مرصد الأفلام... جولة على أحدث عروض السينما العربية والعالمية

مرصد الأفلام... جولة على أحدث عروض السينما العربية والعالمية

نتعرف من خلال هذه الزاوية إلى أحدث إنتاجات السينما العربية والعالمية، ونسعى إلى أن تكون هذه الزاوية التي تطل شهريا، دليلا يجمع بين العرض والنقد لجديد الشاشة الكبيرة، على أن تتناول الأفلام الجماهيرية والفنية، من الأنواع كافة، بالإضافة إلى إعادة تقديم فيلم من ذاكرة السينما الكلاسيكية.

Bring her back

تأليف: داني فيليبوو بيل هينزمان

إخراج: داني فيليبو ومايكل فيليبو

بلد الإنتاج: أوستراليا

بعد النجاح العالمي لفيلمهما الأول Talk to me يقدم المخرجان التوأم داني ومايكل فيليبو، عملهما الثاني Bring her back ويأتي أكثر خضوعا لنوع الرعب، وأكثر إخلاصا للمتوقع منه، باشتغاله على التفاصيل البصرية لتهشيم العظم، وتكسير الأسنان، وشق اللحم، وكل الصور الأخرى لتشويه الجسد الحي، بهدف إعادة الجسد الميت إلى الحياة.

هذه المرة من خلال طقس سحري، لا يخبرنا السرد من أين جاء، لكنه مسجل على شرائط فيديو، تستعيده على طول الفيلم الأم الثكلى لورا (سالي هاوكنز). تستفيد لورا من عملها كإختصاصية نفسية في دور الرعاية ودراستها لعلم النفس، في استيعاب آليات التلاعب النفسي، بما يجعلها وحشا حقيقيا، أما غولة فتأكل كل مَنْ في طريقها لتحقيق مهمة شبه مستحيلة، وهي إعادة ابنتها المتوفاة إلى الحياة. تتمكن من الإيقاع بالمراهقين القاصرين، آندي وأخته غير الشقيقة والكفيفة بايبر (بيلي بارات، سورا ونغ)، تجرجرهما إلى دائرتها الجهنمية المغلقة، بعد أن تتخلص من أبيهما بطريقة شيطانية، لا يفصح الفيلم عنها بوضوح. من أجل تنفيذ طقس الاستعادة هذا، ينخرط السيناريو في صناعة مثلث، يتشكل من: جثمان الميت المرغوب في إحيائه/ وجسد حي مضيف ستُقتلع روحه/ ثم جسد وسيط لطفل تتغذى عليه الشياطين من الداخل وتفقده إنسانيته.

تترجم الدوائر التي ترسمها لورا في كل مكان، داخل البيت وخارجه، دوائر الإساءة التي يختبرها ضحايا الأهل

الذين أحبوا Talk to me سيجدون هنا ما يلفت الانتباه. هذا التحضير السينمائي الوئيد لطبخة الرعب المعروفة للمشاهد، والمحجوبة عن الضحايا. قوة أداء سالي هاوكنز، وهي تتأرجح بين عطف حقيقي على الطفلة الكفيفة بايبر، وشر مستطير وهي تقارب الشقيق آندي.

يقابل هذا الانفصال في شخصية الأم، فصام مماثل عند شخصية الأب، حين نعرف من روايات الماضي، محبته ورقته مع بايبر، وعنفه وتحطيمه لآندي. إنها الإساءة التي تمهد الطقس، والتي تسهل العثور على الضحايا. بصريا، تترجم الدوائر التي ترسمها لورا في كل مكان، داخل البيت وخارجه، دوائر الإساءة التي يختبرها ضحايا الأهل من جانب، وضحايا لورا كصائدة للموت من جانب آخر. فيلم جدير بالمشاهدة لمحبي النوع، وإن لم يطاول جموح Talk to me، ولا غضبه، ولا الإرباك الذي تسبب به لمشاهديه على الصعيد النفسي.

40 Acres

تأليف: ر. ت. ثورن، غلين تايرون، عن قصة لـثورن ولورا كامبل

إخراج: ر. ت. ثورت

بلد الإنتاج: كندا

هذا الفيلم الكندي ينتمي إلى نوع أفلام ما بعد نهاية العالم، أو ما بعد الكارثة. وهي هنا جائحة الفطر التي أدت إلى تدمير غالبية مساحة المحيط الحيوي اللازم للحيوانات، ثم كارثة الحرب الأهلية التي اندلعت في منطاق مختلفة من العالم حسب رواية الفيلم. وصولا إلى المجاعة التي أمست تهيمن على الكوكب، بعد أن أسقطت الأنظمة وفتت المجتمعات إلى مجموعات منعزلة، يكافح كلٌ منها للبقاء على قيد الحياة، والحفاظ على ما بقى لها من ممتلكات ومحاصيل ضد غارات المستوطنين المعتدين.

