خصصت دار "شعر" الفرنسية قبل عشر سنوات أنطولوجيا–مانيفست، حملت عنوان "فلنسكن العالم شعريا"، اقترحت خلالها القيم الأخلاقية الجوهرية التي تمكننا من سكن العالم شعريا، وتضمنت مقالات ودراسات لأكثر من مائة كاتب تناولوا هذا التعبير المستعار من بيت الشعر الشهير للشاعر الألماني فريدريش هولدرلين (1770-1843)، وهو البيت الذي لم يتوقف الفلاسفة والكتاب والشعراء في أرجاء الكون عن الاستشهاد به منذ أكثر من مئتي عام.
اليوم أستعيره بدوري، فالحاجة لم تكن قط أكثر إلحاحا من اللحظة: هل يكتب الشعر الحياة؟ هل ينقذ الشعر الحقيقة؟ هل يخلق عالما من الجمال في وسط الفظاعة ليحمي فكرة الخير؟
كلما مررت بقصائد شعراء غزة أرى أقواس قزح في الغيم تنجو من جحيم المقتلة. كل يوم، حين لا كهرباء ولا ماء ولا خبز ولا ورق ولا حبر، وتنحسر المدينة ينشرون قصائدهم في الفضاء الأزرق. ومنهم الشاعرة نعمة حسن مواليد رفح 1988، التي تطل قصيدتها في صفحتها على "فيسبوك"، وتطل هي عبر قصيدتها على الكون، تهديها لهذا الكون أمانة أو وثيقة أو معمارا جديدا للأمل:
"لم أفكر يوما أن أصنع الكعك في غير موسمه
صناعة الكعك في آخر أيام رمضان لها خصوصيتها... رائحة الشوارع
وضحك الأمهات، لهفة الصغار لتذوق أول صينية تخرج من الفرن
لم أنبهر بطعم الكعك يوما إلا في مواسمه الحقيقية
صنعته بكل حب بكل فرح ليصل العيد في موعده
بالأمس صنعته كفكرة للعناق... لإغواء الفرح... لجذب شيء يئس من الحلاوة
هذه المدينة أصبحت مرة.. يعلو وجهها رمل الخيام".
هذه القصيدة عجينة الحياة الهشة المدهشة التي تصنع خبزا للمجاعات وأهلا لليتامى وقبورا للجثث المرمية في الشوارع وفناء المستشفيات وحياة جديدة تحتضن وجع الحياة المندثرة تحت دمار التوحش والإبادة وأحلاما صغيرة للصغار.
هذه القصيدة عجينة الحياة الهشة المدهشة التي تصنع خبزا للمجاعات وأهلا لليتامى وقبورا للجثث المرمية في الشوارع
فالأم في غزة لا تنام، تنصت للعتمة لتنتقي منها ما يليق بحكاياتها وتقف درعا في وجه الخوف لتحمي أبناءها، وتحمي في القصيدة المدينة وفي سماء المدينة وقرب بحرها في الغيم تطلق أقواس قزح تارة، وتارة أخرى، كي يصدق الأطفال، تطلق طائرات من ورق.
حاولي أن تكوني قوس قزح في غيمة لإنسان آخر، قالت مايا أنجيلو في رسالتها لابنتها. وكلما مررت بنافذة الشاعرة الصديقة نعمة حسن المقيمة في غزة، نافذة الحياة اليومية التي تطل منها في صفحتها الشخصية، أراها تفرش مساحات من الابتسامات في حديقة خيمتها وسط نزيف النزوح والغبار المفتوح على الكارثة، كأنها في مهمة عاجلة لإنقاذ اللحظة قبل أن يستيقظ الوحش الذي يحرس بوابات هذا الجحيم، تحيل صوت "الزنانة" إلى صمت الفراشة... تصوغ الحقيقة بلطف الجمال كي تهدئ من روع الكارثة.
أثق بالشعر، أئتمنه على مشاعري. بهذه الثقة تقطع الشاعرة أسوار العزلة المضروبة على أهل المدينة المحاصرة وتسعد بالصدى يأتيها من رياح الأرض.
