الفن والفلسفة والخروج من كهف أفلاطون

من محاكاة العالم إلى كشف الكينونة

AFP
AFP
ناس يمرون بسياراتهم أمام عمل فني للفنان الفرنسي "جي آر" يجسد مجاز كهف أفلاطون على واجهة أوبرا غارنييه أثناء ترميمها في باريس، 21 سبتمبر 2023

الفن والفلسفة والخروج من كهف أفلاطون

حين يغادر المرء قاعة السينما المظلمة وقد أطفئت الشاشة، يبقى ضوء الصور عالقا في عينيه وذهنه، وكأنها لم تزل تتحرك في داخله، تهزه من الأعماق وتجعله يتساءل: هل ما رأيته حقيقة أم وهما؟ هنا بالضبط يبدأ الحدث الفلسفي، ليس باعتباره تعليقا على الفن، وإنما بوصفه تجربة داخلية يصوغها الفن أولا وتعيد الفلسفة تشكيلها بلغة "المفهوم" -إن أخذنا بتعبير جيل دولوز. إن لحظة كهذه تكشف أن العلاقة بين الفن والفلسفة ليست علاقة تبعية أو تبادل وظائف، إذ إنها علاقة ولادة مشتركة، حيث يولد التفكير الجمالي والفكري في لحظة واحدة، في المكان نفسه، في ذلك الفضاء المتوتر الذي يسمى "حركة الصورة" أو بتعبير مغاير فهو يكاد يصير طية طوبولوجية بين مجالين يبدوان متوازيين.

أو كما يشير ألان دونو في كتابه "السينما"، فإن العلاقة بين هذه الممارسة الفنية والفلسفة، ليست مجرد علاقة خارجية أو ثانوية، إنما هي علاقة جوهرية وفريدة. إذ يمكن النظر إلى السينما بعدّها تجربة فلسفية قائمة بذاتها. ومن هنا يبرز سؤالان أساسيان: أولا، كيف تنظر الفلسفة إلى السينما؟ وثانيا، كيف تعمل السينما على تحويل الفلسفة ذاتها؟ فهذه العلاقة ليست علاقة معرفية بالمعنى التقليدي؛ فالفلسفة لا تمنحنا معرفة بالسينما، وإنما تفتح الأخيرة مجالا للتحويل والإبداع. فالسينما قادرة على تحويل الفلسفة من الداخل، أي إعادة صوغ مفهوم الفكرة نفسها. إنها ليست مجرد أداة للتفكير فحسب، بقدر ما هي فعل ابتكار للأفكار حول ماهية الفكرة. بهذا المعنى تصبح السينما موقفا فلسفيا قائما بذاته. وكل موقف فلسفي، في جوهره، هو لقاء بين مفاهيم متباعدة أو غريبة عن بعضها، لقاء يفتح أفقا جديدا للتفكير والفهم.

ثنائية الصورة والفلسفة

في المقابل، حين نستعيد أسطورة الكهف (سينما العهد القديم) عند أفلاطون، ندرك أن العلاقة بين الفلسفة والفن لم تبدأ مع الحداثة، إذ هي متجذرة في أصول التفكير الفلسفي ذاته، قائمة منذ البعيد على ثنائية الصورة (تجلي الفن) والفلسفة. ففي الكهف يقبع البشر وهم ينظرون إلى ظلال تتحرك على جدران مثلما تتساقط صور السينما على القماش الأبيض، فيظنونها حقيقة العالم؛ لنتذكر هنا أولى الصور التي أسقطت من آلة سينماتوغرافية للإخوة لوميير (lumière) [=الضوء] قبل أن يفر الجمهور الصغير من الغرفة خوفا من اختراق القطار المصور الجدار. إن هذه الصورة الأبدية تختزل طبيعة الفن كصناعة للصور والظلال، لكنها في الوقت نفسه تكشف أن الصورة قد تكون جسرا نحو الحقيقة، أو حجابا يحجبها، او صنيعة وهم يصير حقيقة، مثل صورة القطار ذاك. الفلسفة عند أفلاطون تتهم الفن بالبعد عن المثال وتعتبره محاكاة للمحاكاة، لكن هذا الموقف لم ينج من المفارقة: فالمثل نفسها لم تعرض إلا عبر صورة رمزية، أي عبر فن القول، عبر الخطابة. إن الاستعارة هي فن داخل الفلسفة، وبدونها كان من الصعب أن يتجسد المفهوم في الذهن. وهنا يفتح الكهف الباب أمام مساءلة عميقة: هل يمكن أن تقوم الفلسفة بغير الفن؟ وهل يمكن الفن أن يستغني عن الفلسفة؟

