سرديات التوحش

سرديات التوحش

استمع إلى المقال دقيقة

لم يتوقف صراع السرديات عبر التاريخ، ذلك الكر والفر بين استلاب الحق وتحريره وتعمية الحقيقة. ولم تعد السردية اليوم ثنائية القطب، بين ضحية ومنتصر، وخير وشر. إذ حملت طفرات العنف المعاندة للسلم الأهلي، طفرات في سرديات العنف، تكاثرت معها سرديات التوحش في مخابر صناعة الحروب والأيديولوجيات الفاشية التي تحاول امتلاك مفاتيح التراث الإنساني والحضاري والمصائر.

في كل اللحظات المضيئة في التاريخ كان الفكر والإبداع مؤنسي الإنسانية ورفيقي السعادة، في أغنية أو قصيدة أو فيلم، في فكرة شجاعة أو في تمرد. حتى إن الكثير من التيارات الإبداعية والفكرية الكونية العظيمة أطلق عليها اسم المدرسة أو الموجة. ولا تنتهي فكرة المدرسة ولا يتوقف أثرها في أي ظرف، فمن يستطيع إسكات موجة؟

ما نعيشه في أيامنا هذه، يقول لنا إن الإبداع لا ينتمي إلى الماضي، بل يستمر أثره إلى الحاضر والمستقبل. فنجد أنفسنا اليوم كأنما في عرض مستمر لفيلم "راشومون" 1950 للمخرج الياباني العبقري أكيرا كوروساوا (1910-1998). كأننا نشهد تأثيره في بث حي في الهواء الطلق وعلى الشاشات، كأننا نشهد امتداد ثورته التي اقترحها والتي امتدت إلى السينما وتركت أثرها في أفلام مخرجين عالميين كبار وفي العلوم الإنسانية والأدب والسياسة والقانون والحياة اليومية والفسلفة. تلك الرؤيا المفتوحة على صدمة أن الحقيقة ليست بالضرورة هي الحقيقة.

في اعقاب الحرب العالمية الثانية فرضت رقابة على أفلام تاريخية ذات أيديولوجيا محددة وفور رفع الحظر كان مخرجون عالميون كبار ومن بينهم كوروساوا يبحث في الإنسان الذي سحقته الحروب الأهلية التي مضت وتسحقه الحروب إلى يومنا هذا. الإنسان الصغير المهمش الذي رمى به العنف في العتمة ودجنه الخوف والمجاعات كي لا يستطيع أن يكبر، ولا يمتلك القرار، ولا يتحرر. لذا غمر كوروساوا فيلمه "راشومون" بالجمال وفتح نهاية الفيلم على الأمل وخلق ثورة في السرد لا تتوقف.

تطل اللقطة الأولى في الفيلم من معبد في بوابة "راشومون" جنوب مدينة كيوتو التي دمرتها حرب أقدم. يحتمي في هذا المعبد رجال ثلاثة، حطاب وكاهن ورجل فقير، من عاصفة ماطرة. يثير الرجال في هذا الجو العاصف حكاية محاكمة جرت حول جريمة قتل ساموراي وقعت في غابة مجاورة.

تتناول الحكاية قاطع طريق يغتصب زوجة ساموراي ويعثر على جثة الزوج بعد ذلك. يقوم أطراف الحكاية الثلاثة، قاطع الطريق والزوجة وروح الساموراي، بسرد نسخ شخصية متباينة عما حدث، يروي كل منهم الواقعة بانزياح كامل عن رواية الآخر. ثم تضاف رواية رابعة مغايرة هي رواية الحطاب الذي تبين أنه هو أيضا كان في الغابة لحظة الجريمة ويفترض أنه كان شاهدا عليها.

الإنسان الصغير المهمش الذي رمى به العنف في العتمة ودجنه الخوف والمجاعات كي لا يستطيع أن يكبر، ولا يمتلك القرار


يقول كوروساوا في كتابه "ما يشبه السيرة الذاتية"، إن ما جذبه في حكاية الفيلم "كشف الوجوه المخبأة والخبيثة للروح الإنسانية. الإنسان المغلق على نفسه حتى حين يتحدث عن نفسه". نرى مشهد المحاكمة المدهش في بنائه التشكيلي، وغياب القاضي، القاضي هو المتفرج أو الكاميرا. حركة الكاميرا والطبيعة وضوء الشمس والمرايا والجمال المطبق، الشاهد الصامت على الجريمة.

