إعادة تدوير البلاستيك المختلط... و"الذكاء الكيميائي"

من نفايات معقدة إلى حل إنزيمي بسيط

shutterstock
shutterstock
نفايات بلاستيكية ورغوية عائمة تلوّث ركنا من ميناء فيكتوريا في هونغ كونغ

إعادة تدوير البلاستيك المختلط... و"الذكاء الكيميائي"

في القرن التاسع عشر، ازدادت معدلات قتل الفيلة بشكل غير مسبوق بغرض الحصول على أنيابها التي كانت تُستخدم في صناعة العاج. وفي نهاية الستينات من القرن نفسه، طوّر عالِم كيميائي أميركي يُدعى جون ويزلي هايت أول بوليمر صناعي يمكنه محاكاة العاج والمواد الطبيعية الأخرى المستنزفة من خلال معالجة السليلوز، وذلك بعد أن عرضت شركة أميركية عام 1863 جائزة قدرها 10 آلاف دولار لمن يخترع بديلا للعاج المستخدم في صناعة كرات البلياردو، مما حفز هايت على ابتكار "السليولويد" الذي نال استحسان الكثيرين كبديل للعاج، حتى إنه أُطلق على ذلك الابتكار "منقذ الفيلة"، ومن هنا انطلقت ثورة البلاستيك. وتبعه عدد من الباحثين الذين اجتهدوا لإنتاج بلاستيك صناعي كامل.

وبالفعل تمكّن الكيميائي البلجيكي ليو هندريك بيكلاند في مطلع القرن العشرين من ابتكار أول بلاستيك صناعي كامل يتمتع بخصائص فيزيائية فريدة، وأقوى من السيلولويد، وعُرف ابتكاره باسم "باكيليت". وقد نال إعجاب الكثيرين أيضا، خاصة أن ذلك الابتكار كان قائما على بوليمرات صناعية لا تعتمد على أي مواد طبيعية. وقتها كانت يُسوّق للباكيليت على أنه "مادة ذات ألف استخدام". تمر الأيام والسنوات والعقود، ويصير البلاستيك جزءا أساسيا من الحياة اليومية، فقد حقق انتشارا واسعا في احتياجات الحياة العصرية كافة، إذ ساهم في تطوير الحاسوب والهواتف الذكية، إضافة إلى دوره في تطور الطب، وغيرها.

قد يبدو أمرا محمودا، لكن الحقيقة أن الخسائر كانت أعمق من ذلك، إذ أن البلاستيك مادة مصنعة، لا تتحلل بيولوجيا، وهذا يعني أنها تتراكم في الطبيعة، وتتسبب بتلوث بلاستيكي. إضافة إلى أن إنتاج البلاستيك ودورة حياته تساهم في إطلاق انبعاثات الغازات الدفيئة المتسببة في الاحتباس الحراري. ففي عام 2019، وصلت نسبة الانبعاثات الناتجة من البلاستيك نحو 3.4% من إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة.

انتباه إلى مشكلة دولية

ازدادت الحاجة إلى البلاستيك، خاصة مع اندلاع الحروب العالمية، وفي منتصف القرن العشرين، انتبه البشر إلى أزمة التلوث البلاستيكي التي صارت عبئا على الكوكب. ففي عام 1960، كانت هناك مجموعة بحثية تدرس صحة الحياة البحرية في المحيطات عبر جهاز يُسمى "مسجل البلانكتون المستمر" وهو عبارة عن أداة تُسحب خلف السفن لجمع عينات وبيانات لمجتمعات العوالق على مسافات طويلة، هذا يوفر معلومات حول توزيعها ووفرتها، مما يعطي مؤشرا إلى مدى صحية المحيطات. علما بأن العوالق هي الغذاء الرئيس للأنواع البحرية، ووجودها ضروري لحفظ النظام البيئي الأرضي.

بيكتوريال باريد/أرشيف هالتون/صور جيتي
المخترع الأميركي جون ويسلي هايات (1837-1920)، نحو عام 1910، أثناء بحثه عن بديل للعاج في صناعة كرات البلياردو

وفي أثناء عملية التسجيل، لاحظ الباحثون أن هناك شيئا ما قد تشابك مع مسجل البلانكتون المستمر، وكان هذا الجسم المتشابك عبارة عن كيس بلاستيكي قبالة سواحل أيرلندا. ولاحظوا أيضا أن الجهاز قد سجل بعض البيانات حول البلاستيك الذي رصده.

