ترمب وطرد الموظفين الفيدراليين... "الإصلاح" المشكوك في أمره

رؤية حزبية جمهورية تاريخية

أ.ب
أ.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يزور الاحتياطي الفيدرالي خلال أعمال التجديد، واشنطن في 24 يوليو 2025

ترمب وطرد الموظفين الفيدراليين... "الإصلاح" المشكوك في أمره

بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، وقبل عودته لقيادة البيت الأبيض مرة ثانية، وعدَ الرئيس المنتخب حينها، دونالد ترمب، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي: "سأحطم الدولة العميقة وأستعيد الحكومة التي يسيطر عليها الناس (كي تعمل) من أجل الناس". حمل هذا الوعد الذي تكرر بأشكال مختلفة النية المعلنة لترمب بتخفيض عدد العاملين في الحكومة الفيدرالية.

يشير مصطلح "الدولة العميقة" الذي يروج له ترمب كثيراً ويؤمن به بقوة أنصاره في حركة ماغا (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى) إلى مجموعة من الموظفين الفيدراليين رفيعي المستوى عادةً، غير المنتخبين لكن المتخصصين، الذين يديرون الدولة من وراء الكواليس على نحو مشبوه لخدمة مصالحهم هم كمجموعة متنفذة، بالضد من مصالح الناس ومن إرادة المسؤولين المنتخبين. "تفكيك الدولة العميقة" هو التبرير الأيديولوجي الرئيس الذي يستخدمه ترمب لفصل موظفين فيدراليين وحتى تفكيك مؤسسات فيدرالية وإعادة هيكلة مؤسسات أخرى.

بدأت حملة ترمب لتقليص قوة العمل الفيدرالية بمؤسسة تقديم المساعدة الخارجية، "يو إس أيد" التي وصف الرجلُ مدراءها بأنهم "مجانين راديكاليون"، وتتهمها قاعدته الانتخابية بأنها تنشر في الخارج قيماً ليبرالية "مشبوهة" كالجندر والإجهاض، إذ أخضعها لتفكيك قاس وسريع وعلني كانت نتيجته إنهاء عمل الأغلبية الساحقة من موظفيها البالغ عددهم نحو 10 آلاف (بقي منهم نحو 300 كجزء من وزارة الخارجية بعد ضم الأخيرة للوزارة).

الإصلاح الترمبي المنشود

لكن جهود الإدارة لتقليص الجهاز الإداري الفيدرالي ليست كلها مرتبطة بالشيطنة الأيديولوجية، فمعظمها تدور حول رؤية حزبية جمهورية تاريخية تتعلق بإحالة أكثر ما يمكن من السلطات والصلاحيات للولايات، بدلاً من أن تتولاها الحكومة الاتحادية ما يزيد من المركزية ويقلل من الكفاءة باعتبار أن الولايات هي أفضل من الحكومة الاتحادية في تقدير مصالحها وخدمة هذه المصالح بأقل الكلف.

على هذا الأساس، ومنذ مجيء ترمب للبيت الأبيض، تُفكك مؤسسات فيدرالية كثيرة، إما جزئياً عبر إعادة هيكلتها وتخفيض ميزانياتها وتسريح موظفين فيها، وإما عبر إلغائها تماماً ونقل سلطاتها للولايات أو مؤسسات فيدرالية أخرى.

تشمل هذه المؤسسات مثلاً وزارات التعليم والصحة والزراعة والنقل والطاقة والأمن الوطني وشؤون المحاربين القدامى ووكالة الحماية البيئية ووكالة إدارة الطوارئ الاتحادية ومكتب الحماية المالية للزبائن والوكالة الأميركية للإعلام العالمي وغيرها.. في الواقع، ما تقوم به إدارة ترمب هو إعادة صياغة للحكومة الاتحادية على نحو جذري وغير مسبوق منذ إصلاحات الرئيس فرانكلين روزفلت في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين حين اتسعت وظائف الحكومة الاتحادية لضمان حمايات متساوية وخدمات ضرورية لكل الأميركيين وإنعاش اقتصاد متدهور حينها.

بدأت حملة ترمب لتقليص قوة العمل الفيدرالية بمؤسسة تقديم المساعدة الخارجية، "يو إس أيد" التي وصف الرجلُ مدراءها بأنهم "مجانين راديكاليون"

لم تؤد جهود الإدارة إلى تخفيض كبير في عدد الموظفين الاتحاديين لحد الآن، ففي بداية شهر يوليو/تموز، نشر مكتب إدارة الموارد البشرية الحكومي أن عدد الموظفين الاتحاديين بلغ أكثر من مليونين وربع المليون (2,289,472 ) في شهر مارس/آذار الماضي، بانخفاض بمقدار 32 ألفاً مقارنة بأرقام شهر سبتمبر/أيلول 2024.

