مؤتمر "منظمة شنغهاي للتعاون"... قمة الآمال الكبيرة التي لن تتحقق

مناهضة الغرب عنواناً سياسياً للقمة

رويترز
رويترز
صورة جماعية للقادة المشاركين في قمة منظمة شنغهاي للتعاون 2025، تيانجين، 1 سبتمبر

مؤتمر "منظمة شنغهاي للتعاون"... قمة الآمال الكبيرة التي لن تتحقق

كان بارزا مشهد رفع الأيدي الذي جمع رؤساء ثلاث دول كبرى ومؤثرة، الصين وروسيا والهند، في قمة شنغهاي، في إطار "منظمة شنغهاي للتعاون الذي تواصل على مدى يومين في مدينة تينجاي الصينية وضم أكثر من عشرين بلدا تقع كلها خارج المنظمة الغربية.

بوصفها منظمة تعاون إقليمي، آسيوي-أوروبي شرقي، في المجالات الاقتصادية والأمنية والسياسية وتقع كل دولها خارج المنظومة الغربية، كان الخطاب المناهض للغرب بزعامة الولايات المتحدة السمة الأبرز في هذه القمة التي حضرها زعماء 23 بلدا (عشرة من الدول الأعضاء و13 دولة بصفة مراقب وضيف مدعو). تصدرت الصين هذا الخطاب عبر الكلمة الافتتاحية لرئيسها شي جين بينغ الذي أكد على أهمية رفض أن "تفرض دول قليلة أنظمتها الداخلية على غيرها" من الدول الأخرى. كان عنوان هذا الرفض هو الدعوة الصينية المألوفة بخصوص نظام دولي جديد خال من الزعامة أو التفوق الغربي: "ينبغي أن نتبنى عالما متساويا ونظاميا ومتعددَ الأقطاب، وعولمة اقتصادية نافعة ومفتوحة للجميع وأن نجعل نظام الحوكمة العالمي أكثر عدلا ومساواة". دون الإشارة إلى أميركا بالاسم، كان تحدي بينغ لها واضحا عبر تعهده بمواجهة "نزعة الهيمنة" و"عقلية الحرب الباردة" و"ممارسات التنمر"، في استعارة لعبارات تتكرر كثيرا في الخطاب السياسي الصيني العام المناهض للولايات المتحدة.

وجد هذا الخطاب الصيني دعما روسياً أكثر صراحة وتحديا للغرب عبر دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه إلى تبني نظام جديد يستبدل "النماذج الأوروبية-الأطلسية التي عفى عليها الزمن والقائمة على المركزية الأوروبية، ويأخذ بنظر الاعتبار مصالح أكبر عدد ممكن من الدول وأن يكون متوازنا على نحو حقيقي، وأن لا يسمح بمحاولات بعض الدول ضمان أمنها على حساب الآخرين".

مشاركة الهند في اجتماعات القمة الأخيرة، عبر رئيس وزرائها ناريندرا مودي، هو الذي أثار الاهتمام في هذه القمة وأعطاها معنى سياسيا مناهضا للولايات المتحدة

رغم أن الهدف المعلن لـ"منظمة شنغهاي للتعاون" منذ تأسيسها في 2001 في مدينة شنغهاي لتضم حينها الصين وروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وتاجيكستان وأوزبكستان هو التعاون المشترك لدعم السلام والأمن والاستقرار ومواجهة التطرف وتوسيع التجارة، فإنها تُفهم على نحو واسع بوصفها محاولة صينية-روسية لمواجهة النفوذ الأميركي في آسيا. بقيت المنظمة محدودة التأثير عموما، لكن دخول الهند هذه المنظمة في  2017، أضاف لها بعض التأثير. كانت الدوافع الهندية محلية وإقليمية مرتبطة بالأمن والطاقة حينها: الاستفادة من الإطار الأمني  الأوسع للمنظمة، خصوصا مواجهة الإرهاب القادم من باكستان بالتعاون مع هذه الأخيرة التي انضمت للمنظمة في العام نفسه، فضلا عن الاستفادة من الصلات التجارية مع بلدان المنظمة الغنية بالنفط، السلعة الاستهلاكية التي تحتاجها الهند كثيرا.

الغضب الأميركي من الشريك الهندي

لكن مشاركة الهند في اجتماعات القمة الأخيرة، عبر رئيس وزرائها  ناريندرا مودي، هو الذي أثار الاهتمام في هذه القمة وأعطاها معنى سياسيا مناهضا للولايات المتحدة، رغم أن خطاب مودي لم يتضمن، لا تلميحا ولا تصريحا، نقدا لأميركا، بل ركز على الهموم الهندية التقليدية بخصوص مكافحة الإرهاب وتوسيع التجارة وتحسين البنية التحتية اللازمة لهذا التوسيع. يكمن مصدر القلق الأميركي من المشاركة الهندية بدلالتها الإعلامية الرفيعة المستوى، خصوصا مشهد رفع الأيدي الذي جمع مودي مع بوتين وبينغ، بما يتضمنه من الدعم الرمزي الذي تقدمه الهند لمنظمة تعتبرها تجمعا سياسيا معاديا لها.