ما يدونه الشعر اليوم في غزة، ليس قصائد عن الوحدة ولا نحيبا، بل حوار مستمر وحب وأطفال وجيران وشوق وحديقة وأسئلة تتفتح في الأسئلة في هذيان هذه المقتلة، المقاومة هي خلق فضاء حر للحوار والإصغاء ونسف العزلة. تبقينا نعمة حسن في حالة نداء أو مونولوغ أو تأمل وجودي لهذا الكون، تسألك: بمَ تفكر؟ وتسأل ذاتها:
"أنت لا تعلم كيف تموت البلابل على النوافذ العالية، وكيف تصبح الفراشات غذاء للريح".
أنا، أنت، تتداخل الضمائر وأدوات الاستفهام في تشكيل دينامية القصيدة:
"بمَ تفكر؟
في كوب من الشاي محلى بملعقة سكر واحدة
في رغيف خبز لا رائحة عفنة له
أن أقف في المطبخ أمام الموقد
وأصنع طعاما شهيا لصغاري
في صنبور ماء أغسل وجهي منه
في ثياب أنيقة ألبسها بعد
الاستحمام بشامبو له رائحة منعشة
في رشة عطر
في فراش دافئ
ووجهة أركن عليها رأسي وأبكي".
في غزة، يصنع الشعراء الجمال بالقليل المتاح بين الحياة والحياة، حيث لا يتوفر الورق ولا القلم ولا الضوء ولا سعة الاحتمالات
كأنها تحدد مكانها على الخريطة. أنا قرب كأس الشاي جهة البكاء في فكرة القصيدة.
في غزة، يصنع الشعراء الجمال بالقليل المتاح بين الحياة والحياة، حيث لا يتوفر الورق ولا القلم ولا الضوء ولا سعة الاحتمالات، لا بد أن نرى ما نريد.
في نعمة حسن امرأة يكتشفها الشعر مع كل قصيدة، امرأة تنحسر من حولها المدينة شيئا فشيئا.
يدون الشعراء في غزة تاريخ الحصار وتاريخ المدينة التي تزول رغم اكتمال مشهد الجمال جهة البحر والشمس والحلم والقمر. كيف يقاوم الإنسان هذا العدم؟
تكتب الشاعرة بروحها وجسدها معمار الأحاديث اليومية، ذكرى الحياة العادية لأهل غزة:
"تسألني صديقتي منذ عامين، ما أكثر شيء تفتقدينه منذ عامين، قلت رائحة الأطفال صباحا بثياب المدرسة".
"أرى ما أريد"، قالها الشاعر. ولا يني الشعر يروض عماء اللحظة كي تلوح الرؤيا.
شهادات مكثفة عن لحظة الحياة تزرع الفضاء بالجدال، عشبة السؤال الآن تنبت في غزة: "نحن نموت من أجل أشياء لا نعرفها! هل سيتغير شيء إذا كنت تعرف؟ نعم حينها لم أكن لألغي موعد العشاء مع أمي".
الألم حجر العتبة، تهمس من بعيد قصيدة الشاعر بسام حجار لقصيدة الشاعرة.
حازت نعمة حسن في العاشر من ديسمبر/كانون الأول 2024 على جائزة المناضلة والناشطة السورية المغيبة سميرة الخليل التي تمنحها لجنة التحكيم في مؤسسة سميرة الخليل من باريس وكانت العام الفائت مخصصة للأدب.
صدر لها في بداية العام كتاب "كن غزة.. يوميات الحرب"، عن دار "ليزيير" الفرنسية إعداد وترجمة الشاعرة والمترجمة الجزائرية سعاد لعبيز. وصدر لها منذ أيام ديوان "الفراشة الأخيرة" في استكهولم-السويد عن دار نشر "ألبرت بونييرش" أعده وترجمه الشاعر والمترجم العراقي جاسم محمد.
كل يوم من خيمتها، يرسل الشعر قصيدة امرأة تحاول إغواء الحياة في قطاع غزة.