العلاقة بين الفلسفة والفن لم تبدأ مع الحداثة، إذ هي متجذرة في أصول التفكير الفلسفي ذاته، قائمة منذ البعيد على ثنائية الصورة والفلسفة

لم يكن أفلاطون، رغم عدائه المعلن للشعراء والمصورين في "الجمهورية"، بمنأى من استثمار الفن لغة وصورة في مشروعه الفلسفي. فقد جعل من الحوار فنا خطابيا، يزاوج بين البلاغة والحبكة الدرامية، موظفا الصور والاستعارات لتقريب أفكاره الميتافيزيقية من الأذهان. وقد كانت محاكاته لمشاهد أسطورية أو أسلوبه التمثيلي يكشف أن الفيلسوف نفسه لم يستطع الإفلات من جاذبية الفن كوسيلة للإقناع وكأداة لتجسيد الأفكار في قوالب محسوسة. أليست "محاورة جورجياس" لأفلاطون نفسه عملا فنيا، إذ في لحظة معينة في المحاورة يحتدم الجدال ويتصاعد الحوار ويتدخل كاليكليس بشكل وحشي. فتصير العلاقة في المحاورة بين سقراط وكاليكليس موقفا فلسفيا: نوعا من المسرح الفلسفي. كأن الجانب الفني الذي أراد أفلاطون إخفاءه يبرز ويظهر وينتصر من دون أن يردك هذا الفيلسوف الأمر.

GettyImages
الأخوان لوميير، أوغست (1862-1954) ولويس جان (1864-1948) في مختبرهما بمدينة ليون، فرنسا، 1892

منزلة خلاصية

ومع تطور الفكر الغربي، ظل التوتر بين الفن والفلسفة حاضرا، فالفلاسفة من أرسطو إلى أوغسطين حاولوا إعادة تعريف موقع الفن بين المعرفة واللذة والمتعة والمنفعة. إذ سيرى أرسطو مثلا في الشعر محاكاة قادرة على التطهير، فيما ربط كانط في القرن الثامن عشر الفن بذائقة جمالية حرة قائمة على الحكم التأملي. وجاء هيغل في القرن التاسع عشر ليضع الفن في قلب مشروع الروح المطلقة، معتبرا إياه لحظة أساسية في تجلي الفكرة قبل أن تتجاوزها الفلسفة. وهكذا ظل مسار الفن والفلسفة متشابكا، يتأرجح بين الاستعانة والتجاوز، بين التمثيل والنقد، حتى صار كل منهما مرآة للآخر في رحلة الفكر الإنساني.

ومع القرن التاسع عشر، لم يقتصر حضور الفن في الفلسفة على هيغل وحده، إذ منح شوبنهاور الفن منزلة خلاصية، فرآه مخرجا من أسر الإرادة العمياء التي تتحكم في الوجود، وجعل من الموسيقى تحديدا التعبير الأسمى عن جوهر العالم. أما نيتشه فذهب أبعد من ذلك، حين وضع الفن في قلب الحياة نفسها، معتبرا إياه القوة التي تبرر الوجود، ومؤسسا رؤيته على ثنائية الأبولوني والديونيسي في "ميلاد التراجيديا"، وعلى منجز الموسيقار العبقري فاغنر، بوصف فنه تعبيرا عن الحياة من خلال موسيقى التراجيديا. وبذلك أعاد الفن إلى موقع جوهري، لا باعتباره تمثيلا للحقيقة، وإنما بوصفه خلقا لها وتأسيسا لقيم جديدة. هذا التحول سيشكل مدخلا مباشرا للقرن العشرين، حيث سيتلقف فلاسفة كبار مثل ميرلوبونتي هذا الإرث، ليعيدوا التفكير في علاقة الفن بالوجود والجسد والإدراك.