تعد مرحلة الجمع والفرز من أهم المراحل في عملية إعادة تدوير البلاستيك، وربما أكثرها حساسية. فهي التي تحدد ما إذا كانت المادة البلاستيكية سيعاد تدويرها فعلا أم سينتهي بها المطاف في مكب النفايات أو في أحد المسطحات المائية

وفي بداية السبعينات، انتبه عالم الأحياء البحرية إدوارد كاربنتر لوجود حطام بلاستيكي في المحيط، وفي عام 1972 نشر دراسة في دورية "ساينس" حول زيادة تركيزات جزيئات البلاستيك في بحر سرقوسة، وسط شمال المحيط الأطلسي، محذرا من أن زيادة استهلاك البلاستيك مع ممارسات التخلص من نفاياته بصورة غير صحيحة، سيتسبب في زيادة تركيزات جزيئات البلاستيك في المحيطات بما فيها من كائنات بحرية.

بمرور الوقت، ازدادت الحاجة إلى إعادة تدوير البلاستيك، للحفاظ على صحة الكوكب، إذ ينتج نحو 92 مليون طن من نفايات الملابس والمنسوجات عالميا سنويا والتي تحتوي على مواد بلاستيكية، وهذا يعني أن هناك حاجة ماسة لحلول جذرية لمثل هذه النفايات البلاستيكية، خاصة أن التلوث البلاستيكي منتشر في كل مكان تقريبا. لكن، ظهر الكثير من التحديات.

تمر عملية إعادة تدوير البلاستيك بخمس مراحل رئيسة، تختلف تفاصيلها حسب نوع البلاستيك، ونظام جمع النفايات في كل بلد، وقدرة المنشآت الصناعية على المعالجة.

تُعد مرحلة الجمع والفرز من أهم المراحل في عملية إعادة تدوير البلاستيك، وربما أكثرها حساسية. فهي التي تحدد ما إذا كانت المادة البلاستيكية سيعاد تدويرها فعلا أم سينتهي بها المطاف في مكب النفايات أو في أحد المسطحات المائية. تبدأ العملية بجمع النفايات البلاستيكية من مصادر متنوعة، أبرزها المنازل، حيث تُلقى الزجاجات والأكياس وعبوات الطعام ضمن النفايات المنزلية، سواء أكانت مفروزة من المصدر أم لا. كما تُجمع نفايات البلاستيك من المصانع والمتاجر الكبرى، وغالبا ما تكون أنظف وأقل تلوثا، مما يجعل معالجتها أسهل وأكثر كفاءة. أما في الشوارع والأماكن العامة، فيلعب "الجامعون غير الرسميين" دورا محوريا في التقاط الزجاجات والأكياس وإعادة بيعها، وهو مشهد مألوف في كثير من دول العالم النامي.

GettyImages
صناعة كرات البلياردو من العاج. يظهر في الصورة ما يبدو أنه قوالب لقياس حجم الكرات

بعد الجمع، تُنقل النفايات البلاستيكية إلى مراكز الفرز، وهي منشآت مخصصة لاستقبال المواد وتصنيفها. في كثير من الأحيان، تكون هذه النفايات مختلطة بأنواع أخرى من القمامة مثل الورق أو بقايا الطعام، مما يستدعي فرزا دقيقا لاستبعاد المواد غير المناسبة. في بعض المراكز البسيطة، تتم هذه العملية يدويا، حيث يصطف العمال على خطوط الإنتاج لفرز العبوات واحدة تلو الأخرى، معتمدين على أعينهم وخبرتهم في التمييز بين الأنواع المختلفة من البلاستيك مثل PET (تيريفثاليت البولي إيثيلين) وHDPE (البولي إيثيلين العالي الكثافة) وPP (البولي بروبلين). ورغم بساطتها، إلا أن هذه الطريقة مرهقة بدنيا، وقد تعرّض العمال لمواد ضارة إذا لم تتوفر وسائل الوقاية.

في المقابل، تعتمد المنشآت الأكثر تطورا على أنظمة فرز آلية، تجمع بين الحساسات البصرية، وتقنيات الأشعة تحت الحمراء، وأجهزة نفث الهواء. تقوم الكاميرات الذكية بتحليل لون وشكل كل قطعة بلاستيكية تمر على الحزام، بينما تقوم أجهزة الأشعة تحت الحمراء بتحليل البصمة الطيفية لكل نوع بلاستيك على حدة، بما يتيح تمييز أنواع متقاربة ظاهريا لكنها مختلفة في تركيبها الكيميائي. وبمجرد تحديد نوع المادة، يتم توجيهها إلى المسار الصحيح باستخدام دفعات سريعة من الهواء المضغوط.

