"قصيدة جزيرة واليس" ومواصلة العيش بعد الفقد

بعيدا عن العالم قريبا من الذات

Focus Features
Focus Features
"قصيدة جزيرة واليس"

"قصيدة جزيرة واليس" ومواصلة العيش بعد الفقد

في زمن لا تتوقف فيه اهتمامات المشاهدين عن التنقل اللحظي بين منتج وآخر، يأخذنا الفيلم البريطاني "قصيدة جزيرة واليس" The Ballad of Wallis Island إلى عالمه الخاص في جزيرة نائية على سواحل ويلز، حيث الحياة الرتيبة والروتينية والهادئة، مكان يختلي فيه المرء بنفسه دون أن تقاطعه متطلبات الحياة العصرية ودون الحاجة إلى تفقد هاتفه المحمول كل بضع دقائق.

منذ البداية، يعزلنا الفيلم في مشاهد منوعة للجزيرة أثناء عزف أغنية للثنائي (المتخيل) "ماغواير مورتيمر"، هذه الثنائية هي السبب الوحيد لذهاب هيرب ماغواير (توم بايسدن) إلى تلك الجزيرة المعزولة، وهي السبب الوحيد لحصوله على مبلغ نصف مليون جنيه إسترليني. في الوقت نفسه هو لا يريد مواجهة ماضيه وقراراته السابقة التي قادته إلى هذه اللحظة، يريد تأدية العرض الغنائي لرجل ثريّ يقيم في الجزيرة، والحصول على المبلغ ومن ثم الرحيل حتى يتسنى له إنتاج ألبوم جديد وبداية مرحلة جديدة في حياته.

أعباء الماضي

في المقابل، لدينا الأرمل المليونير الفائز بجائزة يانصيب تشارلز هيث (تيم كاي)، الذي يعيش منعزلا في منزله الضخم مع ذكرى زوجته الراحلة قبل خمس سنوات، وكأنه يرفض مرور الزمن، يعيش وفق إيقاع بسيط بعيدا من ضجة العالم من حوله، لكن الخطوة الجريئة التي يتخذها بإقامة حفلة غنائية يؤدي فيها الثنائي الغنائي السابق "ماغواير مورتيمر" أغانيهما، ربما تعيد شيئا من الضوء إلى حياته، كهدية أخيرة يقدمها إلى زوجته، أو إلى ذكراها بمعنى أصح.

يستغرق الفيلم وقته في تفكيك شخصية بطليه لأن الديناميكية بينهما ممتعة وقادرة على إخفاء المعاناة الحقيقية التي يعيشها كل منهما

هناك تباين واضح في تعامل كل من المغني والأرمل الثري مع ماضيهما وما فقداه، فهيرب يريد التحول إلى رجل جديد بكل ما يملك، ويسهل توقع أنه شخص ارتكب العديد من الأخطاء في حياته، لكن يظل خطؤه الأكبر الذي ندم عليه هو التفريط بحب حياته وشريكته في فرقته السابقة. أما تشارلز فيبدو أنه اقتطع جزءا من الزمن في هذه الجزيرة ولا يريد إطلاقا ترك ذكرى زوجته، هو يمتلك كل مقومات البدء بحياة جديدة لكن حجم الفقد الذي يعيشه لا يخوله اتخاذ قرار كهذا.

Focus Features
"قصيدة جزيرة واليس"

لا تظهر لنا هذه الثيمات والأفكار المضادة بشكل مباشر بسبب الجو العام للفيلم الذي يقدم في إطار كوميدي مريح وهادئ. يستغرق الفيلم وقته في تفكيك شخصية بطليه لأن الديناميكية بينهما ممتعة وقادرة على إخفاء المعاناة الحقيقية التي يعيشها كل منهما. تزداد الأمور تعقيدا حينما تصل نيل مورتيمر (كاري موليغان)، وبناء على رد فعل هيرب، نرى أن الأمور لم تنتهِ بينهما على أفضل حال ولا تزال هناك العديد من المشاعر العالقة. كان يحاول بداية فصل جديد من حياته بعيدا من ذكريات الماضي المرهقة، وها هو الماضي بكل أخطائه وحسراته يلاحقه حتى في هذه الجزيرة النائية.

يمكن اعتبار الجزيرة إحدى أهم شخصيات الفيلم وأدواته السردية، فالصعوبات الناتجة من كونها جزيرة نائية، تجعل الحياة بطيئة وتجبر الشخصيات على التفاعل بعضها مع بعض حتى لو لم تكن راغبة في ذلك. كل مكالمة هاتفية تتطلب السير طويلا إلى هاتف عمومي، في وقت اختفت فيه هذه الهواتف من المدن. هذه الصعوبات تجبر الشخصيات على التفاعل والعيش معا بكل حواسها بعيدا من الملهيات الأخرى. يجبر هيرب على مشاهدة حب حياته وقد انتقلت إلى زواج سعيد، ويجد نفسه في مواجهة خياراته الخاطئة التي قادته إلى هذه الجزيرة. وبينما يحقق تشارلز أمنية زوجته، فإن ذلك يفتح جروحا قديمة تذكره بأنها لن تعود إلى الأبد.