نرى انفلات الشخصيات داخل اللقطة في حركة تشي بالحيوانية، بالهروب من الذات ربما:       هل كذب الشهود الأربعة؟ أم إنها حقيقتهم؟ يعتبر الفيلم الإنسان قادرا على فعل الجريمة ببساطة، الهروب ببساطة، الكذب ببساطة، الخوف ببساطة، وما كل هذا، في سياق التكثيف الجمالي السردي في الفيلم، سوى سيرورة معقدة من التدجين أوصلت الإنسان إلى حدود هذا التبسيط الخطير كي يكون لا أحد.

يخوض الفيلم زمنا سينمائيا بديعا بين الشك واليقين، يكسر قواعد السرد التقليدي، يخترق الحقيقة في الضوء بحقيقة أخرى في الظل وينتهي متعمدا أن لا يحدد القاتل. يكمن الإبداع ربما في هذه الرحلة العميقة من البحث عن وجهة النظر الأخرى، عن نسبية الحقيقة عن السعادة.

أحدث الفيلم ثورة خلخلت السرديات البصرية والرؤى النقدية في السينما ورأى بعض النقاد أنهم يفتقدون إلى المرجعيات في المقارنة، وحمل تأثيره السينما اليابانية وبصمة المعلم إلى العالم.   

وكأننا نشهد تأثيره اليوم في الحياة اليومية، في صراعات الحروب والشائعات والشهية الدموية المفتوحة على استلاب حقوق الإنسان وتراب الحقيقة. تضخ آلاف السرديات المتباينة الكاذبة حول واقعة عبر منظومات إعلامية وشهود يفتقدون المصداقية دربوا على نهش صدقية الواقعة. تدجين ممنهج للفرد يعكس حالة المجتمع ويعكس طبيعة الأنظمة السائدة.    

ذات يوم من عام 1979 وفي مكان آخر من العالم، كانت السرديات المتضاربة تقف مدججة في وجه حرية شعب آخر. تغير الشاهد واختلف المشهد، وقف الشاعر والمترجم السوري ممدوح عدوان (1941–2004) في مؤتمر قيادة "الجبهة الوطنية التقدمية" بدمشق مع اتحاد الكتاب العرب وقدم مداخلة شفهية غاية في الشجاعة والفروسية: "الإعلام السوري يكذب حتى في درجات الحرارة وفي نشرة الأحوال الجوية، الكذب نوعان: نوع قول ما يغاير الحقيقة، ونوع إخفاء الحقيقة. وفي الحالتين الكذب ينطلق من الخوف".  


تضخ آلاف السرديات المتباينة الكاذبة حول واقعة عبر منظومات إعلامية وشهود يفتقدون المصداقية دربوا على نهش صدقية الواقعة


كان السوريون يخوضون نضالا مريرا في سبيل الحرية. وكانت السجون تمتلئ بأهل البلاد التي لم يستطع نظام الاستبداد تدجينها. كل لحظة تظهر في هذا العالم ملايين الوثائق والصور والأفلام، وفي المقابل الأفلام المضادة لها والوثائق والشائعات في صراع السرديات للاستيلاء على الحقيقة. هكذا تتحول الهزائم إلى انتصارات وعدد الضحايا في مجزرة إلى أرقام والجريمة إلى خطأ في التصويب بين القاتل والقتيل.

وقد يكون فيلم "صوت هند رجب" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية أقرب هذه السرديات إلينا في الزمن، حيث الإبداع في مواجهة التوحش في هذه الحرب المتوحشة على غزة. ينتشل الفيلم صوت هند رجب وينتشل حكايتها من تحت ركام سرديات دبابات التوحش، ويحميها عبر حرية الإبداع وأخلاق الجمال والشجاعة والضمير الإنساني، كي تروي هند حكايتها وتظل ترويها حتى تكبر، وتذهب إلى المدرسة.

font change
مقالات ذات صلة