قدمت إدارة ترمب هذا الانخفاض في عدد الموظفين الفيدراليين بوصفه إنجازا ستتصاعد وتيرته في المستقبل (لا يشمل الرقم أكثر من مليونين و800 ألف من أعضاء القوات المسلحة ونحو 600 ألف شخص من العاملين في مؤسسة البريد الاتحادية التي تمول نفسها بنفسها).

أحد أسباب تواضع أرقام التخفيض هي أن المحاكم ما تزال تنظر في الكثير من قرارات الإدارة بإنهاء خدمة الموظفين الفيدراليين الذين لا يمكن طردهم من وظائفهم بسهولة على أساس قوانين شرعها الكونغرس، خصوصاً قانون إصلاح الخدمة المدنية لعام 1978.

أ.ف.ب
وقّع ترمب على مشروع قانونه الرئيسي للضرائب والإنفاق في 4 يوليو في احتفالٍ حافلٍ بيوم الاستقلال

بسبب هذه الصعوبات تستخدم الإدارة على نحو متزايد آلية مبتكرة للتخلص من أعداد كبيرة من هؤلاء الموظفين عبر ما تسميه "تخفيض في القوة" (Reduction in Force) أو ما يسمى اختصاراً (RIFs) التي هي عبارة عن أوامر إدارية تنظيمية الطابع تُلغى بموجبها أقسام كاملة أو مناصب محددة وبالتالي لا تعود هناك حاجة لاستمرار العاملين فيها في عملهم، بوصفهم زائدين عن الحاجة، على عكس عمليات الطرد العادية التي تجعل طرد الموظفين كأشخاص صعباً وينبغي تقديم أسباب محددة للطرد يمكن الاعتراض عليها أمام المحاكم. بعكس الموظفين المطرودين كأشخاص، يحصل الذين فقدوا وظائفهم عبر "إعادة التنظيم" هذه على بعض التعويض المالي، كمبلغ نهاية الخدمة، ويحتفظون بأحد أنواع الضمان الصحي، وغالباً لهم أولوية إعادة التوظيف في حال قررت هذه الإدارة أو أي إدارة مقبلة فتح الباب للتوظيف الفيدرالي.

أحد أسباب تواضع أرقام التخفيض هي أن المحاكم ما تزال تنظر في الكثير من قرارات الإدارة إنهاء خدمة الموظفين الفيدراليين الذين لا يمكن طردهم من وظائفهم بسهولة على أساس قوانين شرعها الكونغرس

ثمة إطار نظري-تاريخي أوسع يقود ما يقوم به ترمب بهذا الخصوص يُطلق عليه تسمية "نظرية السلطة التنفيذية الموحدة" التي يتبناها اليمين الأميركي المتشدد، خصوصاً في حركة ماغا، وتعود جذورها إلى نقاشات سياسية ودستورية في سياق تأسيس أميركا كبلد في نهاية القرن الثامن عشر.

خلاصة هذه النظرية أن كامل السلطة التنفيذية، بما تتضمنه من وكالات ومؤسسات ووزارات وموظفين، ينبغي أن تكون تابعة تماماً للرئيس وتتبع أوامره، في ظل الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفي ظل نصوص دستورية يمكن تفسيرها لتوحي بمثل هذه السيطرة الكاملة للرئيس على السلطة التنفيذية.

على أساس هذه النظرية التي تواجه برفض كثير من الخبراء الدستوريين، لا يحق للكونغرس إنشاء وكالات فيدرالية ولا أن يقر تعيين مسؤولين فيها، ولا التدخل في كيفية قيادة الرئيس للسلطة التنفيذية. يعتقد المحافظون المتشددون، وترمب بينهم، أنه لا يمكن تنفيذ أجندة الرئيس بتفكيك "الدولة العميقة" ولا القيام بالإصلاحات الضرورية لـ"إنقاذ" أميركا من الانهيار الذي يحاجج هؤلاء المحافظون بأنه ينتظرها من دون تمتع الرئيس بهذه السيطرة المطلقة على السلطة التنفيذية.

الالتقاء مع الديمقراطيين والافتراق عنهم

يرفض الديمقراطيون والكثير من العاملين في الإعلام والحيز العام والخبراء الدستوريون "نظرية السلطة التنفيذية الموحدة" وتبرير "الدولة العميقة" الذي يسوقه ترمب لتفكيك مؤسسات فيدرالية وطرد موظفيها. يعتبر هؤلاء أن "الدولة العميقة" مجرد نظرية مؤامرة ابتدعها متطرفون وروج لها إعلام غير مهني، ويصدقها أناس عاديون غاضبون تضررت مصالحهم المشروعة من سياسات وإجراءات حكومية خاطئة.

