مقترح عودة الرتب المدنية في مصر… بين الرمزية التكريمية والرفض الجمهوري

هناك بدائل أكثر توافقاً مع المبادئ الدستورية وطبيعة النظام الجمهوري لمصر

المجلة
المجلة

مقترح عودة الرتب المدنية في مصر… بين الرمزية التكريمية والرفض الجمهوري

نشرت جريدة "الأهرام" المصرية الغراء بتاريخ 10 أبريل/نيسان 2025 مقالاً للكاتب والمفكر السياسي الدكتور أسامة الغزالي حرب، بعنوان "نداء إلى باشاوات مصر"، ناقش فيه فكرة إعادة إحياء الألقاب والرتب المدنية مثل "الباشا" و"البك" في مصر، والتي أُلغيت عقب قيام ثورة يوليو 1952، ويرى أن ذلك الإلغاء لم يكن إيجابياً بالكامل، إذ إنها كانت لتكريم من قدم خدمات جليلة للبلاد، واستشهد بلقب "فارس" الممنوح للجراح المصري الدكتور مجدي يعقوب في بريطانيا.

واقترح المفكر السياسي القدير عودة منظمة لها، بحيث تُمنح بمعايير صارمة وموضوعية عبر هيئة متخصصة وموافقة البرلمان، لتكريم من يقدمون إسهامات جليلة في الثقافة، والصناعة، والزراعة، وذكر عدة أسماء لشخصيات عامة ورجال أعمال كأمثلة لمن يستحقونها، وأضاف أنها من شأنها تشجيع الأثرياء على المساهمة بشكل أكبر في الحياة العامة، مما يعزز دورهم في خدمة المجتمع المصري الذي يراه أهم من دور الدولة.

ويثير هذا الاقتراح عدة تساؤلات جوهرية منها، ما المقصود بالرتب المدنية والألقاب؟ وهل يتوافق ذلك مع طبيعة النظام الجمهوري في مصر؟ وهل يتعارض ذلك المقترح مع مبدأي المساواة وتكافؤ الفرص، وكذا مبادئ العدالة الاجتماعية ونبذ الطبقية، واعتماد نمط الدولة الحديثة المنصوص عليها في الوثائق الدستورية والدساتير المصرية المتعاقبة بعد ثورة يوليو 1952؟ وما هي العقبات الدستورية والقانونية والاجتماعية التي قد تواجه المقترح؟ وهل لإعادة إحياء تلك المنظومة أصلاً جدوى حقيقية في خدمة الحياة العامة في مصر؟ وهل هناك بدائل أخرى تتوافق مع الدستور وروح الجمهورية؟

المقصود بالرتب المدنية والألقاب

يمكن تعريف "الرُتب المدنية والألقاب" بأنها تسميات لمراتب اجتماعية أو وظيفية تُمنح لأفراد تكريماً لمكانتهم الاجتماعية أو خدماتهم للدولة، وتشمل كذلك أنظمة النبالة والشرف والفروسية التي ترسّخت في السياقات الملكية والإقطاعية.

ففي أوروبا، حيث كان النظام الإقطاعي مهيمناً، نشأت هذه الأنظمة ضمن هرم طبقي صارم، وارتبطت النبالة والخدمة العسكرية أو السياسية، ومنحت ألقاب مثل "دوق"، "بارون"، و"سير"، يُصادق عليها رأس الدولة (الملك أو الإمبراطور) وتُرافقها امتيازات قانونية واجتماعية. أما في الشرق، فرغم وجود ألقاب مثل "باشا" و"بك" و"أمير"، فإنها كانت تُمنح غالباً بقرار تكريمي، دون أن تؤسس لطبقة وراثية مغلقة، بل كانت أكثر مرونة ومرتبطة بالكفاءة أو الولاء السياسي. ينعكس هذا الفارق في البنية القانونية والتاريخية، حيث تطورت في أوروبا أنظمة قانونية تُكرّس الامتياز الطبقي، بينما ظلت في الشرق أقل وضوحاً وصرامة.

تطور منظومة الرتب المدنية والألقاب في مصر

عرفت مصر منظومة الرتب والألقاب منذ أقدم العصور وتعددت أشكالها واختلفت وتنوعت وفقاً للتطور الذي طرأ على شكل الدولة ونظام الحكم فيها، إلا أنه يمكن القول إن منظومة الرتب المدنية والألقاب في العصر الحديث بدأت فعلياً عقب دخول العثمانيين مصر 1517 وتحول مصر من دولة وسلطنة مستقلة إلى ولاية عثمانية.

