لماذا يتدخلون في شؤوننا؟

لماذا يتدخلون في شؤوننا؟

استمع إلى المقال دقيقة

نغضب ونمتعض عندما نسمع مسؤولا أجنبيا يحدد ما يجب وما لا يجب علينا أن نأخذ أو نترك في كيفية تدبر أمورنا. وليست نادرة التصريحات التي يدلي بها مبعوثون ووزراء وسفراء وممثلو هيئات اقتصادية وتبلغنا بدرجات تتراوح بين الصراحة والإهانة الوقحة، إننا نسير على غير هدى وهم يعرفون مصلحتنا أكثر مما نعرفها.

المثال الأخير في هذا الصدد ما قالته نائبة الموفد الأميركي مورغان أورتاغوس في بيروت عن أن "حزب الله لا يمثل اللبنانيين". وسرعان ما نشطت الحسابات الموالية لـ"الحزب" بانتقاد أورتاغوس وتلقينها الدروس في أصول العمل الدبلوماسي ومدى اتساع تمثيل "حزب الله" ضمن الطائفة الشيعية ودوره في المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي والسياسات الداخلية وما شابه.

قبلها بأسابيع قليلة، كان أمين مجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني "نجم" حملة مقابلة عندما أدلى بدلوه في أهمية "الحزب" ذاته بالنسبة للبنان واستقراره وسيادته. كذلك فعل مسؤولون آخرون في الدولة الإيرانية و"حرسها الثوري". وأثناء زيارته إلى بيروت سمع لاريجاني من المسؤولين اللبناني اعتراضا شديد اللهجة على تصريحاته. لكنه، مع ذلك، ختم إقامته اللبنانية بأقوال منسوخة طبق الأصل عما صرّح به قبل جولته في الربوع اللبنانية.

تعلم أورتاغوس ولاريجاني بلا ريب ما هي الأصول والأعراف الدبلوماسية وليسا بحاجة إلى التذكير بها. لكنهما، مثل غيرهما من السياسيين الأجانب، يدليان بهذه المواقف كرسائل موجهة نحو أكثر من طرف، لإبلاغ لبنان– في هذه الحالة– بأن سيادته منقوصة وأنه رهينة توازنات قوى أكبر منه بكثير وهي قادرة على تفجير سلمه الحالي الهش إذا رأت مصلحة في ذلك.

وسبق الموفدين الأميركية والإيراني، "زملاء" آخرون أقاموا في بلدة عنجر وتولوا إدارة كل شاردة وواردة في السياسة اللبنانية على مدى ثلاثة عقود. لقد كانوا التجسيد الحي للفشل اللبناني في إقامة دولة صاحبة سيادة حقيقية على أرضها، ما أفضى إلى استدعاء الاحتلال السوري الذي حكم لبنان بالحديد والنار والاغتيالات إلى أن نال ما يشبه التفويض الدولي بعد مشاركة حافظ الأسد في حرب الخليج في 1990.

نموذج آخر منتشر في العالم الثالث لهذا النوع من المواقف هو ما يوصف بـ"إملاءات صندوق النقد الدولي". والحال أن هذه المؤسسة التي تتبع سياسة مالية ونقدية صريحة في انتمائها إلى اقتصاد السوق الحر والرأسمالية بحلتها المطلقة– على الرغم من تغييرات راحت تظهر في العقود القليلة الماضية– لا ترغم أية دولة على اتباع "وصفاتها الجاهزة" وهي في الأساس تلبي دعوات الحكومة التي تصل إلى أوضاع مأزومة لتقديم المساعدة في الخروج مما أصابها.

هل كان لاريجاني ليدعو إلى استمرار "حزب الله" في حمل السلاح متحديا قرارات الحكومة اللبنانية لو لم يكن مدركا لعمق الشقاق الأهلي والطائفي في لبنان

تبدأ "الدراما" هنا. الحكومات التي تستدعي الصندوق مدركة سلفا توجهاته وسياساته، تفتح سرادق عزاء ونحيب بسبب تدخل الصندوق في شؤونها المالية والاقتصادية وانقضاضه على لقمة الخبز التي تؤمنها الحكومة للفقراء. وصندوق النقد ليس منظمة خيرية بطبيعة الحال، لكنه ليس صاحب القرار السيادي في أي دولة كانت ولا يحق له فرض رؤيته إذا رفضتها الجهات السيادية والدستورية المعنية. بيد أن ذلك لا يمنع أن تصور الحكومات نفسها كقوة الخير في وجه صندوق النقد، مندوب الشر والغرب الإمبريالي المتآمر للتعمية على الفشل الاقتصادي والسياسي في إدارة البلاد وإيصالها إلى حد استجداء المساعدة من الصندوق ذي الميول والانحيازات الواضحة. 
وهكذا الأمر بالنسبة إلى الموفدين والزوار الأجانب في منطقتنا الذين يتحفوننا بتصريحاتهم بعد تفحصهم الأرضية السياسية التي يقفون عليها. هل كان لاريجاني ليدعو إلى استمرار "حزب الله" في حمل السلاح متحديا قرارات الحكومة اللبنانية لو لم يكن مدركا لعمق الشقاق الأهلي والطائفي في لبنان والخطر الجدي في اندلاع اقتتال جديد يكون موضوعه هذه المرة حق الطائفة الشيعية بالبقاء مسلحة على الرغم من موافقتها عبر ممثليها على حصر السلاح بيد القوى الشرعية اللبنانية؟ وهل كانت الموفدة الأميركية لتحدد من يمثل اللبنانيين ومن لا يمثلهم، لو لم تكن على اطلاع على الانقسام الطائفي ذاته وسعيها إلى فرض وجهة نظر إدارتها على اللبنانيين؟ 
مهما يكن من أمر، فإن الجزء الأكبر من المسؤولية عن الوضع هذا يتحملها سكان هذه المنطقة التي يحفل تاريخها بأخبار البعثات والموفدين الذين جالوا أصقاعا كثيرة من العالم طلبا للتدخل الخارجي استقواء على الخصم الداخلي. 

font change