Fine Art Images/Heritage Images/Getty Images
"طبيعة صامتة مع زجاجة زرقاء ووعاء سكر وتفاح"، 1900-1902، للرسام بول سيزان (1839-1906)

إعادة بناء العالم

في مطلع القرن العشرين، أخذ هذا السؤال أبعادا جديدة، إذ لم يعد الفن يختزل في محاكاة أو تمثيل، إنما صار تجربة معرفية كاملة. فجعلت الظاهراتية مع إدموند هوسرل وميرلوبونتي من الفن مجالا لاختبار الإدراك الحي. تجربة الرسام بول سيزان خير دليل، فهو لم يكن يرسم التفاحة ليكرر شكلها، بل يعيد بناءها عبر طبقات من اللون والخطوط المتداخلة، لتغدو اللوحة مختبرا للحس وللمكان. هذه التجربة ألهمت ميرلوبونتي لتأكيد أن المعرفة ليست مجرد انعكاس عقلي، إنما هي تجسد جسدي-حسي، يلتقي فيه النظر اليد، واللون الإدراك. فبينما جعل نيتشه الفن أفقا للحياة وقوة خالقة، أعاد ميرلوبونتي اكتشافه كتجربة وجودية تظهر كيف يتجسد العالم في وعينا الحسي، ليصبح الفن عنده لغة الكينونة وصوت الوجود. وذلك انطلاقا من أن سيزان لم يكن يرسم العالم كشيء مكتمل ونهائي، بقدر ما كان يعيد بناءه على اللوحة كأنه ينشأ للمرة الأولى في عين الرائي. اللوحة عنده ليست مجرد صورة، إذ هي حدث إدراكي (Perceptive Event) يكشف كيف يتجسد العالم في وعينا، وكيف ينفتح الجسد على الوجود عبر الرؤية. من هنا رأى ميرلوبونتي أن الفن ليس محاكاة، إذ أنه بخلاف ذلك كشف للكينونة، وأن الرسام لا ينقل الطبيعة، فهو يجعلها تتكلم بلغتها الخاصة. في هذا المعنى، غدا الفن عنده امتدادا للمشروع الظاهراتي، حيث يصبح الإدراك ذاته فعل خلق ومعنى، والفنان شاهدا على هذا التجلي المستمر. ومنه، بحسبه، صار الفن لغة بديلة للفكر، والفلسفة بدورها توسعت لتصبح فلسفة للحس وللجسد.

منح شوبنهاور الفن منزلة خلاصية، فرآه مخرجا من أسر الإرادة العمياء التي تتحكم في الوجود، وجعل من الموسيقى تحديدا التعبير الأسمى عن جوهر العالم

لم يتوقف تاريخ الفلسفة إذن، عن ملامسة الفن باعتباره شاهدا أو مرآة، لكن الفن لم يكن يوما مجرد صدى، فقد كان دائما قوة استباقية. لوحة "الواصفات" لفيلاسكيز التي جعل منها فوكو إعلانا لأفول الذات الكلاسيكية، مثال حي على أن الصورة قادرة على قول ما سيأتي لاحقا في لغة الفكر. لقد قالت اللوحة بصريا بعمق ما أراد فوكو التعبير عنه باللغة الفلسفية، وكانت سباقة. وكأن الفنان يلتقط، عبر حدة حساسيته وجرأة خياله، ما لم تتشكل بعد مفاهيمه. غير أن هذا الاستباق لا يعني أن الفن "يخدم" الفلسفة، إنما يكشف أن الاثنين ينتميان إلى حقل أوسع، حقل لا يمكن أن يحصر في ثنائية التعبير والمفهوم، إذ إنه يقيم في شيء أعمق: القدرة على خلق إمكان جديد للمعنى.