ملصق فيلم 40 Acres

من بين هؤلاء الناجين، طورت عائلة الفريمانز، نظاما صارما لحماية حدودها، بقيادة الأم هايلي (دانييل ديدوايلر) التي تحمل غضبا متوارثا ضد المستوطنين البيض، وزوجها غيلن (مايكل جرييس) الذي يحافظ بدوره على ذاكرة السكان الأصليين وقد ناضلوا ضد الاقتلاع من الأرض، والعنصرية. تجعل هايلي من بناتها وابنها الوحيد ماني (كاتيم أوكنر)، جنودا مستعدين للانتصار في كل معركة، تنزع منهم الشفقة والرحمة، كما يُظهِر ذلك المشهد الافتتاحي إذ يصور معركة الأسرة مع مجموعة من الدخلاء. والنتيجة أن صارت العائلة محمية نعم، لكن شبه متجمدة. والأبناء محرومون من التواصل الطبيعي مع العالم، لكن إلى متى؟

يتناول الفيلم أيضا ديناميكات العائلة، ويتعرض لدورها كسلطة حامية، وقامعة في الآن نفسه

يتصاعد التشويق في الفيلم حين يزحف خطر آكلي لحوم البشر، البيض الجوعى عديمي القلب، على ما بقي من ناجين في المجموعات المتباعدة، ويفتك بها، مقتربا أكثر من عائلة الفريمانز.

مايكل غريآيز، دانييل ديدويلر، كاتائم أكونور، جايدا لو بلان، وميلكنيا دياز-روخاس يشاركون في فيلم 40 Acres (2024)

يستغلون حاجة الابن الشاب للتواصل، لا سيما مع امرأة، لإحداث ثغرة في نظام حماية الأم الذي لا يُقهر، من أجل التسلل إلى مساحة الأربعين فدانا (عنوان الفيلم) التي تشكل ممتلكات العائلة. بالإضافة إلى نجاح الشريط السينمائي في خلق أجواء ترقب وانتظار، لا تخلو من تصاعد درامي، واستثمار للصراعات الداخلية والخارجية، لجذب المشاهد والدفع بالأحداث إلى المزيد من التأزم. يتناول الفيلم أيضا ديناميكات العائلة، ويتعرض لدورها كسلطة حامية، وقامعة في الآن نفسه. بصريا يمتلك الفيلم مفرداته المستقلة عن الأفلام الهوليوودية المشابهة. يلفت انتباهنا مثلا مشهد استدراج الأب لمجموعة آكلي لحوم البشر، إلى داخل البيت للقضاء عليهم في استخدام سينمائي ذكي للتبادل بين الضوء والظلام. فيلم عن الأرض، عن العائلة، وعن عالم منذور يقينا.

إن شالله الدنيا تتهد

تأليف: وائل حمدي

إخراج: كريم شعبان

بلد الإنتاج: مصر

قد تكون "أحلام الماضي" إحدى الثيمات التي تتردد، بصورة أو بأخرى، في أفلام السيناريست وائل حمدي. في "6 أيام"، رأينا كيف يصعب نسيان حلم الحب من زمن البراءة، ذلك الحلم الذي لا يتبدد ولا يتجلى. في "ميكانو" 2009 الأقدم نسبيا، كانت المعضلة تقريبا سرعة زوال هذه الأحلام، وكونها نهبا للنسيان. فيلمه القصير "شفت مسائي"، بالشراكة الفنية مع المخرج كريم شعبان، بدأ من تبدد مسبق وآمن ظاهريا للحلم، ومر بمواجهة مع كابوس العدم. وفهمنا أن المرء لا يعدم حتى في عدمه، من ينغص عليه صفاءه، ويمارس عليه سادية مجانية.