فترة الحكم العثماني لمصر: بين عامي (1517-1805) استأثر السلطان العثماني وحده بمنح الألقاب والرتب المدنية في مصر، فكان يُمنح والي مصر رتبة ولقب "باشا"، ومعناها حاكم عسكري، وتذهب بعض الآراء إلى أن أصلها يرجع للغة التركية، تعني "رأس، أو زعيم أو قائد"، فيما ذهبت آراء أخرى أنها كلمة فارسية مأخوذة من كلمة (بادي-شاه)، وهي تعني العامل بأمر السلطان.

يمكن تعريف "الرُتب المدنية والألقاب" بأنها تسميات لمراتب اجتماعية أو وظيفية تُمنح لأفراد تكريماً لمكانتهم الاجتماعية أو خدماتهم للدولة، وتشمل كذلك أنظمة النبالة والشرف والفروسية التي ترسّخت في السياقات الملكية والإقطاعية

كذلك مُنح قادة المماليك والذين كانوا يسيطرون على مفاصل الدولة ويشاركون الوالي الحكم، لقب "بك" وتعني السيد أو الأمير، وجمعها بكوات، إضافة إلى احتفاظهم بعدة ألقاب مثل منصب "شيخ بلد مصر" وهو يقوم مقام محافظ العاصمة القاهرة ورئيس الوزراء، ومنصب "أتابك العسكر" وهو قائد الجيش، ومنصب "كتخدا" وهو نائب الوالي وكان يمنح كذلك لأمراء الأقاليم.

غيتي
محمد علي (مواليد 1769، كافالا، مقدونيا، الدولة العثمانية - تُوفي في 2 أغسطس 1849، في الإسكندرية). كان واليًا وباشا على مصر، وأسس حكمها من القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين.

فترة أسرة محمد علي:

بعد تولي محمد علي ولاية مصر وتخلصه من أغلب البكوات المماليك في مذبحة المماليك 1811، لم يعد هناك وجود فعلي لحملة رتبة البكوية، واستعاض عنهم بعدد محدود للغاية من معاونيه المخلصين وأبنائه وتم منحهم رتبة الباشوية مثل "إبراهيم باشا بن محمد علي" و"محمد لاظوغلي باشا". وقد حاول محمد علي نفسه وخلفاؤه الحصول على لقب "عزيز مصر" و"الخديو" بدلاً من لقب "الوالي باشا"، حتى نجح "إسماعيل باشا" 1867 في استصدار فرمان من السلطان العثماني بمنحه لقب "خديو" وتعني "السيد" أو "الحاكم" وهى كلمة فارسية تزيد على مرتبة الأمير وتقل عن مرتبة السلطان. ومن الطريف في هذا الصدد أن الخديو إسماعيل طلب في البداية من السلطان أن يمنحه لقب "عزيز مصر"، إلا أن السلطان رفض طلبه، بسبب أن اسم السلطان كان "عبد العزيز الأول"، وبالتالي فلا يليق أن يكون إسماعيل التابع (عزيزاً) والسلطان المتبوع عبده أى (عبد العزيز)، ومن ثم تم الاستقرار على منحه لقب "خديو".

أ.ف.ب
تمثال نصفي للخديوي إسماعيل، حاكم مصر بين عامي 1863 و1879، معروض في المتحف الوطني الجديد للحضارة المصرية في منطقة الفسطاط بالعاصمة المصرية القاهرة

فترة الخديوية:

بعد منح إسماعيل لقب "خديو"، حدث تحول جذري في منظومة الرتب المدنية والألقاب، فعلى الرغم من أن استمرار السلاطين العثمانيين لمنحها، فإن سعي الخديو إسماعيل حاول محاكاة الدول الملكية الأوروبية، فتوسع في ترشيح اسماء كبار رجال الدولة وكل من أسهم في نهضة وتقدم الولاية لمنحهم رتبة الباشوية مثل "رفاعة باشا الطهطاوي" و"علي باشا مبارك" و"محمود باشا الفلكي"، بل إن أحد أهم رجال البلاط الخديوي، وهو "إسماعيل باشا صّديق" المعروف "بإسماعيل المفتش"، مُنح  لقب أعلى من لقب الباشا وأقل من لقب الخديو، وهو لقب "المشير". كذلك توسع الخديو إسماعيل في ترشيح أسماء من العسكريين ورجال الحكومة لمنحهم رتبة البكوية، وقد استمر ذلك حتى إعلان الحماية البريطانية على مصر 1914.

