فتنة الغموض في "قلب الظلمات"

فتنة الغموض في "قلب الظلمات"

استمع إلى المقال دقيقة

منذ صدورها عام 1899، حُملت رواية "قلب الظلمات" لجوزيف كونراد على أكتاف تأويلات ثقيلة، جعلتها رمزا روائيا كلاسيكيا في نقد الاستعمار الأوروبي وفضح ظلامه الحضاري. وفي العقود الأخيرة، صارت القراءة السياسية الأخلاقية للنص تكاد تطغى على كل ما سواها، حتى غدت شخصية السيد كورتز نفسها، التي تدور حولها الحكاية، مجرد أداة لإدانة الإمبريالية. لا بأس أن تكون هذه قراءة من قراءات. لكن الحاصل أن الرواية أصبحت محصورة في الدفاع عن نفسها، هل أدانت الاستعمار؟ أم بررته؟

غير أن قراءة متأنية، تحرر النص من هذه البنية التفسيرية الجاهزة، تفتح لنا أفقا آخر. وأستطيع أن أجادل بأن "قلب الظلمات" ليست، في صميمها رواية عن أفريقيا ولا عن الاستعمار، بل عن الإعجاب العميق الذي وقع للكاتب بشخصية غريبة، وبغموضها وتحررها البطولي، وهو قلب الحكاية وسر جاذبيتها.

الرحلة التي يرويها مارلو تبدأ، ظاهريا، كمهمة نقلية في مجرى نهر الكونغو، لكن السرد يكشف منذ بداياته أن الغاية الحقيقية ليست الوصول إلى محطة استعمارية أو تحقيق هدف اقتصادي، بل بلوغ شخص اسمه كورتز. اسم كورتز يسبق حضوره الفعلي في النص بزمن طويل. فالحديث منذ البداية عنه، يتسلل إلينا عبر الشذرات والإشاعات، وحكايات متضاربة. ويظهر باكرا في رسائل قديمة، وانطباعات ينقلها رجال عرفوه أو سمعوا به. وفي كل مرة يُذكر اسمه، يزداد الغموض ولا ينقص، قبل أن نلتقيه فعلا.

هنا يتبدى النهر لا كمجرد مجاز للانحدار من قلب النور "أوروبا" نحو "قلب الظلمات" كما تقول القراءات السياسية، بل يبدو خيطا طويلا يقود إلى مركز الجاذبية الروائية، في شخصية كورتز نفسها. أفريقيا ليست سوى خشبة مسرح غامضة، تتراجع خلفيتها كلما اقترب الضوء من هذا الرجل الذي يبتلع الحكاية.

لا نقترب من كورتز عبر معلومات موضوعية، بل عبر الضباب الذي يلفه، حتى إذا ما واجهناه أخيرا، نجده تحول إلى ما يشبه الطلسم الإنساني

كورتز ليس رمزا واضحا للشر أو الطغيان، بل شخصية متعددة الطبقات، كل شاهد عليها يقدم وجها مختلفا. مدير المحطة يتحدث عنه بغيرة مبطنة، والرجل الروسي يراه ملهما، وآخرون يعدونه عبقريا أو نذير خطر. هذا التناقض في الروايات لا ينتج حقيقة سياسية، بل يصنع أسطورة أدبية، يتشكل جوهرها من الفجوات، ومن غياب اليقين حول من يكون الرجل حقا.

وهنا تتجلى براعة كونراد. الغموض ليس نقصا، بل هو المادة الخام التي يُصاغ منها النص. إننا لا نقترب من كورتز عبر معلومات موضوعية، بل عبر الضباب الذي يلفه، حتى إذا ما واجهناه أخيرا، نجده تحول إلى ما يشبه الطلسم الإنساني، أو الصنم الشفاف الذي لا يُمسك، لكنه يفرض حضوره القاهر. كونراد هنا استخدم الغموض، أداة جمالية.

