الخطر القادم من أعلى... الطائرات الانتحارية في حرب السودان

تصعيد نوعي جديد

أ.ف.ب
أ.ف.ب
جندي من الجيش السوداني يراقب خط المواجهة باستخدام منظار في الخرطوم في 3 نوفمبر 2024

الخطر القادم من أعلى... الطائرات الانتحارية في حرب السودان

منذ انفجار شرارة الحرب بين ميليشيا "قوات الدعم السريع" والجيش الحكومي في السودان في أبريل/نيسان 2023، غدت مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، أيقونة للمأساة وملخصا للمعاناة. تلك المدينة التي كانت حاضرة إقليمية للمساعدات والإيواء والتعايش المجتمعي، باتت اليوم في قبضة حصار خانق امتد لحوالي الثمانية عشر شهرا منذ أبريل 2024. ما يقرُب من 260 ألف مدني، نصفهم من الأطفال، لا يزالون محاصرين داخل أسوارها، مقطوعة عنهم سُبُل الإغاثة الاعتيادية، ومُعرَّضين لبراثن المجاعة، وفتك الأوبئة كالكوليرا، وانهيار المنظومة الصحية. طُرق الوصول مقطوعة، وأسعار الغذاء تضاعفت مئات المرات، وسوء التغذية بلغ حِدَّة بالغة لدرجة أن الأسر المحاصرة لجأت إلى إطعام أطفالها علف الحيوانات لإبقائهم على قيد الحياة. لم يعد هذا الحصار تكتيكا عسكريا فحسب، بل هو حربٌ على مقدرات البقاء نفسها.

وفي خضم هذه البيئة التدميرية، يتسارع زخم تصعيد نوعي جديد من الأسلحة يتمثل في الطائرات المسيرة الانتحارية. كشف تقرير حديث صادرة عن "مختبر ييل للبحوث الإنسانية" (HRL) النقاب عن نشر طائرات دون طيار طويلة المدى ذات أجنحة من نوع دلتا، إلى جانب أنظمة إطلاق، بالقرب من نيالا، وهي طائرات تتوافق مع نمط الهجمات الانتحارية (ذات الاتجاه الواحد). هذه المعطيات تُنذر بأن بصمة الحرب آخذة في التوسع في التدمير العشوائي الممنهج الذي تمارسه ميليشيا "الدعم السريع".

في التاسع من سبتمبر/أيلول 2025، أعلن تحالف "تأسيس" (وهو التجمع الذي تقوده "قوات الدعم السريع" والذي أعلن نفسه سلطة حاكمة على الأراضي الخاضعة لها برئاسة مالك الميليشيا حميدتي ورئيس وزرائه محمد حسن التعايشي عضو مجلس السيادة السابق) مسؤوليته عن موجة من الهجمات بالطائرات المسيرة على العاصمة الخرطوم، واصفا إياها بـ"ضربات جوية دقيقة وناجحة" استهدفت مواقع عسكرية ولوجستية.

ولكن لم تشمل الأهداف سوى هدف عسكري واحد وهو مصنع اليرموك للذخيرة بينما شملت عدة أهداف مدنية مثل محطة لتوليد الكهرباء في أم درمان، ومصفاة النفط في الجيلي بالخرطوم بحري، بالإضافة إلى محطات تحويل كهربائية أخرى. لم تكن هذه هي الضربة الأولى التي تستعمل فيها ميليشيا "الدعم السريع" المسيرات، فقد سبقتها هجمات لقصف سد مروي ومحطات الكهرباء في الخرطوم ودنقلا والقضارف وغيرها فيما أصبح نمطا جديدا للهجمات الإرهابية التي تشنها الميليشيا.

هذه الهجمات لا تمثل مجرد دعاية حربية أو مضايقات تكتيكية عابرة، بل تُشير إلى تحوُّلٍ نوعي في سير المعارك، من المواجهات المباشرة، نحو اعتماد أنظمة جوية انتحارية تهدف إلى تحقيق أكبر قدر من الدمار في المنشآت الحيوية والحساسة دون أي اعتبار لسلامتها. وهي تمثل جرائم إرهابية بلا جدال. كما أن إعلان تحالف "تأسيس" مسؤوليته علنا عن هذه العمليات يكتسب أهمية بالغة بحد ذاته، فـ"قوات الدعم السريع" وقواتها المتحالفة كانت، حتى وقت قريب، تتجنب الاعتراف الصريح بهجمات الطائرات المسيرة، على الأرجح بهدف تقليل التبعات السياسية والقانونية المحتملة، ولكن هذا الإعلان يأتي بمثابة اعتراف صريح بالمسؤولية عن هذه الهجمات الإرهابية.