من هنا كان تصريح  المستشار الأقدم للبيت الأبيض لشؤون التجارة، بيتر نافاروا الذي انتقد فيه مشاركة مودي في اجتماع شنغهاي: "لقد حان الوقت لمودي أن يبرهن من هو. لدي احترام كبير لمودي. أنا أحب الشعب الهندي.  كان من المؤسف أن نرى مودي، بصفته زعيم أكبر ديمقراطية في العالم، يصطف إلى جانب اثنين من أكبر الدكتاتوريين المستبدين في العالم، بوتين وشي جين بينغ. لا يبدو هذا منطقيا".  في ثنايا كلمات نافارو افتراض صحيح وغير معلن مؤداه أن الهند حليفة  حقيقية، وإن على نحو غير رسمي، وشريك استراتيجي مهم لأميركا، وذلك بعد إبرام البلدين الاتفاق النووي المدني في 2008 الذي أنهى خلافا عميقا وطويلا بينهما ومهد السبيل لتعاون وثيق في مجالات كثيرة، على العكس من روسيا والصين اللتين تتأرجح  علاقتهما بأميركا بين الصداقة الباردة والمشكوك فيها، والخصومة شبه الدائمة، المعلنة أحيانا والمضمرة أحيانا أخرى.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يتصافحان في البيت الأبيض في واشنطن، الولايات المتحدة، 13 فبراير 2025

 

تاريخيا تشتري الهند معظم أسلحتها ونفطها من روسيا في إطار تفهم أميركي تقليدي للعلاقة الروسية-الهندية

ترمب المشاكس الذي يزعج الهند

ما لم يقله نافارو هو سلوك رئيسه دونالد ترمب الذي دفع الهند بعيدا عن أميركا وجعلها تقترب أكثر من خصوم العم سام. فرض ترمب (في اليوم نفسه، 27 أغسطس/آب، قبل عقد قمة شنغهاي بأربعة أيام) رسوما تعريفية على الهند بلغ مجموعها 50 في المئة، 25 في المئة منها تجارية الطابع لتعديل الميزان التجاري الذي يميل لصالح لهند والـ25 في المئة الأخرى عقابية بسبب استيرادها النفط الروسي المُهَرَّب في خرق للعقوبات الأميركية على روسيا لغزوها أوكرانيا.  تشتري الهند نحو مليون و800 ألف برميل يوميا من النفط الروسي فيما تشتري الصين أكثر من مليوني برميل يوميا من هذا النفط. المفارقة هنا هي رفض الرئيس ترمب فرض تعريفات عقابية على الصين لشرائها النفط الروسي المهرب، بعكس ما فعله إزاء الهند،  متحججا بأنه لا يريد، حسب قوله، أن يقوض قيمة اجتماعه الإيجابي مع بوتين في ألاسكا  ما يطيح بفرص نجاح الوساطة الأميركية لإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية                                        

في هذه الأثناء، كان خطاب ترمب نحو الهند يزيد التوتر بين البلدين، فمثلا كتب الرئيس الذي لا يهتم، كما هو شأن الرؤساء عادة،  للمسافة التي ينبغي أن تفصل بين المشاعر الشخصية والاعتبارات الدبلوماسية، منتقدا الهند على "أخطاء" لم ترتكبها وعلى أساسها  تصبح الولايات المتحدة "ضحية الاستغلال الهندي": "أناس قليلون يفهمون أن استفادتنا من التجارة مع الهند ضئيلة، لكن استفادتهم من تجارتهم معنا كبيرة. يبيعون لنا كميات ضخمة من البضائع فنحن (زبونهم) الأكبر، لكننا لا نبيع لهم إلا القليل جدا، فلحد الآن علاقتنا بهم أحادية الجانب وعلى مدى عقود كانت هكذا. السبب في هذا أن الهند تفرض علينا تعريفات جمركية عالية  على نحو يجعل شركاتنا عاجزة عن بيع بضائعها في الهند. إن هذه العلاقة عبارة عن كارثة كاملة أحادية الجانب لصالح الهند. كما تشتري الهند معظم نفطها ومعداتها العسكرية من روسيا، والقليل جدا من أميركا".       

