء وتقصير لا يمكن إخفاؤهما تقع فيهما السلطة في سوريا، ولكن تصحيح هذه الأخطاء وتقويم التقصير لا يتم بالعمل المسلح بل بالانخراط في العمل السياسي، بين موالين ومعارضين، والإعلان عن مؤتمر حوار وطني مفتوح الأفق، فليتحاور السوريون وليتفقوا ويختلفوا بالكلمة لا بالرصاص.
كلمة السر اليوم هي "الدولة"، انتهى زمن الميليشيات، واستقرار سوريا هو العامل الأساسي لاستقرار المنطقة، وما الدعم العربي والدولي وتحديداً الأميركي للسلطة في دمشق إلا دليل على أن زمن دعم الميليشيات قد ولى.
فهل يفهم الجميع في المنطقة، حكومات ومعارضين، أن السلاح لم يعد من وسائل العمل السياسي كما اعتدنا في هذه البقعة الجغرافية لعقود؟ وهل يملك البعض جرأة أوجلان بالإعلان عن إلقاء السلاح والاتجاه نحو العمل السياسي؟
لا خيار آخر إن أردنا أن نتحول من طوائف وقبائل إلى مواطنين، ومن ساحات صراع إلى دول. وفي المقابل على الحكومات أن تساهم في بناء دول مؤسساتية، وعلى الدولة السورية أن لا تقع في فخ النموذج العراقي وذلك بشرعنة وجود ميليشيات مسلحة والسكوت عنها لأنها موالية للسلطة لأن هذا الفخ سيقود لفشل الدولة واختطافها من قبل هذه القوى المسلحة أيا كان مبرر وجودها.
كما أن عليها الإعلان عن خطوات واضحة وواقعية لإعادة بناء المؤسسات الأمنية من جيش وقوى أمن لحماية جميع السوريين.