لم تشمل الأهداف سوى هدف عسكري واحد وهو مصنع اليرموك للذخيرة بينما شملت عدة أهداف مدنية مثل محطة لتوليد الكهرباء في أم درمان، ومصفاة النفط في الجيلي بالخرطوم بحري


وثق تقرير "مختبر ييل للبحوث الإنسانية" (HRL) صورا يعود تاريخها لمطلع مايو/أيار 2025، وحدد بحسب تحليلها 13 طائرة دون طيار من طراز دلتا بعيدة المدى ونحو 16 نظاما لمنصات الإطلاق، ظهرت بين الأول والسادس من الشهر ذاته قرب مطار نيالا، في مناطق تخضع لسيطرة "قوات الدعم السريع". تتطابق مواصفات هذه الطائرات مع الطائرات المسيرة الانتحارية طويلة المدى (المعروفة أيضا بـ"الذخائر الجوالة" أو Loitering Munitions)، وهي مركبات هجومية ذات اتجاه واحد مُصمَّمة لتصطدم بأهدافها وتنفجر فيها دون عودة.

هذه الطائرات المسيرة الانتحارية تميّزها قدرة فريدة على البقاء حائمة فوق منطقة الهدف بحثا عن اللحظة المناسبة للضرب، فهي ليست طائرة استطلاع بحتة بل منصة هجومية مزوَّدة برأس حربي مدمج قادر على التفجير. ومزوّدة بحساسات متقدمة وأنظمة توجيه دقيقة، تستطيع هذه المسيرات تحديد الأهداف وتتبعها والمهاجمة تلقائيا أو بشكل شبه تلقائي بدقة عالية، لتنفّذ في النهاية هجوما انتحاريا واحدا يدمر القاذف والهدف معا.

تعمل العملية عادة بإطلاق القذيفة من موضع مخفي، ثم التحليق لزمن ممتد يجمع معلومات الاستطلاع والمراقبة، يلي ذلك تمحيص البيانات والتعرف على الأهداف المحتملة عبر الحساسات، وعندما يتأكد النظام أو المشغّل من الهدف وتُتاح الفرصة المناسبة ينهال الصاروخ على الهدف مفجرا رأسه الحربي. وقدَّر التقرير مدى هذه المسيرات- بناء على شكلها والمقارنة مع أنظمة مماثلة معروفة- بحوالي 2000 كيلومتر، وهو مدى يسمح بتغطية كافة أراضي السودان تقريبا انطلاقا من قواعد رئيسة تخضع لسيطرة ميليشيا "الدعم السريع".

في هذا السياق، لا يمكن إغفال الإطار القانوني الدولي الذي كان مُفترضا أن يمنع هذا التصعيد، ألا وهو قرار مجلس الأمن رقم 1591 لسنة 2005. فرض هذا القرار، في ذروة أزمة دارفور، حظرا شاملا على توريد الأسلحة إلى جميع الأطراف غير الحكومية في الإقليم، وأنشأ لجنة خبراء مستقلة للرصد والتقصي وهي لا تزال عاملة.

كان الهدف المعلن هو كبح جماح العنف وحماية المدنيين. إلا أن هذا القرار، شأنه شأن الكثير من القرارات الدولية، ظلَّ حبرا على ورق في كثير من جوانبه. فتقارير الأمم المتحدة نفسها وثَّقت مرارا انتهاكات متواصلة لحظر السلاح، مع وجود تدفقات مستمرة للأسلحة إلى مختلف الأطراف عبر حدود السودان الشاسعة وبواسطة أطراف خارجية ودول تبدي عدم اكتراثها الواضح بالامتثال لقواعد القانون الدولي. يُظهر وجود طائرات مسيرة انتحارية متطورة الآن فشلا ذريعا لنظام الحظر، بل وتحولا خطيرا في طبيعة الأسلحة التي يتم تهريبها وتوظيفها بواسطة الميليشيا والدول الخارجية الداعمة لها، من الأسلحة الخفيفة والتقليدية إلى أنظمة عالية التقنية تُغذي تصعيدا أكثر دموية وتعقيدا.

أ.ف.ب
قائد "قوات الدعم السريع" السودانية الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، يحضر اجتماعا في العاصمة السودانية الخرطوم في 8 يونيو 2022

للهجمات الجوية الانتحارية جذور تاريخية متشعبة. فطيارو "الكاميكازي" اليابانيون خلال الحرب العالمية الثانية يُعدون النموذج الأبرز لتلك الاستراتيجية القائمة على التضحية بالذات لتوجيه ضربة مؤكدة. وفي الوقت الحالي، انتشر استخدام الطائرات المسيرة الانتحارية على نطاق واسع من قبل فاعلين حكوميين وغير حكوميين على حد سواء، كما حدث في نزاع ناغورني كاراباخ بين أذربيجان وأرمينيا، وحرب أوكرانيا، وعلى يد قوات الحوثيين في اليمن، وكما استعملتها فصائل متنوعة في سوريا والعراق. تجمع هذه الأنظمة بين دقة التوجيه، والقدرة التدميرية للحمولة الانفجارية، وطابعها الاستهلاكي الذي لا يرحم.