لا يتوقف الفرز على النوع فقط، بل يشمل أيضا تصنيف البلاستيك حسب اللون. فالمادة الشفافة تُعد أكثر قيمة، لأنها تتيح استخدامات متعددة، في حين يعاد تدوير البلاستيك الأسود أو الداكن غالبا في منتجات منخفضة القيمة مثل ألواح البناء أو الصناديق البلاستيكية. وقد تُرفض بعض الحمولة تماما إذا كانت مختلطة بألوان أو أنواع يصعب فصلها.

وإلى جانب التصنيف، تتم إزالة الملوثات العالقة بالبلاستيك، مثل الملصقات، وبقايا الطعام، أو الأغطية المعدنية. فهذه الشوائب تعيق عملية الصهر لاحقا، وقد تؤدي إلى انخفاض جودة المنتج النهائي أو حتى تلفه بالكامل. ويجري التخلص من هذه الملوثات بطرق مختلفة، مثل التمشيط اليدوي أو استخدام فلاتر ومغناطيسات وأدوات كشط متخصصة.

بعد الغسل الأولي، تأتي مرحلة "الطفو والترسيب"، وهي تقنية ذكية تُستخدم لفصل أنواع البلاستيك بناءً على كثافتها


تظهر هذه المرحلة أن إعادة التدوير ليست مجرد عملية ميكانيكية، بل معركة دقيقة ضد الفوضى، تسعى لاسترداد أكبر قدر ممكن من البلاستيك القابل للاستخدام، قبل أن يضيع بين القمامة أو يُحرق أو يُدفن. وكلما زادت دقة الفرز، زادت فرص تحويل هذه النفايات إلى موارد جديدة، بدلا من أن تتحول إلى عبء بيئي آخر.

بعد الانتهاء من عملية الفرز، سواء كانت يدوية أو آلية، تُنقل النفايات البلاستيكية المختارة إلى المرحلة التالية: الغسل والتنظيف. وهذه المرحلة تُعد بمثابة "حمّام تطهيري" للبلاستيك، إذ يُزال منها كل ما قد يعيق المعالجة اللاحقة أو يفسد جودة المنتج النهائي. وبقدر ما تبدو هذه الخطوة بسيطة، إلا أنها عملية معقدة ومتطلبة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالبلاستيك الذي تم جمعه من مصادر مختلطة أو ملوثة بشدة.

في البداية، تُنقَل المواد البلاستيكية إلى خزّانات أو خطوط غسيل مزوّدة أجهزة تدوير المياه وذراعيات ميكانيكية تقوم بتحريك القطع بشكل مستمر. يُستخدم الماء بدرجات حرارة مختلفة، ويضاف إليه مزيج من المنظفات الصناعية والصودا الكاوية أحيانا، لإزالة الدهون والزيوت والمواد العضوية العالقة. في بعض الأحيان، تُستخدم كذلك أجهزة ذات ضغط عالٍ لغسل الأوساخ التي يصعب إزالتها، خاصة في حالة عبوات الطعام والمشروبات.

وليس من النادر أن تكون بعض القطع البلاستيكية مغطاة بالكامل بملصقات، أو تحتوي على بقايا سائلة أو كيميائية. هذه المواد قد تكون خطرة أو ضارة، ولهذا تخصص آلات لإزالة الملصقات باستخدام البخار أو الفرك الميكانيكي، بينما يتم فصل الأغطية أو المكونات غير البلاستيكية الأخرى باستخدام فلاتر شبكية دقيقة.

بعد الغسل الأولي، تأتي مرحلة "الطفو والترسيب"، وهي تقنية ذكية تُستخدم لفصل أنواع البلاستيك بناء على كثافتها. توضع المواد في أحواض كبيرة من الماء، حيث تطفو بعض الأنواع (مثل البولي بروبلين) على السطح، بينما تغرق أخرى (مثل PET) في القاع. هذه التقنية لا تُستخدم فقط للفصل، بل تساعد أيضا في إزالة الأتربة الدقيقة أو الجزيئات المعدنية الصغيرة.

