اتسع كثيرا الاهتمام الرسمي الأميركي بالسياسة الخارجية بعد الحرب العالمية الثانية، إذ كانت إحدى أهم نتائج هذه الحرب هي تخلي الولايات المتحدة عن نزعتها الانعزالية وتحولها إلى دولة عظمى عليها أن تطور سياسات وبرامج في التعاطي مع العالم الخارجي- أوروبا تحديدا، وتاليا الشرق الأوسط- بعيدا عن الاهتمام التقليدي السابق بدول أميركا اللاتينية وبعض الدول والجزر الآسيوية في المحيط الهادئ.
عنى هذا التوسع تشكيل مؤسسات سياسية وأمنية وتنموية تعنى بالسياسة الخارجية: مجلس الأمن القومي، لتقديم النصائح للرئيس للأخذ بنظر الاعتبار العوامل العسكرية والداخلية والخارجية. ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) لجمع المعلومات الاستخبارية خارج أميركا، ووزارة الدفاع، لقيادة القطاعات العسكرية التي كانت متوزعة على وزارات مختلفة. على الجانب الاقتصادي أُنشئت "إدارة التعاون الاقتصادي" في عام 1948 للإشراف على تنفيذ خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا، ثم تبعتها مؤسسات اقتصادية أخرى تحت إشراف وزارة الخارجية.
لكل هذه المؤسسات قول في صناعة السياسة الخارجية الأميركية في إطار عملية تشاركية واسعة يديرها مجلس الأمن القومي.
وفي ظل إدارة ترمب الحالية، ما تزال هذه الصيرورة المؤسساتية تُتبع، لكن أدخلت عليها تغييرات بعضها جوهري، يتعلق بتقوية موقع وزارة الخارجية، التي دُمجت فيها "يو إس أيد"، على حساب مجلس الأمن القومي الذي قُلل عدد العاملين فيه، وأصبح وزير الخارجية، ماركو روبيو، رئيسا مؤقتا له. تعكس هذه التغييرات رغبات مؤسساتية وأخرى شخصية للرئيس ترمب ومعسكره الأيديولوجي "ماغا". يعتقد ترمب بضرورة تبسيط عملية صناعة القرار عبر إعادة النفوذ المؤسساتي للوزارات التقليدية، كالدفاع والخارجية بعيدا عن مجلس الأمن القومي الذي يعتبره أنصار ترمب جزءا من "الدولة العميقة"، وإحالة بعضه الآخر لوزارات أخرى كوزارة الأمن الوطني (كما في ملاحقة المهاجرين غير الشرعيين).
بعيدا عن الجانب الرسمي في صناعة السياسة الخارجية الأميركية، هناك جانب آخر غير رسمي، وعالي التأثير عادة، يتعلق بالجماعات السياسية، مثل "ماغا" وأنصار إسرائيل
على الجانب الشخصي، وجد ترمب نفسه، على الأكثر بالضد من رغبات "ماغا"، قريبا أكثر من روبيو الذي ينتمي أيديولوجياً لمعسكر الجمهوريين التقليديين وليس لمعسكر الانعزاليين القوميين الذين يأتي منهم ترمب. بعكس الكثيرين من المحيطين بترمب، يتميز روبيو بالتنظيم والانضباط العاليين، فضلا عن المهارة اللغوية في شرح خيارات الإدارة والدفاع عنها، مع قوة شخصية تُمكنه من المواجهة دفاعا عن سياسات الرئيس ونهجه (كما في صدامه مع إيلون ماسك داخل الإدارة)، إضافة إلى فهمه الجيد بخصوص كيفية عمل المؤسسات التي يميل الكثير من أنصار ترمب في "ماغا" إلى شيطنتها باسم خطاب "الدولة العميقة" وضرورة تفكيكها.
الحلقة المؤسساتية الأخيرة في صناعة السياسة الخارجية هي أعضاء الكونغرس الذين لا يدخلون رسميا على نحو مباشر في الصيرورة المؤسساتية نفسها، لكنهم يؤثرون عليها من خارجها عبر التواصل مع الرئيس وفريقه، سواء من خلال جلسات استماع مع مساعدي الرئيس أو الضغط على الإدارة من وراء الكواليس تأييدا لسياسة ما أو رفضا لها، أو اقتراحا لسياسة جديدة مختلفة. يظهر هذا واضحا في خلاف أعضاء الكونغرس الجمهوريين والديمقراطيين مع ترمب، بخصوص فرضه التعريفات الجمركية أو ضغطه على "الناتو" ومحاباته لروسيا.
بعيدا عن الجانب الرسمي في صناعة السياسة الخارجية الأميركية، هناك جانب آخر غير رسمي، وعالي التأثير عادة، يتعلق بالجماعات السياسية، كجماعات التأثير مثل "ماغا" وأنصار إسرائيل، الذين يمارسون ضغوطهم المختلفة كي تتبنى الإدارة سياسة معينة بإزاء أخرى.
يظهر خلاف هاتين المجموعتين قويا وواضحا بخصوص كيفية التعاطي مع إيران، إذ ترفض "ماغا" الذهاب إلى حرب ضد إيران، لصالح إسرائيل، على أساس أن هذه الحرب ليست دفاعا عن أميركا، فيما يربط أنصار إسرائيل الداعمين لشن هذه الحرب بين المصالح الأميركية والإسرائيلية بوصفها شيئا واحدا، وتأكيدا متوقعا ومنطقيا للالتزام التاريخي الأميركي بالدفاع عن أمن إسرائيل.
وسط هذا كله يقف الرئيس ترمب، السياسي غير التقليدي الذي يبرع، حد الاستمتاع الظاهر، بكسر قواعد الدبلوماسية وتحدي المؤسسات واختطاف الاهتمام بكثرة إعلاناته السياسية المفاجئة والدرامية وتغير مواقفه حسب الحاجة. بسبب صفاته هذه غير المسبوقة تاريخيا في رئيس أميركي، يضيف الرجل تعقيدا كبيرا يساهم في جعل السياسة الأميركية الخارجية عصية على الفهم عند محاولات التحليل الأولى.
وبرغم هذا كله، وبعيدا عن اللمسة الشخصية الكثيفة، والمرهقة أحيانا، التي يضيفها ترمب لمشهد السياسة وكيفية صناعتها، فإن ثمة منطقا في نهج إدارته في السياسة الخارجية مؤداه أن فهم أميركا لمصالحها الإقليمية والدولية هو الذي يقود الحدث السياسي، سواء رضي الحلفاء والأصدقاء بهذا الفهم أم لا. إنه نهج التخلي عن التشاورية المستدامة مع هؤلاء الحلفاء والأصدقاء واستبعاد العداوات الدائمة مع الخصوم، فكل شيء يمكن أن يتغير سريعا ما دامت بوصلة الأحداث تشير إلى مصلحة أميركية ما… هذه هي بصمة ترمب اللافتة على السياسة الخارجية الأميركية.