مشهد من فيلم "إن شالله الدنيا تتهد"

في هذا الفيلم "إن شالله الدنيا تتهد" وهو قصير أيضا، ينشغل وائل حمدي وكريم شعبان، بشخصية فاروق (عماد رشدي) – وهو ستيني رقيق وهش- يوشك على تحقيق حلمه القديم بالتمثيل، لكن الحياة تسارع إلى تكديره. بينما يحاول فاروق بصعوبة الانخراط في أداء دوره، كجد سعيد، لحفيدة سعيدة، يتلقى نبأ وفاة صديق عمره. تتكشف هشاشته أكثر، ويرغب في الرحيل. إلا أن رئيس فريق الإنتاج يعاند، ويسارع إلى حبس الرجل، مثل فأر في مصيدة، مجبرا إياه على تمثيل سعادة لم يعد يطيقها فاروق.

نحن هنا إزاء الوجه القبيح للرأسمالية، النظام الذي لا يعبأ بأحاسيس أحد، ولا بالأحلام

تتدخل لبنى (سلمى أبو ضيف) مستفيدة من خبراتها في التسويق والفهلوة، من أجل تخفيف لوعة فاروق مؤقتا بما يسمح له استكمال دوره. تتلاعب به، تدفعه لعمل اختيار وهمي، يصير بموجبه في قبضة الإنتاج، كفأر مطيع في متاهة. وتكثف هذا الإحساس، اللقطات التي يأخذها كريم شعبا من أعلى، لفاروق  بعد أن انفض الجمع عنه، وهو وسط موقع التصوير، بجدرانه الماكيت الواهية.

ملصق فيلم "إن شالله الدنيا تتهد"

مثل "شفت مسائي" نحن هنا إزاء الوجه القبيح للرأسمالية، النظام الذي لا يعبأ بأحاسيس أحد، ولا بالأحلام. تكرر هنا المواجهة بين جيلين، وإن مالت الكفة في "إن شاالله الدنيا تتهد" لصالح الجيل الأصغر، باستيعابه الأكبر والأسرع لقوانين سوق العمل، وقدرته على التلون لتلبيتها، بغض النظر عن قيم الصدق أو الأصالة. وتأتي اللقطة الأخيرة، وهي تحيل إلى عالم الإعلانات، بزواله، وتفاهته، لتذكرنا بأن الأحلام الكبيرة، قد تتضاءل لاحقا، وقد تجلب حتى الشؤم.

My mom Jayne

إخراج: ماريشكا هارغيتي

بلد الإنتاج: الولايات الأميركية المُتحدة

نسمع عن المؤلفين الذين عاشوا الحاجة إلى إنجاز كتاب ما أو رواية، كأن الكتابة سؤال للموت أو الحياة، وكأنها تمد لهم حبل النجاة. الفيلم التسجيلي "أمي جين"، الذي يُعرض على منصة HBO ومن إنتاجها إلى جانب جهات أخرى، يبدو في مشاهده الأخيرة حبل نجاة لصانعته ماريشكا هارغيتي، وهي أصغر طفلة أنجبتها الممثلة الأميركية ونجمة الإغراء جين مانسفيلد. رحلت جين عن الحياة، وماريشكا في الثالثة فقط من عمرها.

ملصق فيلم

الصور الفوتوغرافية التي تظهر الأم والابنة معا، تشدد على المسافة بينهما، اللهفة من جانب الصغيرة، يقابها التفات إلى شيء آخر من جانب النجمة. فقد عاشت جين حياة تطابق المتوقع من جميلة شقراء تأسرها الشاشة الفضية. اكتشفتها هوليوود وشبهتها بماريلين مونرو، قبل أن توصلها إلى المصير نفسه.

حين أرادت جين مانسفيلد أن تهرب من بؤس حياتها العاطفية، وتتمرد على صورتها النمطية، رافضة أن تكون مجرد دمية تثير غرائز الرجال، انصرفت هوليوود عنها

لكن قبل هذا المصير، تتبع ماريشكا مشوار أمها، بالاستعانة بالصور والمقاطع المصورة بالأبيض والأسود، برواية أخوتها، الذين يذكرون جين لأنهم عايشوها أكثر، لا سيما ماري-جين، أخت ماريشكا الكبرى غير الشقيقة. تتزوج جين وهي في السادسة عشرة، لكن حب السينما يجذبها، فتسافر بابنتها الصغيرة من ولاية إلى أخرى لتجرب حظها مع المنتجين. يتزامن نجاحها وذيوع شهرتها مع تعدد زيجاتها، وإنجابها العديد من الأطفال. سايرت جين المتوقع منها، أجادت تقمص دور "الشقراء البلهاء"، وحين أرادت أن تهرب من بؤس حياتها العاطفية، وتتمرد على صورتها النمطية، فأفصحت عن مواهبها الأخرى كالعزف على الكمان والبيانو، رافضة أن تكون مجرد دمية تثير غرائز الرجال، انصرفت هوليوود عنها، وبدأت رحلة انهيارها.

