طوق الأناضول

طوق الأناضول

استمع إلى المقال دقيقة

منذ أن دخلت منطقة "شرق المتوسط" طور التحولات الجيوسياسية الجديدة، يستحضر الوعي السياسي التركي المجالين الإدراكيين التقليديين في الذات القومية التركية، اللذين وإن كانا متناقضين تماما، لكنهما متلازمان في ذلك الوعي كما كل أزمة كبرى: واحد يعتقد أن أمة الأتراك قد حصلت في حاضرها على أقل مما "تستحق". فهي التي كانت إمبراطورية متسيدة على كيانٍ مترامي الأطراف، لكن لم يبقَ لها منه إلا هذه الجغرافيا المسماة "تركيا الحديثة"، حيث لا تشكل مساحتها وسكانها إلا 15 في المئة مما كانت عليه الدولة العثمانية، دولتهم. الثاني، حسٌ مستبطن بأن هذه المساحة والهيمنة، على صغرها، هي فعلياً أكبر من "الانتشار القومي" الحقيقي للأتراك. فعلى جنبات هذه الدولة التركية الحديثة ثمة شعوب وجغرافيات وثقافات غير تركية تماما، أكراد وعرب ولاظ وأرمن، علويون وشيعة ومسيحيون ويهود، خضعوا للذات التركية ووعيها وهويتها المفترضة، فقط عبر عمليات قسرٍ مستدامة، كانت على شكل حروب متتالية، غطت كامل الربع الأول من القرن المنصرم.

خطابات الأحزاب وأفكار المنظرين وكل الأدب السياسي التركي طافح بالوعي بهذه الثنائية، نثرته يميناً وشمالاً طوال قرن كامل. فعلت ذلك، وإن كان خطاب الفقد والشعور بالتحجيم ظاهراً وبراقاً، ونظيره الحسي بالهيمنة على الغير مكبوتاً ومستبطناً. إلا أنهما سويا خلقا الوعي القومي التركي، الذي لم ينج منه أحد من "الأتراك" تقريبا، بسبب هيمنته الكلية على المجال العام، وعنفه المطلق وطاقته التعظيمية للذات. فأي شخصية عامة تركية، سياسية ثقافية أو حتى اجتماعية بسيطة، يمكن تفكيك بواطن وعيها الكلي بنفسها على جنبات هذه الثنائية: تمسك بالماضي العتيد، لكن ليس بكونه تاريخاً ماضياً في الدرجة الأولى، بل أداة للتكريس والحفاظ على ما في الحاضر من هيمنة على الآخرين، والمعرض للمزيد من التفكك، حسب هوسهم الذاتي، لو تم التخلي عن ذلك الاعتداد بالماضي، ولو نسبياً.

راهناً، تشكل الاندفاعة العسكرية والجغرافيا الإسرائيلية نحو محيطها الأعم، حدثاً مقلقاً للنخب وللدولة العميقة التركية بل لوعيها لنفسها، بالذات في مسار اعتقادها بأن مضامين هذا الجموح الإسرائيلي إنما سيقوض ويفكك قدرة تركيا على حفظ مجالها الداخلي ذاك.

النزعة السلطوية لأردوغان تتطلع لنشر خوف عام مما يجري، والادعاء بأن الرد الوحيد عليها هو تغيير الدستور لصالح مدد مفتوحة لحكم أردوغان

لا تخفي الصحافة وصناع القرار الأتراك مشاعرهم بأن ما يجري هو مطابقة أو تتمة لما حدث قبل أكثر من قرن، حين فككت الحرب العالمية الأولى عروة "إمبراطورية الأتراك"، وحولتهم إلى مجرد "دولة إقليمية"، وإن مهيمنة على جغرافيات وهويات الجماعات الأهلية الأصغر. فكما كانت الحرب الكبرى، تقف الاستراتيجيات الكبرى والخطط بعيدة المدى وراء ما تفعله إسرائيل راهناً، حسبما يعتقد قادة تركيا أنهم يعرفون من معلومات. ومثل تلك الحرب أيضاً، فإن ما يجري هو سعي حثيث لإعادة ترتيب الجغرافيات والهويات الكيانية في المنطقة، وليس مجرد ابتغاء تفصيليا لتغيير بعض السياسات فحسب. 
كذلك يدرك القائمون على أمر الدولة في تركيا أن مركز الكيان صار "محاصرا" بكل ما يجب الخوف منه: مساحات شبه سيادية للكرد في المحيط، مسلحة وذات ثقل وعلاقات دولية وإقليمية، يلاقيه وعي سياسي كردي في الداخل، منظم وذو رؤية للذات. مع الأمرين ثمة العلويون الذين صاروا يعتبرون أنفسهم "علويين"، وليسوا أتاتوركيين علمانيين كما كانوا طوال تاريخهم الحديث، وهناك إسلاميون لم تعد صيغة الدولة القومية/العلمانية المطلقة تتوافق مع تطلعاتهم. معها كلها تفكك متقادم لكل صيغ الدولة في الجوار، حتى في إيران نفسها، المطابقة لتركيا في وراثتها لإمبراطورية تاريخية. 
كل ذلك يزرع "الرعب" في ذات القائمين على الدولة التركية. 
لكنهم لا يجدون إلا شكلين من أدوات السيطرة السياسية والعامة على البلاد، لا يمكن لأي منهما أن تديرا وتقودا هذه "المحنة الوطنية". فالنزعة السلطوية لأردوغان والنخبة الحاكمة المحيطة به، تتطلع لتأبيد حكمها وأدوات سلطتها عبر  نشر خوف عام مما يجري، والادعاء بأن الرد الوحيد عليها هو تغيير الدستور لصالح مدد مفتوحة لحكم أردوغان، وإن عبر بعض التغيير القشري داخله. 
يلاقيه تيار القومية الأتاتوركية حيث الجمود الأيديولوجي والخطابي المخيف، لا يعتد بحركة التاريخ وما تغير في البشر طوال العقود الماضية، وليس في بيانها السياسي إلا عبارة مقتضبة "وحدنا شيدنا تركيا، ووحدة نحميها"، شيء من الناصرية، وإن بلغة أخرى.

font change