Joe Sohm/Visions of America/Universal Images Group via Getty Images
لوحة "لاس مينيناس" لڤيلاسكيز في متحف برادو، مدريد، إسبانيا

وفي المقابل، كان الأدب الوجودي مع جان بول سارتر يضع الفن في قلب التجربة الفلسفية. رواية "الغثيان" ليست مجرد قصة، فهي اختبار حي للوعي حين يواجه عبث الوجود وخواء المعنى. الشخصيات ليست كائنات ورقية وإنما تجارب للفكر، تجسد الحرية والاختيار والاغتراب. هكذا تحول النص الأدبي إلى مسرح فلسفي، والفلسفة إلى مادة سردية، يكمل كل منهما الآخر. الأمر نفسه في المسرح، حيث جعلت مسرحية "الذباب" أو "الأبواب المغلقة" من الخشبة فضاء فلسفيا لتجربة الإنسان في عالم لا يمنحه أي يقين.

الثابت والمتحول

عودة إلى السينما، إذ مع دولوز تضعنا هذه الممارسة الفنية الجماهرية أمام السؤال الجوهري: هل الوجود ثابت أم متحول؟ الصور التي تتوالى بسرعة تعطينا وهم الحركة، غير أنها تفضح بدورها وهم الثبات. أو كما يخبرنا دونو "يمكن القول بطريقة أخرى، إن الفلسفة صناعة للتركيب synthèse، إنها ابتكار له، بينما هذا الأخير ليس بمعطى سابق. إن الفلسفة تخلق تركيبا جديدا حيثما توجد قطيعة. (...) إن أخذنا مثل فيلم "العشيقان المصلوبان" لميزوغوشي، فمن خلال صورة الحبيبين المأخوذين إلى حتفهما، فإنها حتما تركيب: طبعا، إن العشيقين في تناقض مع قانون مجتمعهما، لكن في وحدة ابتسامتهما. إعلان لوجود حالة اجتماعية أخرى ممكنة". فلا يعود الغرض (الشيء، الشخصية، المحكي) في العمل الفني كتلة جامدة إنما انسياب دائم، وكل صورة هي في ذاتها صيرورة، وهو ما تنبني عليه الفلسفة والتاريخ معا حسب نظرة فوكو، لا تمسك إلا وهي تتغير، فتنشئ نوعا من القفزات، التي تحتم التحول الإبيستيمي، أو البراديغمي بتعبير توماس كون، الذي يسود على جميع أنظمة التفكير بما فيها الفن نفسه. وهنا يصبح الفرق بين الفن والفلسفة فرق أسلوب لا فرق جوهر: الفيلسوف يصوغ المفهوم ليلتقط به طبيعة هذا الانسياب، والفنان يمنح له شكلا حسيا في لوحة أو قصيدة أو صورة. الاثنان إذن يعملان في المكان نفسه، كل بطريقته، على الإمساك بما لا يمسك، على تجسيد "اللاقرار" الذي يحكم الوجود.

أعاد ميرلوبونتي اكتشافه كتجربة وجودية تظهر كيف يتجسد العالم في وعينا الحسي، ليصبح الفن عنده لغة الكينونة وصوت الوجود

تجسد بدورها الحركات الفنية الحديثة هذا التشابك. إذ استلهمت الرمزية (symbolisme) المثالية الألمانية، معتبرة أن وراء كل شيء فكرة تتجاوز المحسوس، كما في أعمال غوغان أو روسيني. وقد جعلت السوريالية اللوحة فضاء لاستكشاف اللاوعي متأثرة بفرويد وسارتر، كما نلمس في شعر بروتون أو أعمال ماكس إرنست أو حتى دالي، لتجعل هذه الحركة الفن وسيلة للتفكير في الحرية الداخلية. بينما جسدت التعبيرية الألمانية، مثلما تأثرت بتجربة ماتيس والوحشيين، القلق الإنساني المستوحى من الفلسفة الوجودية في أعمال كيرشنر ونولده. أما التجريدية الأميركية، التي ستتأثر بأعمال بول كلي المتأخرة، فاستلهمت فلسفات الطبيعة والميتافيزيقا لتجعل من العمل الفني تجربة للتحرر من الأشكال التقليدية، كما يظهر في أعمال جاكسون بولوك، حيث تصبح اللوحة مجالا لتجسيد الحرية والذات. ما فعله بولوك هو ترك العنان لحرية الجسد وتلقائية التصوير وحدوث المصادفات، لتوليد اعمال تستفز النظر بقدر ما تعمل على تحريك التفكير خارج دائرة السائد والمنطبع.