فترة الحماية البريطانية وإعلان السلطنة المصرية

بعد إعلان الحماية البريطانية على مصر عام 1914 وزوال تبعية مصر للدولة العثمانية وقيام السلطنة في مصر، أصبح منح الرتب المدنية والنياشين من اختصاص سلطان مصر، فصدر أمر سلطاني بتاريخ 11 أبريل 1915 بالألقاب الرسمية (بما في ذلك ألقاب العائلة المالكة من الأسرة العلوية)، وإنشاء الرتب المدنية والنياشين.

تعزز ذلك المبدأ بعد إعلان استقلال مصر رسمياً من السلطنة العثمانية واستقلالها جزئياً من الاحتلال البريطاني بموجب تصريح 28 فبراير 1922 مع التحفظات الأربعة، والذي بموجبه أصبحت مصر دولة مستقلة ذات سيادة، وقامت المملكة المصرية وصدر دستور 1923 ونص في المادة 43 منه على أن الملك ينشئ ويمنح الرتب المدنية والعسكرية والنياشين وألقاب الشرف الأخرى. ونص في المادة 111 منه على أنه لا يمنح أعضاء البرلمان رتباً ولا نياشين أثناء مدة عضويتهم، ويستثنى من ذلك الأعضاء الذين يتقلدون مناصب حكومية لا تتنافى مع عضوية البرلمان، ويستثنى من ذلك الرتب والنياشين العسكرية. وبهذا أصبح منح الرتب المدنية والنياشين اختصاصاً حصرياً للملك.

منظومة الرتب المدنية والنياشين الحديثة خلال فترة الملكية

الرتب المدنية: بناء على ذلك صدر الأمر الملكي رقم 2 لسنة 1923 بشأن تعديل الرتب المدنية والنياشين، فتم إنشاء خمس رتب مدنية وهي:

1) رتبة الرئاسة: ويختص بها رئيس مجلس الوزراء، ويلقب "بحضرة صاحب الدولة".

2) رتبة الامتياز: ويختص بها الوزراء وبعض كبار الموظفين الذين هم في درجة الوزراء مثل كبير أمناء القصر الملكي (رئيس الديوان الملكي)، وسردار (قائد) الجيش المصري، ورئيسي مجلس الشيوخ ومجلس النواب، ورؤساء محاكم الاستئناف الأهلية والمختلطة (ولاحقاً رئيس محكمة النقض والإبرام 1931، ورئيس مجلس الدولة 1946)، ويلقب صاحبها "بحضرة صاحب المعالي".

3) رتبة الباشوية: وتمنح لكبار موظفي الدولة وكبار الأعيان الذين يؤدون للبلاد خدمات جليلة، ويلقب صاحبها "بحضرة صاحب السعادة".

4) رتبة البكوية من الدرجة الأولى: ويلقب صاحبها "بحضرة صاحب العزة".

5) رتبة البكوية من الدرجة الثانية: ويلقب صاحبها "بصاحب العزة"، وكانت الرتبتان الأخيرتان تمنحان لفئة واسعة من الموظفين العموميين والأعيان، وتم وضع حد أدنى للمرتب السنوي كنصاب مالي لكل رتبة بالنسبة لموظفي الدولة.

تم إنشاء ثمانية نياشين، تمنح للمصريين والأجانب من ذوي الجدارة الفائقة أو لمن يؤدون للبلاد خدمات استثنائية جليلة

النياشين: تم إنشاء ثمانية نياشين، تمنح للمصريين والأجانب من ذوي الجدارة الفائقة أو لمن يؤدون للبلاد خدمات استثنائية جليلة، وهي: 1) نيشان محمد علي، 2) نيشان إسماعيل، 3) نيشان النيل، 4) نيشان الكمال، 5) نيشان المعارف، 6) نيشان الصناعة، 7) نيشان الزراعة، 8) نيشان الفلاحة. وكان كل نيشان ينقسم إلى عدة طبقات تمنح وفقاً لشروط معينة، وكانت النياشين الثلاثة الأولى تمنح إلى رؤساء وملوك الدول الأجنبية أو للسياسيين من المصريين والأجانب وفقاً لمعايير سياسية، بينما كان يمنح نيشان الكمال للسيدات من المصريات والأجانب مثل قرينات الرؤساء والملوك والوزراء والسفراء وكانت تلقب الحاصلة عليه "بصاحبة العصمة"، بينما كان نيشان المعارف يمنح لكل من ساهم في رفعة العلوم والفنون والآداب والثقافة، في حين كانت نياشين الصناعة والزراعة والفلاحة تمنح لأصحاب وأرباب الحرف والمهن الصناعية والزراعية بناءً على استحقاقهم وإنجازاتهم المهنية. وإضافة لذلك، كان من حق الملك منح مجموعة من القلادات والأوسمة والأنواط وفقاً لشروط محددة.