لكن يتفق الديمقراطيون مع الجمهوريين على أن الجهاز الحكومي الفيدرالي كبير الحجم، أكثر مما يجب، وأنه بحاجة إلى الترشيق وزيادة الكفاءة، لكنهم يختلفون مع إدارة ترمب في كيفية تخفيض حجمه إذ عارض أوامر الطرد الواسعة.

جاء معظم اتساع الجهاز الحكومي، خصوصاً في المؤسسات السياسية والأمنية، بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. ففي شهر أغسطس/آب من العام نفسه الذي حدثت فيه التفجيرات، بلغ عدد الموظفين الحكوميين بحدود مليون و800 ألف موظف (باستثناء العاملين في مؤسسة البريد الاتحادية التي تمول نفسها بنفسها والقوات المسلحة). في مارس 2024، بلغ عدد الموظفين الاتحاديين مليونين وأربعمئة وخمسة آلاف تقريباً (2.4 مليون). بشكل عام، ازداد عدد الموظفين الفيدراليين بنسبة 1 في المئة سنويا منذ عام 2000.

 يختلف الديمقراطيون مع جمهوريي ترمب في سبب هذا الترشيق. يؤكد الديمقراطيون على أن الأسباب البيروقراطية والإدارية، الموضوعية الطابع، التي قادت إلى ترهل الجهاز الحكومي ويحاججون بضرورة معالجتها على أساس هذه الأسباب دون غيرها في الإطار القانوني الأميركي المعتاد، أي عملية تخفيض تدريجية، بالتعاون مع الكونغرس، تحفظ حقوق الموظفين الفيدراليين، وليس صدمات عقابية على أساس "التصفية السياسية" المتضمنة في مفهوم "الدولة العميقة" والسلطة المطلقة للرئيس على الجهاز التنفيذي.

يرفض الديمقراطيون والكثير من العاملين في الإعلام والحيز العام والخبراء الدستوريون "نظرية السلطة التنفيذية الموحدة" وتبرير "الدولة العميقة" الذي يسوقه ترمب لتفكيك مؤسسات فيدرالية وطرد موظفيها

جزء أساسي من اعتراض الديمقراطيين وغيرهم من المعترضين على عمليات الطرد هذه الآخذة بالاتساع هو أن هذا الفهم الترمبي للموظفين الفيدراليين بالصلاحية المفترضة فيه للرئيس بطردهم بوصفه مديرهم التنفيذي الأعلى، هو، في جوهره، سلوك تعسفي ويخالف قوانينَ أساسية شُرعت على مدى زمن طويل لضمان وجود جهاز إداري فيدرالي نزيه وكفء ومحصن ضد التأثير السياسي بحيث لا يخضع لمزاج الرئيس أو الحزب الحاكم.

يعود القانون الأهم بهذا الصدد إلى أواخر القرن التاسع عشر عندما شُرع قانون بندلتون لإصلاح الخدمة المدنية في عام 1883 (Pendleton Civil Service Reform Act)، على اسم السيناتور جورج بيندلتون من ولاية أوهايو الذي اقترح تشريعه. نص هذا القانون الهام على تعيين الموظفين الفيدراليين على أساس الكفاءة وليس الولاء السياسي (كان تشريعه رداً مباشراً على فساد التعيينات وتسييسها الذي قاد إلى اغتيال الرئيس جيمس غارفيلد في 1881 على يد شخص غاضب وُعد بوظيفة فيدرالية ولم يُنفذ الوعد).

رويترز
ترمب وإيلون ماسك يخلال مؤتمر صحفي في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض في واشنطن، الولايات المتحدة، 30 مايو

تشكلت على أساس هذا القانون هيئة الخدمة المدنية التي تلخصت مهمتها حينها بالإشراف على التوظيف الفيدرالي من خلال امتحانات تنافسية للمتقدمين وإجراءات أخرى لضمان أن الوظائف الفيدرالية تُمنح للأكثر كفاءة، وليس للأكثر ولاءً (في البداية شمل القانون نحو 10 في المئة من التعيينات الفيدرالية فقط لكن هذه النسبة اتسعت بمرور الزمن لتغطي كل الموظفين الفيدراليين باستثناء الأقلية الصغيرة من المُعينين سياسيا الذين يأتون مع الرئيس ويغادرون معه). كان هذا القانون البداية الحقيقية لإنشاء جهاز تنفيذي فيدرالي مهني وكفء ومستقل. ثم على امتداد عقود تالية وطويلة شُرعت قوانين أخرى وأصدرت أوامر رئاسية غرضها ترصين الأداء المهني لهذا الجهاز وحماية أفراده من الطرد العشوائي وإبعاده عن التأثيرات الحزبية والسياسية. لعل الأهم بينها هو قانون حماية المبلغين عن المخالفات (Whistleblower Protection) لعام 1989 الذي حمى الموظفين الفيدراليين من أي إجراءات انتقامية في حال إبلاغهم عن سلوكيات أو ممارسات غير قانونية أو فاسدة أو تتضمن إساءة لاستخدام السلطة.