AFP
امرأة تمر بجانب لوحات للرسام الفرنسي الانطباعي بول سيزان خلال معرض "سيزان في جاز دو بوفان" في متحف غرانير بمدينة إيكس أون بروفانس، 26 يونيو 2025

نسيج متداخل

بدورها قدمت التكعيبية مع بيكاسو وبراك درسا فلسفيا في إدراك الشكل. لم يعد الموضوع يرى من زاوية واحدة، وإنما من زوايا متعددة في آن، ما يتوافق مع فكرة نسبية المنظور. هذا التحليل الميتافيزيقي للشكل والفضاء كشف أن الواقع نفسه يتوزع في طبقات ويحتاج إعادة تركيب، فلم يعد العالم ينظر إليه بوصفه طبقة مكانية مطلقة، إنما هو نتاج نسيج متداخل من اختلافات المنظور والنظر، إنه نسيج زمكاني كل واحد فينا يراه من موقع نسبي ويحكم عليه من تلك النقطة بالذات. وهذا هو ما عملت تكعيبيات بيكاسو على إبرازه من خلال تلك الأجساد المفككة والمركبة بشكل سيمولاكري. أما الدادائية فتبنت، من جهة، موقفا نقديا أقرب إلى التفكيك، وسباق عن مولد هذا التيار النقدي الأدبي الفلسفي، إذ رفضت المعايير الجمالية والأنساق العقلانية، لتعلن أن العبث ذاته يمكن أن يكون موقفا فلسفيا، حيث لا معنى معطى بسهولة، ينبغي تفكيك عناصر العمل حتى تنبعث المعاني المتشظية فيه، فهي وليدة عصر العبث، عصر الحرب العالمية الأولى، الذي سيظل خلفه الإنسان الغربي يتساءل عن جدوى الوجود وعن المغزى في "انتظار غودو".

يمكننا القول إذن، إن العلاقة بين الفن والفلسفة لا يمكن أن تفهم بمنطق التفوق أو التبعية، وإنما بمنطق المكان. ما يهم ليس أن نقول أيهما أسبق أو أعمق، بل أن ندرك أنهما يتقاطعان ويتداخلان كما تتقاطع الخطوط في طية أو كما يلتف السطح على نفسه ليخلق وجها جديدا. حين نتأمل الضبابية عند إدوار مونيه في علاقتها بفكرة التعالي والصفاء وفكر الحداثة المرتكز على فردانية الذات الإنسانية وحريتها ورؤيتها الخاصة للعالم، أو لوحات كاندينسكي في ضوء المثالية الألمانية، ندرك أن الفن والفكر ليسا في حوار خارجي، وإنما في تماس داخلي، كأن كلا منهما يكمل ما ينقص الآخر في لحظة مشتركة.

العلاقة بين الفن والفلسفة لا يمكن أن تفهم بمنطق التفوق أو التبعية، وإنما بمنطق المكان. ما يهم ليس أن نقول أيهما أسبق أو أعمق، بل أن ندرك أنهما يتقاطعان ويتداخلان

وقد ذهب الفن المفاهيمي في السبعينات أبعد بكثير من كل هذه الأطروحات. إذ لم يعد الشكل يعدّ أساسا، وإنما المفهوم ذاته، فما هو إلا ذريعة وجودية ومادية للمفهوم ليصير قابلا لينظر ويرى. فقد نشأت هذه الحركة الفنية متأثرة بفلسفة اللغة والتحليل المنطقي، وبروز فلسفات ما بعد حداثية، حيث عملت على تجاوز مادية الشيء لصالح المفهوم، فالذهني واللغوي هو سر الكينونة. فصارت الأعمال برهنة حسية على أن الفن يمكن أن يكون تفكيرا مباشرا. وهكذا التقى جوزيف كوسوث وغيره مع التيارات التحليلية (من فيتغنشتاين وتلامذته التحليليين أمثال دانتو وغودمان وغيرهما) التي رأت أن اللغة نفسها هي بيت الكينونة، وبالتالي تحولت مجموعة من الأعمال الفنية إلى "ألعاب لغوية"، مثلما يقدم لنا كوسوث في ثلاثياته الشهيرة، بما فيها "كرسي واحد وثلاثة كراسي"، المكون من صورة الشيء (الكرسي) والشيء نفسه ماديا وتعريفه المعجمي، فيصير السؤال أيهما هو الشيء عينه؟ الصور، المادة، أم التعريف اللغوي؟