إدارة الديوان الملكي لمنظومة منح وتوزيع الرتب المدنية والألقاب

كانت تقدم طلبات الحصول على الرتب المدنية والألقاب والنياشين للديوان الملكي طوال العام، إلا أن الطلبات كانت تتزايد في مناسبتي (عيد ميلاد الملك) و(عيد الجلوس على العرش). وكان الأعيان يقدمون التبرعات والخدمات للحصول على هذه الرتب والألقاب، والتي كانت في الأغلب تشمل التبرع بالأموال لأوجه العمل الخيري، مثل إنشاء مستشفى أو مسجد أو كنيسة أو مدرسة أو التبرع لأحد المستشفيات أو جمعية الهلال الأحمر، وجرى العرف على تقييم الخدمات بنحو 20 إلى 30 ألف جنيه لرتبة الباشوية ومن 5 إلى 10 آلاف جنيه لرتبة البكوية.

أ.ف.ب
صورة التُقطت في منزل الأمير محمد علي، الابن الأكبر لآخر ملوك مصر، فؤاد الثاني: الملك فاروق (وسط)، محمد علي باشا (أعلى اليسار)، الملك فؤاد الأول (أعلى اليمين)، الملك فاروق (أسفل اليمين) والخديوي إسماعيل، الذي حكم مصر والسودان

وفي نهاية العهد الملكي، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين، أشار الكثير من الكتّاب والمؤرخين إلى شبهات فساد طالت هذه المنظومة، خاصة بعد ظهور طائفة جديدة من أغنياء الحرب والأثرياء الجدد (Nouveau riche)، ممن جمعوا ثرواتهم في ظروف مريبة، والتي كانت تتهافت لشرائها بالمال وتقديم الرشاوى للحصول عليها، وكانت بالنسبة لهم بمثابة تبييض لماضيهم المشبوه والتذكرة الذهبية لدخول مجتمع الصفوة.

قيام ثورة يوليو 1952 وإلغاء الرتب المدنية والألقاب وإعلان الجمهورية

عقب قيام الثورة في يوليو 1952 بأسبوع واحد، أصدرت وزارة علي ماهر باشا (أول وزارة بعد ثورة يوليو) في 30 يوليو 1952، قراراً رسمياً بإلغاء الرتب المدنية والألقاب بموجب الأمر رقم 68 لسنة 1952، بسبب ما أدت إليه هذه الألقاب من تفاوت اجتماعي شديد وتمييز بين فئات المجتمع، وهو ما لم ينسجم مع أهداف ومبادئ ثورة يوليو في تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص، فتم إبدال الألقاب الملغاة بلقب "السيد" في المعاملات الرسمية، مع استخدام ألقاب أخرى مثل "أستاذ" أو "حضرة المحترم".

حرصت ثورة يوليو على تأكيد وترسيخ مفهومي المساواة وتكافؤ الفرص في وثائقها الدستورية، بداية من الإعلان الدستوري ديسمبر/كانون الأول 1952 والذي أعلن سقوط دستور 1923 والذي أعطى الملك سلطات منح الرتب والنياشين، ثم الإعلان الدستوري فبراير/شباط 1953 والذي نص على أن المصريين لدى القانون سواء فيما لهم من حقوق وما عليهم من التزامات، ثم إعلان قيام الجمهورية والإعلان الدستوري يونيو/حزيران 1953، والذي ألغى النظام الملكي، وحكم أسرة محمد علي، وألغى الألقاب من أفراد هذه الأسرة. ودستور 1956 الذي نص صراحة على حظر إنشاء الرتب المدنية، وقد تردد هذا الحظر في كافة الدساتير والدساتير المؤقتة وإعلانات الدساتير خلال فترة الجمهورية إنتهاءً بالدستور الحالي، والذي تضمن ذات الحظر في المادة 26 منه، إضافة لما تضمنته المادة 53 منه أن المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأى سبب آخر.