ثم تجفّف المواد باستخدام أنظمة طرد مركزي أو مجففات حرارية. ويراعى في هذه المرحلة ترشيد استخدام الماء، حيث يعاد تدوير نسبة كبيرة منه بعد معالجته، خاصة في المصانع التي تعمل وفق معايير الاستدامة البيئية. فالإفراط في استهلاك المياه سيحوّل إعادة التدوير نفسها إلى عبء بيئي آخر، وهو ما تسعى المنشآت الجادة إلى تجنبه.

في النهاية، تخرج المواد البلاستيكية من هذه المرحلة وهي نظيفة نسبيا، وخالية من الملوثات العضوية والفيزيائية. وتكون جاهزة للمرحلة التالية: التمزيق والطحن. لكن من المهم الإشارة إلى أن فعالية هذه المرحلة تعتمد بشكل كبير على جودة الفرز الذي سبقها. فإذا كانت الشحنة تحتوي على نوعيات غير متجانسة أو ملوثة بشدة، فإن الغسل – مهما كان متقدما – لن يكون قادرا على إصلاح كل شيء.

ثم تقطع المواد البلاستيكية إلى رقائق أو كريات صغيرة باستخدام ماكينات خاصة. يساعد ذلك في تسهيل التعامل مع المادة خلال المراحل التالية من المعالجة، كما يسهل عملية الصهر، ويعاد صهر البلاستيك المقطع في درجات حرارة محددة ثم يُضغط من خلال قوالب لإنتاج حبيبات بلاستيكية صغيرة تُعرف بـ "pellets"، وهي المادة الخام الأساسية التي يمكن استخدامها لصنع منتجات جديدة. في بعض الأحيان، يعاد تشكيل البلاستيك مباشرة في قوالب لصنع منتجات مثل حاويات أو أثاث أو أنابيب.

تزيد الأمور تعقيدا مع البلاستيك المتعدد الطبقات، مثل الأكياس وعلب العصير المبطّنة، التي تحتوي على طبقات من البلاستيك والألمنيوم أو الورق في آن واحد

تستخدم الحبيبات المعاد تدويرها في صناعة منتجات جديدة، مثل القوارير، والسجاد، والملابس الصناعية، وألواح البناء، وحتى مكونات السيارات. ومع ذلك، لا يعاد استخدام البلاستيك المدوَّر دوما في نفس نوع المنتجات التي جاء منها، نظرا لتغير خصائصه الكيميائية بعد كل عملية تدوير.

رغم أهمية مرحلة الفرز في عملية إعادة تدوير البلاستيك، إلا أنها في الواقع تمثل إحدى أكثر الحلقات هشاشة في سلسلة التدوير، وغالبا ما تكون السبب الرئيس في فشل أو تدني جودة العملية بأكملها. تكمن أولى المشكلات في أن البلاستيك لا يأتي إلى مراكز التدوير بشكل نقي أو موحد، بل كمزيج فوضوي من أنواع لا تحصى: زجاجات مياه، أكياس تسوق، عبوات مواد تنظيف، علب طعام، أغطية، وألعاب، وكل منها مصنوع من تركيبة كيميائية مختلفة قد لا تتوافق مع الأخرى عند إعادة الصهر. العديد من المستهلكين لا يعرفون – أو لا يهتمون – بفرز نفاياتهم حسب نوع البلاستيك، أو ربما لا تتوفر لديهم الأدوات اللازمة لذلك، مما يجعل النفايات تصل إلى مراكز الفرز مختلطة، ملوثة، أو غير قابلة للاستعمال.

حتى في المراكز التي تعتمد على التقنيات الآلية المتطورة، فإن المشاكل لا تختفي. فبعض أنواع البلاستيك متشابهة جدا في الشكل واللون، لكن لها خصائص كيميائية مختلفة لا يمكن مزجها عند الصهر، وفي حال فشلت أجهزة الفرز في التمييز بينهما، قد تؤدي نسبة صغيرة من النوع "الخاطئ" إلى إفساد شحنة كاملة. الأسوأ من ذلك أن البلاستيك الأسود، المنتشر بكثرة في عبوات الطعام الجاهز، لا يمكن تمييزه بالأشعة تحت الحمراء، مما يجعله "غير مرئي" حرفيا لمعظم أنظمة الفرز الآلي، وينتهي به الأمر في مكبات النفايات أو في الحرق.