حزن كامن

لذلك، ورغم أجواء الفيلم الهادئة والمريحة، لا يمكن تجنب الشعور بالحزن الكامن خلف هذه الحياة الهانئة التي يرسمها الفيلم. ففي حالة تشارلز، من غير الطبيعي أن يعيش شخص بهذا الثراء في هذه العزلة ويعتزم تنظيم حفلة تكلف ثروة طائلة دون وجود سبب منطقي خلف ذلك، خصوصا أن دوافعه من وراء تنظيم هذه الحفلة يتضح منذ البداية أنها بريئة ولا تنبع من جنون عظمة أو نرجسية مفرطة.

يتسرب إلينا هذا الحزن الكامن من خلال تصدعات شخصيته ويظهر جليا مدى التعاسة التي يعيشها تشارلز ومدى عجزه عن تخطي وفاة زوجته بعد خمس سنوات. وهو يستخدم حس الفكاهة وسيلة دفاع يخفي فيها مشاعره ليس عن الآخرين فحسب بل عن نفسه، محاولا التظاهر بأن كل شيء على ما يرام رغبة منه في تصديق هذه الكذبة. ويتجلى هذا الحزن في أوضح أشكاله حينما يشاهد أداء حيا لإحدى أغاني الفرقة الى مائدة العشاء، فهذه اللحظة التي كانت تحلم بها زوجته الراحلة يعيشها وحيدا وعاجزا عن مشاركة فرحها أو حزنها مع أي شخص آخر.

Focus Features
"قصيدة جزيرة واليس"

تيم كاي يقدم أحد ألطف الأدوار هذه السنة، فهو قادر على خطف الأضواء في كل مشهد يشارك به حتى لو لم يتطلب منه الأمر سوى رد فعل صامت حول ما يحدث أمامه، نظراته وتعابير وجهه ولغة جسده بأكملها تكفي لإضحاك المشاهدين. فاستطاع أن يغمر الشاشة بحس فكاهة بريطاني كلاسيكي أخاذ يحول كل الحوارات الباردة والجافة إلى نكات حقيقية.

في ختام الرحلة التي تخوضها شخصيات الفيلم، تتجلى الثيمة الرئيسة من خلال السؤال عن كيفية الاستمرار في الحياة بعد الفقد، أو حين تغيب فرص البدء من جديد

المخرج جيمس غريفيث يأتي من خلفية حافلة بالأعمال التلفزيونية، وهذا هو ثاني أعماله على الشاشة الكبيرة بعد "غضب كوبي" (2014). يتضح هذا الأمر جليا في عدم القدرة على توظيف البيئة في تصوير الفيلم. باستثناء بعض الكادرات التي استطاع الفيلم فيها إظهار جمال البيئة المحيطة، فإن بقية المشاهد خالية من الإحساس بأهمية موقع التصوير البديع والذي كان من الممكن أن يضفي طبقة من الصدقية والروحانية على العزلة والحزن اللذين يواجههما تشارلز في حياته اليومية، خصوصا في فيلم يعتمد بشكل كبير على مشاعر الراحة والهدوء التي تبعثها بيئة التصوير. غلب على الفيلم الطابع التلفزيوني بصريا باختيار زوايا تصوير متشابهة في كل موقع، وكأن الفيلم صور في استوديو مغلق لا في موقع تصوير حقيقي.

Focus Features
"قصيدة جزيرة واليس"

الموسيقى أداة سردية

بالنسبة إلى فيلم تحتل فيه الموسيقى مكانا مركزيا، فإنه لا يضم قدرا كافيا من الأغاني، وهذا محبط لأن الأغاني متوافقة تماما مع أجواء الفيلم. إلا أن الموسيقى في الفيلم لا تقل أهمية عن الجزيرة كأداة سردية تؤثر في حياة الشخصيات وتكشف لنا مكنون شخصياتهم. فحزن تشارلز مثلا لا ينكشف لنا بشكل حقيقي إلا بعد استماعه الى الأغنية حول مائدة العشاء، وهيرب لا يدرك مدى توقه إلى العودة إلى أحضان حبيبته وشريكته السابقة عاطفيا وفنيا إلا بعد أن تدرب معها على أغانيهما القديمة لبضعة أيام.

في ختام الرحلة التي تخوضها شخصيات الفيلم، تتجلى الثيمة الرئيسة من خلال السؤال عن كيفية الاستمرار في الحياة بعد الفقد، أو حين تغيب فرص البدء من جديد. وبرغم ما خسره بطلا الفيلم على الصعيد العاطفي، إلا أنهما لا يملكان سوى المضي قدما، والبحث عن طرق جديدة للعيش، بدلا من الغرق في دوامة الحزن.

font change

مقالات ذات صلة