في البداية يركز الفيلم التسجيلي على جين مانسفيلد، لكنه ينتقل مع الوقت إلى ماريشكا، حتى يبلغ السر العائلي المتعلق بها، فيمسي فيلما عن الابنة، ضحية شهرة أمها ونتيجة نزواتها. في النهاية، حين ينكشف السر، وتسترد ماريشكا أنفاسها، يُقرأ الفيلم على أنه رحلة للوقوع في حب أم مفقودة، لم تكن يوما هناك. لكن ها هي السينما بقوتها وسحرها، تمنحها مجددا قبلة الحياة، ولو من الذاكرة، كأنها تعتذر بأثر رجعي عن الجفاء.
يتضمن الفيلم بعض لحظات المزاح العائلي والتضامن بين الأفراد المحزونين، مما يخفف الطابع التراجيدي الذي غلف حياة جين مانسفيلد نفسها.

ماريسكا هارغيتاي، جاين مانسفيلد، وتوني سيمبر في الوثائقي My Mom Jayne

Materialists

تأليف وإخراج: سيلين سونغ

بلد الإنتاج: الولايات الأميركية المتحدة وفنلندا

في سوق الزواج الأميركي، لكل رجل أو امرأة، قيمة تعرف كيف تحددها بدقة شركات التشبيك الاجتماعي، ومنها تلك التي تعمل لصالحها لوسي (داكوتا جونسون)، الحسناء الثلاثينية، التي تعيش في حالة استنفار دائم بحثا عن راغبين جدد في الزواج، على شرط أن يتمكنوا بالطبع من دفع أتعابها الباهظة.

يبدأ الفيلم من نقطة كوميدية، إذ تُرينا مؤلفته ومخرجته، كيف تتلاعب لوسي بعقول النساء والرجال، لتحقيق أهدافها الشهرية في الشركة، والحصول على تهنئة زميلاتها المنبهرات بكفاءتها المهنية. ينتقل "الماديون" بعد ذلك، الى حياة لوسي نفسها، وخلفيتها الطبقية والاجتماعية، فهي وإن ظهرت اليوم أنيقة واثقة وثرية، لم تكن كذلك معظم حياتها. لقد ولدت لأسرة غير ميسورة الحال، لا يتوقف الأم والأب عن الشجار، وكبرت على خوف من تكرار ذلك النمط المَرضي بين الوالدين، في علاقاتها لاحقا مع الرجال، والسبب كما يختزله السيناريو هو الأوضاع المادية. مما يجبرها على هجرها شريكها السابق برغم حبهما الكبير، والبقاء عزباء لسنوات طوال.

صراع عاطفي يذكرنا إلى حد ما، بذلك الذي شاهدناه في "لا لا لاند"، وإن ركز "الماديون" أكثر على قيمة المال، وشدد على صعوبة حياة الشغف

إلى أن تتعرف الى الرجل الوسيم هاري (بيدرو باسكال) – وحيد القرن، كما سيطلقون عليه في الشركة كمجاز عن ارتفاع قيمته في سوق الزواج، ويسعى باستماتة لنيل إعجابها، وإغوائها بالدخول إلى عوالمه من الثراء الفاحش خلي البال. في مقابل ظهور مفاجئ لحبيبها السابق جون (كريس إيفانس) الذي يحبها، ويحب التمثيل، ويسير خلف شغفه به، لكنه يدفع ثمن ذلك بالعيش فقيرا، والعمل نادلا في الحفلات الكبرى التي باتت تدعى إليها لوسي.