تزيد الأمور تعقيدا مع البلاستيك المتعدد الطبقات، مثل الأكياس وعلب العصير المبطّنة، التي تحتوي على طبقات من البلاستيك والألمنيوم أو الورق في آنٍ واحد. هذا النوع لا يمكن فصله بسهولة، ويُعتبر "غير قابل للتدوير" في معظم الأنظمة التقليدية. حتى الأغطية والملصقات اللاصقة، التي تبدو عناصر بسيطة، قد تعوق عملية التدوير إذا لم تُفصل بدقة، لأنها غالبا ما تكون مصنوعة من نوع مختلف من البلاستيك أو تحتوي على غراء غير متوافق مع عملية الصهر.

يضاف إلى هذه التحديات عامل اقتصادي لا يمكن تجاهله: عملية الفرز – سواء اليدوية أو الآلية – مكلفة، وتتطلب عمالة مدربة ومعدات دقيقة. وفي الأسواق التي تنخفض فيها أسعار المواد البلاستيكية البِكر، قد تجد شركات التدوير نفسها غير قادرة على تغطية تكاليف الفرز، فيتم التخلي عن جزء من النفايات باعتباره "غير مجدٍ اقتصاديا". هذا الخلل بين الكفاءة البيئية والعائد المالي هو أحد الأسباب التي تجعل نسبة البلاستيك المعاد تدويره فعليا في العالم لا تتجاوز 10%، رغم كل الحديث عن الاستدامة.

تغيير قواعد اللعبة

للتغلب على تلك المشكلة، فكرت مجموعة بحثية فرنسية في فكرة خارج الصندوق. فبدلا من الفرز، قرروا إجراء خلط بين المواد، وبالفعل عملوا على تجربة تقوم فكرتها على فرضية أنه يمكن أن يكون الخلط المذاب بنسب معينة من نفايات البوليستر غير المتجانسة سريعة التبلور وغير قابلة للفرز وسيلة أفضل لتحليل النفايات البلاستيكية.

لطالما اعتُبر البلاستيك المصنوع من البوليستر، مثل الألياف الصناعية المستخدمة في الملابس الرياضية ومكونات الأجهزة المنزلية، من أكثر أنواع البلاستيك استعصاء على إعادة التدوير. فتعقيد تركيبته الكيميائية وتنوع إضافاته مثل الأصباغ والملدنات، فضلا عن صعوبة فرزه، جعلته بمثابة "الطفل المزعج" في عائلة النفايات البلاستيكية. إلا أن الدراسة الجديدة قدمت مقاربة غير تقليدية تعد بتغيير هذه الصورة جذريا، عبر استخدام الحرارة وبعض "الذكاء الكيميائي" لإعادة تدوير هذا النوع من البلاستيك دون الحاجة لفرز دقيق.

إحدى أكثر النتائج إثارة في الدراسة هي أن الخلط بين أنواع مختلفة من نفايات البولِيستر أدى إلى نتائج أفضل من معالجتها بشكل منفصل

تقليديا، تعتمد إعادة تدوير بلاستيك مثل PET (تيريفثاليت البولي إيثيلين) على عملية فرز دقيقة تسبق خطوة التفكيك الكيميائي. فالمفروض فصل عبوات PET عن غيرها من النفايات، ثم استخدام إنزيمات خاصة لتفكيك سلاسل البوليمر إلى وحدات بناء أولية يمكن إعادة استخدامها. لكن هذا النموذج ينهار تماما عندما يتعلق الأمر بالبوليسترات الأخرى التي غالبا ما تأتي مختلطة ومعززة بإضافات تمنع التفكيك الكيميائي المعتاد.

هنا تدخل الدراسة الفرنسية لتقترح مقاربة مغايرة. فبدلا من الفرز، لماذا لا يتم الخلط المتعمَّد لهذه النفايات؟ ابتكر الباحثون طريقة لدمج أنواع متعددة من نفايات البوليستر – مثل قصاصات القماش غير المنسوج من صناعة السيارات والملابس الرياضية – في مزيج مدروس بنسب دقيقة، ثم تعريض هذا الخليط للحرارة العالية حتى يصل إلى درجة 270 مئوية.

العنصر الذكي في هذه الطريقة يكمن في الاستفادة من بقايا المحفزات الكيميائية التي تبقى عالقة في البلاستيك منذ مرحلة تصنيعه الأول. من أبرز هذه المحفزات أكسيد الأنتيمون، الذي يُستخدم عادة في إنتاج ذلك النوع من البوليستر.

وعند تسخين المزيج إلى درجة الانصهار، تبدأ هذه المحفزات المتبقية في تنشيط تفاعل يُعرف بالكيمياء باسم "التحويل بالإسترة" حيث تُستبدَل مجموعات الإستر بالكحولات، مما يؤدي إلى تشكيل بوليمرات هجينة ذات بنية عشوائية أقل انتظاما.