Reuters
جانب من 300 عمل لبيكاسو في معرض متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك، 19 أبريل 2010

الدائم والآني

أما فنون الأداء (البرفورمانس) والفن الزائل، فأعادت صوغ العلاقة بين الزمن والجسد والفلسفة، إذ لم يعد العمل كيانا ماديا باقيا، ذلك أنه ملغى تماما من ماديته ليصير تجربة آنية، تضع الجسد في مواجهة الجمهور، كما في أعمال مارينا أبراموفيتش، التي حولت اللحظة الفنية إلى تجربة فلسفية في الحضور والحد، وأعمال فن الأرض (Land Art) التي تختفي كليا مع عوامل البيئة، ليبقى منها الأثر (الصورة الفوتوغرافية، النص المصاحب، قصاصة خبرية، فيديو، ما يحكى شفاهيا) فحسب، وذلك في شبه تطابق مع الرؤية الفلسفية لدريدا لمفهوم الأثر من حيث أنه كما يقول "مفهوم لا حدود له، أي يتجاوز بكثير ما نسميه الكتابة أو النقش على وسيط معروف"، إنه ليس ما يترك من خلف الحدث أو المنجز (نصا أو عملا بصريا)، وإنما هو علامة غياب المعنى النهائي، وفي الوقت نفسه يضمن إمكان التواصل والفهم عبر الزمن. وعند ربط هذا المفهوم بـفن الأرض، يظهر الأثر بشكل ملموس: فالأعمال الفنية في الطبيعة لا تحتفظ بالمعنى أو الشكل الثابت، إنما تترك بصمات زمنية ومكانية على الأرض، تتأثر بالعوامل الطبيعية وتتكاثر تفسيراتها بحسب رؤية المتلقي. فالأرض نفسها تصبح نصا مفتوحا، يحوي أثر الفنان والطبيعة والمكان والزمان، تماما كما يشير دريدا إلى أن المعنى لا يكتمل أبدا، فهو يترك أثرا دائما يستمر في التحول والتأويل.

ولعل أعمق ما تكشفه هذه الأمثلة أن ما يجمع بين الطرفين ليس البحث عن حقيقة ثابتة، إنما الوعي بأن الحقيقة نفسها ليست معطى جاهزا، وإنما تخلق في كل لحظة. الفنان يخلقها بالصورة، والفيلسوف يخلقها بالمفهوم، وما يظهر بينهما هو ذلك "الفضاء البيني" الذي لا يمكن اختزاله إلى أي منهما. في هذا الفضاء، لا يعود الواقع مقابلا للوهم، ولا يصبح الخيال عكس الحقيقة، إذ كلاهما يتحركان في تيار واحد، هو تيار الوجود بما هو تدفق مستمر.

حول كل من المسرح التجريبي، الرقص التعبيري، والفن التفاعلي... المشاهد من متلق سلبي إلى مشارك فعال، مما أعطى الفن بعدا أخلاقيا وفكريا، وفتح للفلسفة آفاقا جديدة لتحليل التجربة الإنسانية في الوقت الحقيقي، مؤكدا أن الفن ليس مجرد محتوى بصري أو سمعي، بل مختبر للتجربة الوجودية والفكرية، يصبح الحضور والجسد فيه عنصرين معرفيين قادرين على توليد فهم جديد للعالم والذات. ويستحيل التأويل متاحا للكل، وهذا الكل فاعلا في عملية صناعة العمل الفني قبل تلقيه وتأويله، فيتحول هذا الفعل الأخير إلى شبكة معقدة من التفاعلات والتداخلات البينية التي بقدر ما تتشكل على هيئات فنية، هي في الوقت عينه تؤطر واقعنا وفلسفته المعاصرة، إذ بقدر ما نحن من يعلق على منشورات في منصات التواصل الاجتماعي، ونصنعها ونعرضها، فهي تؤثر بقوة، كأننا نصنع بأيدينا الأثر الذي تتركه فينا.