كما أصبح معتادا، تبرز المبالغة في بعض المعلومات التي يقدمها ترمب، فالهند لا تفرض تعريفات عالية على البضائع الأميركية، وإن كانت هذه التعريفات، التي تختلف باختلاف البضائع، أعلى قليلا من التعريفات الأميركية كما أن أميركا تصدر الكثير للهند فالتبادل التجاري بين البلدين كبير نسبيا، أكثر من 212 مليار دولار حسب أرقام 2024، مع ميل هذا الميزان لصالح الهند بفارق نحو 46 مليار دولار من مجموع هذا التبادل. أيضا، تاريخيا تشتري الهند معظم أسلحتها ونفطها من روسيا في إطار تفهم أميركي تقليدي للعلاقة الروسية-الهندية. فعلى سبيل المثال، منحت إدارة بايدن في عام 2022 الهند إعفاءً رسميا من المنع الأميركي، الذي فرضه قانون أميركي نافذ منذ عام 2017، على شرائها منظومة صواريخ الدفاع الجوي "إس 400 " الروسية، كما سمحت الإدارة نفسها للهند في سياق تفاهم غير رسمي مع الأخيرة بالاستمرار في شراء كميات من النفط الروسي وأعفتها من تطبيق العقوبات الأميركية بهذا الصدد.              

ما يمكن أن يشكل تحديا لأميركا ويثير بعض القلق لديها هو احتمالات نسج تحالف راسخ بين الهند والصين يقوض المصالح الأميركية

الحسابات الأميركية والوقائع الهندية

في الواقع، لا يرتبط القلق الأميركي الحقيقي بخصوص الهند بعلاقتها مع روسيا فالأخيرة شريك اقتصادي ضعيف عموما، إذ يبلغ حجم الاقتصاد الهندي (4.1 تريليون دولار) نحو ضعف حجم الاقتصاد الروسي (2.2 تريليون دولار) الذي يعتمد معظمه على إنتاج الموارد الطبيعية كالنفط والغاز بعكس الاقتصاد الهندي المتطور والمتنوع في إنتاجه بضائع وخدمات مختلفة فضلا عن آفاق نموه الكبيرة بالمعايير العالمية (بين 6 و7 في المئة سنويا) مقارنة  بالاقتصاد الروسي (1-2 في المئة سنويا). تحقق معظم النهوض الاقتصادي الهندي بسبب الانفتاح والدعم الغربيين للهند بقيادة الولايات المتحدة على أثر عقدها اتفاقا عام 2008 الذي أنهى العزلة الدولية للهند الدولية بسبب برنامجها النووي العسكري. باستثناء الشراء الهندي للنفط الروسي، وهو الخلاف المؤقت الذي يمكن أن يزداد سخونة أو يتراجع اعتمادا على نتائج الوساطة الأميركية لإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية، لا يوجد خلاف هندي-أميركي رئيس أو بنيوي الطابع يمكن أن يهدد العلاقة الاستراتيجية بين البلدين.

ما يمكن أن يشكل تحديا لأميركا ويثير بعض القلق لديها هو احتمالات نسج تحالف راسخ بين الهند والصين يقوض المصالح الأميركية، فالصين كما الهند اقتصاد متنوع وقوي، فضلا عن كونها خصما عالميا شرسا للولايات المتحدة على نحو لا تستطيعه روسيا. لكن تتراجع هذه الاحتمالات كثيرا بسبب المشاكل التاريخية في العلاقة بين الهند والصين المتعلقة بالمناطق الحدودية المتنازع عليها لحد الآن بين الطرفين (مناطق أكساي شن وأرونال برادش ولداخ الغربية) وبالتحالفات السياسية والدفاعية المتناقضة (دعم الصين لباكستان، العدوة التقليدية للهند، فيما تعتمد الهند على علاقتها مع أميركا للوقوف ضد التحالف الصيني-الباكستاني). تخشى الهند أيضا من فتح بلادها أمام البضائع الصينية الكثيرة والرخيصة التي تهدد الصناعات المحلية الهندية، خصوصا في ظل ميزان التبادل التجاري الحالي بينهما الذي يميل كثيرا لصالح الصين (حسب آخر الأرقام، تُصدّر الصين  ما يزيد على  113  مليار دولار من السلع للهند فيما تُصدّر الأخيرة للصين ما يزيد على 14 مليار دولار).

بسبب هذا كله، يبدو مستبعدا أن تفقد الولايات المتحدة- حتى في ظل مشاكسات إدارة ترمب وضغوطها- الهند لصالح المعسكر الآخر: التحالف الروسي-الصيني الذي بدوره لم يكن أبدا تحالفا راسخا ولم يستطع على مدى الأعوام الطويلة من حياته المضطربة والمفتوحة أن يقدم بديله العالمي الموعود والذي تغنت به كثيرا قمة شنغهاي الأخيرة: نظام دولي متعدد الأقطاب ينهي الهيمنة الغربية الحالية.

font change