هذه البنية "غير المرتبة" تُعدّ مفتاحا أساسيا لجعل البلاستيك أكثر عرضة للتحلل الإنزيمي لاحقا. فالتركيب الشبكي الناتج يسمح للإنزيمات بالوصول إلى سلاسل البوليمر بسهولة، عكس الهياكل البلورية الصلبة التي تغلق أبوابها في وجه أي تفاعل.

لكن الدراسة كشفت أيضا أن بعض أنواع البولِيستر تظل عصية على التحلل حتى بعد التسخين، بسبب ميلها الشديد للتبلور السريع. لمواجهة ذلك، لجأ الباحثون إلى تقنية تدعى "التحويل الزجاجي" عبر إضافة مادة رابطة من نوع الإيبوكسي تؤخر زمن التبلور أثناء التبريد. بعد تشكيل المزيج المنصهر، يتم تبريده بسرعة في حمام جليدي، مما يؤدي إلى إنتاج مادة صلبة لكن ذات بنية غير مكتملة التبلور.

 Getty Images
تفريغ محتويات شاحنة من المواد القابلة لإعادة التدوير على أرضية مكب النفايات في منشأة إعادة تدوير المواد التابعة لبلدة بروكهافن في يافانك

هذه المادة تطحن لاحقا وتخضع للمعالجة نفسها التي تُستخدم في إعادة تدوير زجاجات PET شبه البلورية، باستخدام الإنزيمات نفسها. وكانت النتيجة مذهلة: استُخرجت وحدات بناء جزيئية نقية وعالية الجودة، قابلة لإعادة استخدامها في تصنيع منتجات بوليستر جديدة.

إحدى أكثر النتائج إثارة في الدراسة هي أن الخلط بين أنواع مختلفة من نفايات البولِيستر أدى إلى نتائج أفضل من معالجتها بشكل منفصل. فعلى سبيل المثل، عندما تمت معالجة أنواع مختلفة من البولستير على حدة، بلغت نسبة التحلل الإنزيمي ما بين 20% و1%. أما عند دمجهما في خليط واحد ومعالجتهما بالحرارة، فقد ارتفعت نسبة التحلل إلى 90%. هذا التقدم المفاجئ يناقض المفهوم التقليدي القائل بأن الفرز هو الخطوة الأهم، ويقترح أن الخلط المدروس قد يكون مستقبل إعادة تدوير البوليستر.

وبذلك غيروا قواعد اللعبة. فقد كان المعتاد هو الفرز واستكمال مراحل تحليل البلاستيك، والفزر في حالات بعض المواد البلاستيكية ليس فقط معقدا، بل إنه مكلف أيضا. تكمن الفكرة الرئيسة لتجربة الباحثين في إعادة تدوير بعض المواد البلاستيكية المعقدة بفضل المحفزات الموجودة في النفايات.

مستقبل البلاستيك

يحتل هدف إعادة تدوير البلاستيك، الرقم 12 من أهداف الأمم المتحدة المستدامة السبعة عشر، مما يؤكد الحاجة الملحة لإنهاء تلك المشكلة من أجل سلامة الكوكب، والحفاظ على استدامته من أجل الأجيال القادمة. وقد دعمت أكثر من 100 دولة حول العالم خفض إنتاج البلاستيك العالمي في محاولة لإبرام معاهدة دولية ملزمة قانونا للحد من التلوث البلاستيكي. من جانب آخر، تعارض الكثير من الدول هذا المقترح، خاصة الدول التي يعتمد اقتصادها على النفط والغاز الطبيعي، وهما من أهم المواد الخام المستخدمة في صناعة البلاستيك. لذلك، تركز تلك الدول المعارضة على إعادة التدوير بدلا من الحد من إنتاجية البلاستيك.

وبالفعل، يُطرح العديد من الابتكارات لتحسين كفاءة عملية إعادة تدوير البلاستيك، وقد تكون عملية إعادة تدوير البلاستيك المختلط أكثر فعالية في مواجهة المركبات المعقدة، خاصة أن المواد البلاستيكية مثل البولي بيوتيلين تيرفثالات (PBT) لها استخدامات متنوعة، لخصائصها الفريدة. مع ذلك، لا يزال هناك العديد من التحديات المتعلقة بالتكلفة وإمكان نشر التقنيات في العديد من الدول حول العالم.

font change

مقالات ذات صلة