لو كان هدف كونراد الأساس نقد الاستعمار، لكان بإمكانه أن يقدم كورتز بصورة واضحة: بطل غير عنصري يدين ممارسات الاستعمار. لكنه اختار العكس، أن يجعل كورتز لغزا. بل إنه عندما يفتح فمه في لحظاته الأخيرة، لا يترك لنا سوى عبارته الشهيرة: "الرعب! الرعب!"، جملة تشبه صرخة من بئر سحيقة، لا تشرح شيئا لكنها تفتح أبوابا لا تُحصى للتأويل.

إن فتنة القارئ لا تأتي من انكشاف حقيقة ما، بل من الوعي بأن الحقيقة، في ما يخص كورتز، عصية المنال. هذا الغموض هو ما يبقي الشخصية حية بعد القراءة، ويجعل النص نفسه عصيا على الاستنفاد، وكأن في صمته قوة شعرية تضاهي كل خطاب.

البنية السردية الملتوية إذ نسمع القصة من راوٍ ينقلها عن راوٍ آخر، ليست مجرد حيلة شكلية، بل جزء من استراتيجية الغموض. المسافة بين كونراد ومارلو، ثم بين مارلو وسامعيه، تضيف طبقات من الانعكاس، تجعل الوصول إلى كورتز أشبه بالبحث عن وجه في مرآة مغطاة بالضباب. كل طبقة سردية لا تكشف بل تزيد من الإغراء، نحن نعرف، لكننا لا نعرف. لماذا هذا الغموض فتان؟

كأن كونراد أراد أن يتركه لنا هكذا، شخصية مقدسة لا نستطيع أن نحيط بها، لكنها تسكن المخيلة بغير استئذان

في الأدب، الشخصيات التي تُستنزف في التفسير تموت سريعا وتنسحب من ذاكرة القارئ. أما تلك التي تحافظ على نواتها المجهولة، فإنها تتحول إلى بؤر جاذبية لا تنضب. كورتز من هذا الطراز، شخصية تعيش عند الحد الفاصل بين الحقيقة والأسطورة، بين الإعجاب والريبة، بين العظمة والانحطاط. كل قارئ يعيد خلقه على طريقته، ويظل مفتونا به حتى بعد أن يُغلق الكتاب.

قد تبدو هذه قراءة ضد التيار، إلا أن المخالفة ليست مقصودة. لكننا قد نتفق على ضرورة الحرث الدائم. ليس الهدف من هذه القراءة إنكار أن النص يتضمن عناصر نقدية للاستعمار، لكنني أرى كونراد قد وضع هذه العناصر في مكانها الطبيعي كخلفية، لا كجوهر. في عبارة كورتز: "أبيدوا كل هؤلاء الوحوش!" (Exterminate all the brutes!)، المقصود بالوحوش هم السكان الأصليون في أفريقيا الذين كان يُفترض أنه جاء ليحضّرهم وينشر بينهم النور الأوروبي.

لكن اختزال "قلب الظلمات" إلى وثيقة سياسية يحرمها من سرها الفني وقدرتها على خلق شخصية تلتهم فضاء الرواية كله، حتى تغدو أفريقيا مجرد ديكور، والنهر مجرد طريق إلى رجل. إنه نص يتغذى على الغموض كما تتغذى النار على الهواء. كل محاولة لإغلاق هذا الغموض بتفسير نهائي سياسي أو نفسي أو أخلاقي، تسرق من النص جزءا من سحره المضيء في الظلام.

بعد أكثر من قرن على صدور "قلب الظلمات"، ما زال كورتز يطل من ضباب الحكاية بوجه غير مكتمل، وكأن كونراد أراد أن يتركه لنا هكذا، شخصية مقدسة لا نستطيع أن نحيط بها، لكنها تسكن المخيلة بغير استئذان. وإذا كان النقاد قد جعلوا من الرواية نصا عن الظلام الاستعماري، فإن القارئ الذي ينصت لفتنتها سيكتشف أن الحكاية الحقيقية كانت دوما عن رجل اسمه كورتز، وعن قوة الغموض حين يصنع من الإنسان أسطورة.

font change