داكوتا جونسون في فيلم

صراع عاطفي يذكرنا إلى حد ما، بذلك الذي شاهدناه في "لا لا لاند"، وإن ركز "الماديون" أكثر على قيمة المال، وشدد على صعوبة حياة الشغف. يرسم الفيلم صورة لشخصيته الرئيسة لوسي كامرأة تعيش بوجهين، أو بشخصيتين متناقضتين. صحيح أن تصرفاتها أبرزت إدراكها لهذا الانفصال الداخلي، الذي يغذيه العالم المادي المحسوس. إلا أن الحوار السينمائي بدا قاصرا عن بلورة هذا الصراع، منفصلا عن تطور الأحداث. كان يمكن الفيلم أن يركز مثلا على علاقتها بشريكها السابق، بما أن شيئا لم يغرها منذ البداية في الرجل الثري. صحيح، يُحسب لصانعة الفيلم وعيها بدور الانتماء الطبقي في تعقيد الزواج، لا فقط للمسائل المادية لكن أيضا للقيم وأنماط الحياة التي يفرضها. مع ذلك، جاء "الماديون" متلعثما في خطابه، حائرا بين أن يكون فيلما مفكرا متأملا، وبين أن يكون فيلما رومنسيا عاديا وحالما.    

من ذاكرة السينما:

Being There (1979)

تأليف: جيرزي كوسينسكي(رواية وسيناريو)، وروبرت جونز

إخراج: هال آشبي

بلد الإنتاج: الولايات الأميركية المتحدة

رغم تصنيف هذا الفيلم كعمل كوميدي، وأن ممثله الرئيس بيتر سيلرز أحد نجوم هذا النوع، فالأكيد أنه فيلم يتجاوز التصنيف ويحلق في مساحة أوسع، تسمح فيها السينما لنفسها بالتفلسف والتأمل، بأسلوب سينمائي غير معقد، وهو اتجاه قلما نجده في السينما التجارية. إنها حكاية تشانس (بيتر سيلرز)، والكلمة الإنكليزية تعني حظ، الذي عاش سنوات عمره كلها بلا بطاقة هوية، ولا شهادة طبية، ومن دون أن يتعلم القراءة والكتابة.

بيتر سيلرز وميلفن دوغلاس في فيلم Being There (1979)

عمل بستانيا في منزل "الرجل الكبير"، الذي لا نعرف له اسما، فقط نعرف أنه لم يسمح لتشانس بمغادرة المنزل قط. يعرف تشانس العالم عبر التلفزيون فقط، الذي يهوى مشاهدته. يقلد أحيانا ما يراه، لكنه يتفرج في الغالب وكأن على رأسه الطير. حادثة وفاة الرجل الكبير، التي يبدأ منها الفيلم، هي التي تجبره على مغادرة المنزل، إذ لم يعد له مكان فيه. لا هو وارث الميت، ولا هو صاحب أهلية قانونا.

هل يصل إلى المناصب الرفيعة، الأغبياء فقط، من لا رأي لهم؟ أم أن حالة الحياد التي يختبرها تشانس منذ ولد، هي التي سخرت له فوق ما يتمنى

قد نرى تشانس أبله، وهو يتبع تلقائيا يد التمثال التي تشير إلى الطريق. وقد نراه رجلا مصابا بالتوحد، وهو يردد آخر كلمات من خطاب محدثه، كأنه للأسف محروم من التشخيص. على أي حال، هو إنسان مهذب، ومتعاطف، شفاف مثل الماء، أو المرايا، مما يدفع الآخرين لإسقاط معانيهم الخاصة على كلماته، ويجعلهم سعداء بحضوره، مرتاحين إليه. في مقدمة هؤلاء المستشار المحتضر لرئيس الدولة بنجامين راند (ميلفن دوغلاس)، وزوجته إيف (شيرلي ماكلين) التي تعيش وحدة عاطفية يبددها وجود "تشونسي غاردنر" كما قرر المستشار أن يناديه.

فيلم ممتع، كوميدي حقا في بعض لحظاته، لكنه مفتوح على التأويل طوال الوقت. هل يصل إلى المناصب الرفيعة، الأغبياء فقط، من لا رأي لهم؟ أم أن حالة الحياد التي يختبرها تشانس منذ ولد، هي التي سخرت له فوق ما يتمنى، كما يعتقد معلمو الزن؟ هناك تأويلات أخرى تتعلق بمَشاهد النهاية المفتوحة. المثلث الذي دُفن أسفله بنجامين بينما يتحدث حاملو النعش عن احتمال تولية تشانس منصب رئاسة الدولة، هل يشير هذا المثلث إلى نفوذ جماعة سرية معينة؟ وماذا عن مشهد سير تشانس على الماء؟ غير آبه بما يجترح من معجزة.

مما لا يُنسى هنا، أداء كل من بيتر سيلرز وشيرلي ماكلين، إلى جانب جمال الموسيقى التي تعلق على الأحداث، وتعطي الفيلم مزاجا روحانيا، يغوي بالمزيد من التأويل.

font change