حرصت ثورة يوليو على تأكيد وترسيخ مفهومي المساواة وتكافؤ الفرص في وثائقها الدستورية، بداية من الإعلان الدستوري ديسمبر 1952 والذي أعلن سقوط دستور 1923 والذي أعطى الملك سلطات منح الرتب والنياشين، ثم الإعلان الدستوري فبراير 1953 والذي نص على أن المصريين لدى القانون سواء فيما لهم من حقوق وما عليهم من التزامات

هل هناك جدوى حقيقية من عودة الرتب المدنية إلى الحياة العامة في مصر؟

على الرغم من نُبل دوافع هذا المقترح، إلا أن الجدوى منه ستكون محدودة للغاية واقعياً، وستكون له آثار سلبية وخيمة على المجتمع، كتعزيز الطبقية وإزكاء الانقسامات الاجتماعية الموجودة بالفعل. فالمجتمع المصري، شأنه شأن أي مجتمع، يعاني من فوارق اجتماعية واقتصادية، وإعادة الألقاب رسمياً تضفي الشرعية على هذه الفوارق، وتجعلها أكثر وضوحاً، مما يؤدي إلى تفاقم الشعور بالظلم لدى الفئات الاجتماعية الأقل حظاً، وهو ما يكدر السلم الاجتماعي. فمصر اليوم تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية ضخمة تتطلب تكاتف الجهود والتركيز على التنمية المستدامة، ومن غير المنطقي أن تكون الأولوية لإعادة ألقاب تاريخية، بدلاً من التركيز على تحسين مستوى المعيشة، وتطوير التعليم والصحة، وتعزيز البنية التحتية، بهدف خلق بيئة اجتماعية صحية تشجع على الإبداع والإنتاجية بعيدا عن أي فوارق مصطنعة.

غيتي
وزراء الحكومة المصرية خارج القصر الملكي في القاهرة أمام الملك فؤاد الأول، حوالي عام 1925

تُبرز التجارب الدولية المقارنة إمكانيات تكريم المواطنين والأفراد دون المساس بقيم الدولة، ففي بريطانيا، يعكس نظام الألقاب الشرفية (سير، ديم، لورد، إيرل) تاريخاً أرستقراطياً يتناسب مع نظامها الملكي، لكنها تُثير جدلاً حول تعزيز الطبقية وإخلالها بالمساواة الاجتماعية، رغم محدودية امتيازاتها القانونية اليوم.

بينما في فرنسا، وبعد قيام الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789، تم إلغاء الامتيازات الإقطاعية والألقاب النبيلة، بهدف إرساء مبدأ المساواة أمام القانون، حتى أنشأ نابليون بونابرت لاحقاً 1802 نظاماً شرفياً وهو "وسام جوقة الشرف"، لكنه ركز على الجدارة بدلاً من النسب، محافظاً على الطابع الجمهوري. وكذلك تجربة الولايات المتحدة مع وسام الحرية الرئاسي، والأوسمة الأخرى التي يمنحها الكونغرس، كل هذه التجارب تُبرز إمكانية إلغاء الامتيازات مع الحفاظ على تكريم الإنجازات، مما يدعم قيم الجمهوريات الحديثة، على عكس أنظمة الألقاب التي تتعارض مع قيم المساواة وتكافؤ الفرص.

على الرغم من نُبل دوافع هذا المقترح، فإن الجدوى منه ستكون محدودة للغاية واقعياً، وستكون له آثار سلبية وخيمة على المجتمع، كتعزيز الطبقية وإزكاء الانقسامات الاجتماعية الموجودة بالفعل. فالمجتمع المصري، شأنه شأن أي مجتمع، يعاني من فوارق اجتماعية واقتصادية

البدائل المتوافقة مع مبادئ الدستور والنظام الجمهوري

إذا كانت غاية الاقتراح تكريم المتميزين وتحفيزهم وتشجيع الأثرياء ورجال الأعمال على المشاركة في نهضة المجتمع، فإن هناك بدائل أكثر توافقاً مع المبادئ الدستورية وطبيعة النظام الجمهوري للدولة، منها مثلاً القانون رقم 12 لسنة 1972 بشأن الأوسمة والأنواط والذي خصص نظاماً لتكريم الأشخاص من خلال الأوسمة والقلادات والأنواط والنياشين فقط، دون الرتب أو الألقاب الاجتماعية.

فبدلًا من إعادة الرتب، يمكن تطوير نظام الأوسمة الحالي وتوسيع نطاقه ليشمل فئات أوسع، خاصة من الأثرياء ورجال الأعمال ممن يقدمون خدمات جليلة للجمهورية في مختلف المجالات، في الخدمة العامة، والاقتصاد، والعمل الاجتماعي، والمبادرات المجتمعية.

كذلك من الممكن إحياء الاحتفال بعيد العلم وعيد الفن التي كانت تقام بانتظام في فترة الخمسينات والستينات، لتكريم العلماء والفنانين والمبدعين في كافة المجالات، وكل من أسهم في تقدم العلوم والفنون في الجمهورية، وبهذا الإحياء يمكن توفير منصة قوية للاعتراف بالإنجازات، وتشجيع وتحفيز الأفراد على الإبداع، دون خلق أي فوارق طبقية.

font change

مقالات ذات صلة