تحيّر الرئيس الأميركي دونالد ترمب في التعليق على الهجمة الإسرائيلية على الدوحة، وفي تصريحه الأول بَيَّن أنه أخبَرَ قطر بعد فوات الأون، إلا أنه أردف قائلا: "لا أستغرب شيئا في الشرق الأوسط". والشرق الأوسط يعرف المدى الذي تسمح به أميركا لإسرائيل بممارسة غطرستها وجنونها، ومنذ تولت أميركا حق الرعاية لأمن الاحتلال، والسماح له بالعبث في المنطقة، واختراق سيادة الدول، وإسرائيل تظل درة حلفاء واشنطن.
لذا، لم يكن الدعم الأميركي لإسرائيل مستجدا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إذ عبّرت أميركا عبر إدارتين (بايدن وترمب) عن أوسع حالات دعمها لإسرائيل بشكل متماثل، ففي إدارة بايدن عرّفت تأييدها للاحتلال، لا بوصفها حليفا له، بل عبّر رجال بايدن عن يهوديتهم أكثر من تعاطفهم وقلقهم على إسرائيل، وفي الثانية أي إدارة ترمب، اُطلقت يد إسرائيل في المنطقة بلا حدود، لا بوصفها معتدى عليها من "حماس"، بل في كونها مهددة بأمنها ووجودها.
ومنذ 11 سبتمبر/أيلول 2001 وعبر رؤساء أميركا الخمسة: كلينتون وبوش وأوباما وترمب وبايدن، كانت السياسة الأميركية واحدة، لكن الفرق في الأدوات، وهوامش النفوذ التي يُسمح بها لإسرائيل بالتحرك، إذ أطفأ كلينتون شمعة النهاية للقرن العشرين، بمحاولة الوصول لاتفاق جديد عنوانه "السلام مقابل الأمن"، حدث ذلك حين رعى مع الملك حسين رحمه الله في "واي ريفر" الأول عام 1998، مشروع إنقاذ عملية السلام، لكن نتنياهو كان أحمقا وأكثر عنادا، وهنا صدقت نبوءة الملك حسين قبل أعوام من تلك السنة، في مايو/أيار 1996 حين انتخب نتنياهو كرئيس حكومة قال الحسين: "إن بقي هذا الرجل في الحكم سيحيل المنطقة إلى بركة دماء..".
وآنذاك، بلغ السيل الزبى من نتنياهو، الذي كان أصغر رئيس حكومة في تاريخ إسرائيل، بيد أنه الأكثر عنادا وتقلّبا، ويقول آفي شلايم في كتابه "أسد الأردن": "الرئيس كلينتون قال معلقا حول مسلك رئيس الحكومة الإسرائيلية: نتنياهو لا يريد التوصل إلى اتفاق. إنه يحاول إذلالي وإذلال عرفات... ونصح الملك حسين كلينتون بالتمسك بموقفه وعدم الاستسلام لمطالب نتنياهو..".
بعد كلينتون جاء بوش الابن مُحملا، بهاجس الحرب، وضرورة حدوث كارثة مثل بيرل هاربر تعيد الهيمنة الأميركية بعد الزمن الناعم لإدارة كلينتون
واليوم، يقلّب نتنياهو مزاج ترمب على طريقته، يَعِد ويخلف، ويقرر قصف الدول دونما إبلاغ للبيت الأبيض، كما يدعي ترمب، إلى حدّ أن الأخير تفاجأ من ضربه لعاصمة أكثر دول المنطقة علاقة بترمب، وهي قطر التي ترعى الممر التفاوضي المأذون أميركياً، وقبل ترمب أذلّ نتنياهو بايدن العجوز حين ضرب الحائط بكل دعاواه للتهدئة ووقف الحرب، فجاء بايدن لتل أبيب عقب السابع من أكتوبر لا ليوقف الحرب، بل ليقول لإسرائيل إن عليها الاستمرار بالدفاع عن أمنها، واستقبله جيش الاحتلال بقصف مستشفى الشفاء في غزة. وكان معنى هذا، تفويضا لنتنياهو بقتل المزيد من الأبرياء.
بعد كلينتون جاء بوش الابن مُحملا، بهاجس الحرب، وضرورة حدوث كارثة مثل بيرل هاربر تعيد الهيمنة الأميركية بعد الزمن الناعم لإدارة كلينتون، وسبق تسلّمه مقاليد الحكم في سبتمبر 2000 ظهور تقرير أعدته مجموعة فكرية تعمل في مشروع القرن الأميركي الجديد، كان أبرز المساهمين بها ديك تشيني، ودونالد رامسفيلد، وجيب بوش، وباول ولفووتز، وسمي هذا التقرير: "إعادة بناء دفاعات أميركا". ومما جاء فيه أنّ عملية التغيير المطلوبة ستكون "بطيئة جدا بغياب أحداث كارثية جوهرية بحجم كارثة بيرل هاربر..". وفي الـ24 من أكتوبر 2000 بدأ البنتاغون تدريبات ضخمة، تضمنت تدريبات ومحاكاة لاصطدام طائرة "بوينغ 757" بمبنى البنتاغون.
كان التمثيل التشبيهي لحدث 11 سبتمبر بداية لحرب مقدسة على الإرهاب شنها بوش الابن، وظلّت أميركا تريد نصرا بها، حتى قتلت أسامه بن لادن، وما بين الحدثين كان رأس العراق مطلوبا، فاحتُل ودمر، ثم جاءت حرب غزة "الرصاص المنهمر" عام 2008، وبعدها يزور أوباما القاهرة مبشرا بالديمقراطية بعنوان الربيع العربي، الذي وقعت عليه مدام كلينتون.
عبر السلاح بكميات لغزة تحت أعين الأميركيين، لتأتي لحظة السابع من أكتوبر التي أُخبر بها الإسرائيليون مسبقا، لكن نتنياهو تجاهل كل التحذيرات، لأنه أرادها مخرجا لأزماته
غادر أوباما المحب للخطابات البيت الأبيض، تاركا شهوة بالميراث له مع مدام كلينتون، أمام رجل الأعمال ترمب، فأطاح بها كما أطاح بنائبة بايدن كامالا هاريس، فقدم تعازيه للسيدتين بالشفقة على رئيسيهما والإمعان بالتوبيخ كلما أمكنه ذلك، مانحا إسرائيل بطاقة العبور لملء الشرق الأوسط بالدم والفوضى من جديد، وتعود مدام كلينتون لتصدر مذكراتها وتقول إن الفرصة كانت مواتية لتقسيم مصر، لكنهم في واشنطن تفاجأوا من الجيش المصري، ومن مصر في زمن "الإخوان". عبر السلاح بكميات لغزة تحت أعين الأميركيينن، لتأتي لحظة السابع من أكتوبر التي أُخبر بها الإسرائيليون مسبقا من أكثر من جهة كما يُقال، لكن نتنياهو تجاهل كل التحذيرات، لأنه أرادها مخرجا لأزماته، وليعلن استثنائيته بالنسبة لحلم إسرائيل الوعد والميعاد، آخذا الضوء الأخضر ليصول ويجول، فيحيل غزة لدمار شامل ويؤبن خيار الدولتين، ويضرب في طهران وصنعاء ودمشق وبيروت والدوحة، مشهرا تمرده وجنونه، ولكن برعاية أميركية.