تأثير عمليات الطرد على الأداء والسياسة

لم تمض عمليات طرد الموظفين الفيدراليين، سواء كأشخاص أو كجماعات، على نحو سلس، إذ ساد بعضها الفوضى وتعريض المصلحة العامة للخطر، كما في إنهاء الإدارة، عبر قسم الكفاءة الحكومية الذي كان يقوده الملياردير المعروف إيلون ماسك، عمل موظفين يشتغلون في مكافحة وباء الطيور المنتشر وقتها وأدى إلى موت ملايين الدجاج الذي يضع البيض، ما تسبب في زيادات كبيرة في أسعار البيض. بعد أيام من فصلهم، أعيد هؤلاء المفصولون للعمل. وحصل شيء شبيه بخصوص موظفين في المنشآت النووية، إذ طرد بضع مئات منهم، لكن اضطرت الإدارة إلى إعادة معظمهم تحت ضغط الكونغرس والإعلام ومؤسسات الأمن الوطني الأميركي بسبب الأدوار المهمة التي يلعبها المفصولون في الحفاظ على ترسانة أميركا النووية.

على المستوى الشعبي، تشير جميع استطلاعات الرأي تقريباً إلى رفض غالبية الجمهور الأميركي سياسة فصل الموظفين الفيدراليين وإعادة هيكلة المؤسسات الفيدرالية، فحسب أحد الاستطلاعات في شهر مارس الفائت، عارض نحو 60 في المئة من المستطلعة آراؤهم هذه السياسة باعتبار أنها مضرة بأداء الجهاز الحكومي، فيما تمحورت الكثير من الاعتراضات على طريقة الفصل نفسها التي يغلب عليها الفجاجة وقلة الاعتبار لموظفين قضى كثيرون منهم سنوات طويلة في الخدمة الحكومية وكان أداؤهم فيها ممتازاً بحسب تقييمات العمل الرسمية نفسها (إيميلات بالطرد تبعث للمشمولين بالطرد، والطلب إليهم مغادرة مكاتبهم وتسليم عدتهم الحكومية خلال ساعات وكأنهم مشبوهون أو مشكوك في ولائهم لأميركا).

لم تمض عمليات طرد الموظفين الفيدراليين، سواء كاشخاص أو كجماعات، على نحو سلس، إذ ساد بعضها الفوضى وتعريض المصلحة العامة للخطر

من المبكر جداً إعطاء تقييم دقيق ومنصف لتأثير سياسة ترمب بإعادة هيكلة المؤسسات الفيدرالية وطرد أعداد كبيرة من الموظفين الفيدراليين على أداء الجهاز الحكومي، سواء لجهة تحسن الأداء أو تراجعه. يحتاج الأمر بضع سنوات كي تتضح الصورة تماماً، حتى بالرغم من وجود بعض المؤشرات السلبية لهذه السياسة، كما في التأخر الذي تشهده حركة الطيران في المطارات الأميركية، جزئياً بسبب قلة عدد الموجهين الجويين (Traffic Controllers) أو التأخر الكبير في منح القروض في المناطق الريفية على أثر طرد موظفين فيدراليين يديرون برامج القروض هذه. لكن هذه المؤشرات عرضية، وليست بالضرورة نتاجا لخلل بنيوي عميق، وبالإمكان علاجها. مع ذلك، فإن الزمن السياسي يختلف كثيراً عن الزمن الإداري، فالأول سريع ولا يعطي الفرص لإعادة القيام بالأشياء، كما هو حال الزمن الثاني. هذا ما يواجهه كثير من النواب الجمهوريين، المتحفظين من وراء الكواليس على عمليات الطرد هذه، في الانتخابات النصفية في العام القادم، إذ سيكون عليهم مواجهة سخط ناخبين فقدوا أعمالهم وآخرين حانقين على سياسة الطرد هذه. حينها سيظهر الثمن السياسي الذي على الحزب الجمهوري أن يدفعه بسبب رفضه الوقوف علناً ضد سياسة طرد الموظفين الفيدراليين.

font change