في الوقت الذي تتدخل فيه إسرائيل عسكريا وتقصف العاصمة السورية لوقف ما تقول إنه تهديد لسلامة الطائفة الدرزية انطلاقا من الحرص الاسرائيلي على الأقليات في المنطقة، تمارس حكومة بنيامين نتنياهو سياسة إبادة علنية ضد الفلسطينيين في غزة وتطهير عرقي في الضفة الغربية، رافضة أن تعاملهم كأقلية عندها.
الخوف من إبادة الأكثرية للأقلية، هو أحد الأعمدة التي قامت عليها إسرائيل ليس بسبب "الهولوكوست" وفظائعه فحسب، بل أيضا كردة فعل على الهجمات الدورية "البوغروم" التي كانت تدفع السلطات القيصرية الروسية إلى شنها ضد اليهود في أنحاء إمبراطوريتها والتي كانت السبب في هجرة الكثير من اليهود من شرق أوروبا إلى وسطها وغربها وبداية تكوّن النظرية الصهيونية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. والخوف ذاته هو احد اعمدة سياسات الجماعات المتكارهة في المشرق.
ولم يخلُ الخطاب الإسرائيلي منذ ذلك الحين، سواء أثناء حكم "حزب العمل" أو "الليكود" أو أي ائتلاف بين القوى المُشكّلة للطيف السياسي الإسرائيلي، من مقولات الدفاع عن النفس في وجه طغيان الأكثرية العربية–المسلمة التي تريد إلقاء اليهود في البحر وتدمير دولتهم. ولا مفر من القول إن الدعاية هذه استندت إلى مستوى من السذاجة السياسية العربية يبلغ حد التواطؤ المتعمد. ومنذ ما قبل قيام إسرائيل، بذل "الييشوف" (الإدارة اليهودية للمستوطنات) جهودا كبيرة لإنشاء علاقات مع الأقليات الدينية والقومية في فلسطين التاريخية كالبدو والشركس والدروز والمسيحيين. ولم تكن النتائج على المستوى ذاته في المحاولات المذكورة. فهناك من قبِل ومن رفض ومن ساوم... إلخ.
ومع امتداد الصراع في الزمان والمكان، عملت الحكومات الإسرائيلية وأجهزتها على إنشاء علاقات مع كل "المكونات" في محيطها في لبنان وسوريا والأردن ومصر والعراق وصولا إلى اليمن وإثيوبيا، لأهداف متباينة منها تسريع هجرة اليهود المقيمين في هذه الدول ومنها الحصول على موطئ قدم أو رأس جسر سياسي وأمني يمكن أن يفيد مراحل لاحقة. وتعج الأدبيات السياسية العربية والإسرائيلية، سواء بسواء، بقصص لقاءات واجتماعات لتأمين المساعدة المتبادلة بين الإسرائيليين وشخصيات من دول المحيط، شملت تأمين المصالح المباشرة وحتى بناء قوى موالية لإسرائيل. وغالبا ما استخدمت العلاقات تلك في الحروب الأهلية العربية من لبنان إلى السودان ولم يكن أحد غافلا عنها ولم تشكل مفاجأة للسياسيين في الدول المعنية.
لكن مع هذا الانفتاح على التعامل مع كل الأقليات في المنطقة ومساعدتها في الدفاع عن نفسها وحماية وجودها من الإبادة التي تنوي الأكثرية ارتكابها– بحسب أجواء الشرق الأوسط المفعمة بالدماء والمجازر- رفضت إسرائيل وبإصرار شديد التعامل مع "أقلية" واحدة وحمايتها من الخطر الوجودي الملموس الذي يهددها. هذه الأقلية هي الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة.
رغم الظلم الهائل الذي أنزل بأبناء الأقليات في الشرق الأوسط منذ قرون، فإن الفلسطينيين لن يحظوا بميزة عطف العالم عليهم كأقلية مضطهدة على أرضها
مع الفلسطينيين اختفت فجأة حسابات الأقليات والأكثريات. ولم تعد إسرائيل التي أصدرت قانونا أساسيا (أي جزءا من الدستور الإسرائيلي) عام 2018 يجعل من إسرائيل دولة قومية لليهود، دولة تضم أكثرية (يهودية) وأقلية (فلسطينية) على أراضي 1948 وتلك التي احتلتها في 1967، بل أصرّ منظّروها ومفكروها وسياسيوها على أن الفلسطينيين هم من العرب وبالتالي ينتمون إلى أكثرية أجنبية تتوزع على 22 دولة ولا يصعب على أي منها استقبال الفلسطينيين وتوطينهم من أجل طي صفحة الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي إلى الأبد.
تفنيد هذه الأقوال علميا إضاعة صافية للوقت، ليس لأن الهوية الفلسطينية تختلف عن هويات الدول العربية المجاورة التي تترسخ فيها بنى الدولة/الأمة، وحيث لم تكن شعارات الوحدة العربية سوى مبررات أيديولوجية لبسط سيطرة هذا النظام العسكري العربي أو ذاك وأن الفلسطينيين يقيمون على أرضهم، بل لأن الإسرائيليين يعون جيدا أن كل هذه البهلوانيات الخطابية ليست إلا أداة ركيكة لمشروع التطهير العرقي الذي نشاهده على الشاشات يوميا. وطحن المجتمع الفلسطيني وتدميره من خلال حرب لأكثر من عشرين شهرا بذريعة حماية أرواح الرهائن الإسرائيليين، مجرد سفسطة لحجب حقيقة ما يجري من إبادة لم تعد حتى الدول المؤيدة تقليديا لإسرائيل تتردد في إدانتها.
والحال، أنه على الرغم من كمية الظلم الهائلة التي أنزلت بأبناء شعوب وقوميات وأديان ولغات وثقافات الأقليات في الشرق الأوسط منذ قرون، فإن الفلسطينيين لن يحظوا بميزة عطف العالم عليهم كأقلية مضطهدة على أرضها.