ما يجمع بين الطرفين ليس البحث عن حقيقة ثابتة، إنما الوعي بأن الحقيقة نفسها ليست معطى جاهزا، وإنما تخلق في كل لحظة

ولم يكن أمر تصور العلاقة بين الفن والفلسفة حكرا على الغرب فحسب. إذ في العالم العربي، شكل طه حسين -رغم مهاجمته للرواية الفلسفية- وزكي نجيب محمود نموذجا لهذا التداخل: الأول رأى في الأدب والفن مدرسة للعقل الحر، والثاني أبرز أن التربية الجمالية شرط للتحرر الفكري، متأثرا بالوضعية المنطقية والتحليلية. قدم كل من السينما والرواية العربية والشعر مختبرا فلسفيا، كما عند نجيب محفوظ أو يوسف شاهين أو شادي عبد السلام، حيث يصبح السرد وسيلة للتفكير في الهوية، والحرية، والتغير الاجتماعي، أو تتحول الصورة نفسها إلى عملية تأملية فكرية، أو يصير الشعر عند المغربي عبد الله زريقة مساحة لحوارية شعرية فلسفية وفنية معمقة تبدأ من الذات لتلامس ميتافيزيقيا الواقع.

AFP
صورة غير مؤرخة للفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو-بونتي (1908-1961)

علاقة مغامرة

من هنا نفهم أن العلاقة بين الفن والفلسفة ليست مجرد علاقة "شرح" أو "ترجمة"، إنما علاقة مغامرة، كل طرف فيها يغامر بالخروج من حدوده نحو الآخر. الفيلسوف حين يفكر في الفن يتخلى عن ادعاء السيادة المطلقة للمفهوم، والفنان حين يفتح عمله أمام الفلسفة يترك للصورة أن تسائل نفسها بما يتجاوز مادتها. وكلاهما يلتقي في فعل واحد: فعل الإبداع والابتداع. إن الابداع هنا ليس إنتاج شيء جديد فحسب، وإنما اختلاق إمكان جديد للتفكير والوجود.

وإذا عدنا إلى أسطورة الكهف، سنجد أن الفلسفة والفن يلتقيان عند الحد نفسه: الحدود بين الظل والنور، بين الوهم والحقيقة. غير أن الحداثة بينت أن ما نسميه "ظلا" قد يكون أيضا حقيقة أخرى، وأن ما نظنه "مثالا" قد لا يدرك إلا عبر صور، وأن الظل ليس ظلاما دامسا بل هو تحولات لونية تتأثر بالضوء والإضاءة والفضاء.  فلم تعد الصورة -بمعناها الأفلاطوني- نقيضا للحقيقة، وإنما أحد وجوهها، وأحد المتلاعبين بها، وأداة موازية للواقع عينه، فتعددت وظائفها، والمفهوم لم يعد قادرا على العيش بلا لغة رمزية أو مجازية. من هنا يصبح الحوار بين الفن والفلسفة حوارا حول كيفية خلق الحقيقة نفسها.

يمكننا القول إذن، إن ما يبقى بعد خروجنا من قاعة السينما أو بعد وقوفنا أمام لوحة أو قصيدة، ليس صورة ثابتة ولا مفهوما نهائيا، إنما ذلك الأثر الذي يفتح فينا مساحة للتساؤل. ولعل هذه المساحة هي بيت العلاقة الحقيقية بين الفن والفلسفة: ليست ملكا للفنان وحده ولا للفيلسوف وحده، إذ هي فضاء مشترك يولد بينهما في لحظة ارتطام الحس بالفكر، لحظة تذكرنا دوما بأن الوجود هو ما يبتدع لا ما يعطى.

font change

مقالات ذات صلة