وقد شهدت هذه المسيرات تطورا تكنولوجياً مذهلا، من الطائرات البدائية التي تُسقِط قنابل بتوجيه عن بعد، إلى الذخائر الجوالة الحديثة المعتمدة على الأقمار الصناعية (GPS) والتوجيه البصري الدقيق والمسارات المبرمجة مسبقا. كلما زاد مداها ودقتها وتطور أجهزة استشعارها، تعاظمت قيمتها الاستراتيجية. فالقدرة على الضرب من مسافات شاسعة تقلِّل الخطر على الطرف المُهاجم، لكنها تزيد في المقابل من هامش الخطأ والضرر الجانبي وخطر التصعيد غير المحسوب. ويُحظِّر القانون الدولي الإنساني صراحة استخدام الأسلحة عشوائية الأثر، أو تلك التي تستهدف المدنيين أو البنى التحتية المدنية. وحتى عند استهداف المنشآت العسكرية، يظل واجب التمييز واتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة لتفادي إيذاء المدنيين ركيزة أساسية للعمليات العسكرية.

امتلاك ميليشيا "الدعم السريع" لهذه الطائرات المسيرة الانتحارية يزيد من قدرتها على ارتكاب الجرائم الإرهابية

امتلاك ميليشيا "الدعم السريع" لهذه الطائرات المسيرة الانتحارية يزيد من قدرتها على ارتكاب الجرائم الإرهابية: جغرافياً، إذ إن ظهور هذه المنصات قرب نيالا- كما كشف مرصد مختبر ييل- يعني زيادة الرقعة الجغرافية لجرائم الإرهاب التي ترتكبها الميليشيا والتي تمتد الآن إلى العمق الاستراتيجي للأراضي الخاضعة لسيطرة الحكومة والتي ظلت تتمتع بأمان نسبي بعد تحريرها من قبضة الميليشيا. وهذه قدرة تعني توسيع رقعة الضربات، واختراق خطوط الدفاع التقليدية، وإلحاق ضربات نوعية في مواقع حيوية بعيدا عن جبهة الاشتباك التقليدية، وهو ما بدت آثاره واضحة في موجات الهجمات الإرهابية على الخرطوم التي تبنّاها تحالف "تأسيس".

سياسيا واجتماعيا، تحوّل الاستهداف المتكرر للبنى التحتية- محطات كهرباء، مصافي نفط، ومستودعات وقود- إلى أداة ابتزاز ممنهج. لا يوجد هدف عسكري بحت هنا، بل أداة ضغط تستهدف إعادة تشكيل الخيارات السياسية عبر إخضاع المدنيين لعقاب يومي: انقطاع التيار، وتعطيل سلاسل الإمداد، وارتفاع كلفة الحياة. والغرض هنا ليس فقط إضعاف الجيش عسكريا، بل تحويل المعركة إلى حرب أفقية ضد المجتمع ذاته- سلاح يدمّر قدرة الدولة على الحماية ويعمّق الانقسام الإنساني والسياسي في وقت تحتاج البلاد فيه إلى عكس هذا المسار.

يوفِّر الدليل الذي قدمه مختبر ييل حول الطائرات الانتحارية قرب نيالا سندا تقنيا لامتلاك "قوات الدعم السريع"/"تأسيس" للأدوات اللازمة لتنفيذ هجمات الخرطوم الإرهابية. فمدى الطائرات، ووجود منصات الإطلاق، والادعاءات العلنية للتحالف، جميعها تقود إلى استنتاج مفاده أننا إزاء تصعيد عسكري ممنهج وليس أحداثا منفصلة.

أ.ف.ب
عناصر من "قوات الدعم السريع" لعى متن مركبة عسكرية في منطقة شرق النيل بالخرطوم الكبرى في 23 أبريل 2023

صمتُ العالم وتسامحه مع هذه الجرائم الإرهابية وانتشار أدواتها يشكّل تهديدا أمنيا ليس على السودان فحسب بل إقليميا أيضا ووصمةَ تواطؤ أخلاقية فادحة. السماح بتدفق هذه المعدات وعبور منصاتها عبر حدود مُهلهلة يعني تسليمَنا لمستقبل تحكمه قواعدُ العنف بلا مساءلة. لذلك لا بدّ من إحياء آليات المساءلة فورا- فحتى الحرب لها قوانين. يجب عدم قبول تبرير تجاوزات وانتهاكات ميليشيا "الدعم السريع" باعتبارها "طبيعة الحرب"، هذا التهاون خطأ جسيم يقوّي منطق الإفلات من العقاب. أي عملية تتضمّن تدميرا متعمّدا للبنى التحتية المدنية أو استخداما لأسلحةٍ غير مميّزة يجب أن تتم إدانته علنا من المجتمع الدولي، والأمم المتحدة، وآليات العدالة الدولية.

وبالتوازي، لا غنى عن رقابةٍ دولية صارمة على تدفقات السلاح وتفعيل حظر التسليح: الأدلة المنشورة من تقارير الأمم المتحدة وغيرها تشير إلى أطرافٍ خارجية تسهم في هذا التصعيد، ويجب كشفُ هذه القنوات وقطعُها عبر عقوباتٍ رادعة وإجراءات قضائية وسياسية حاسمة. كما يستلزم الأمر مراجعة نقدية لآليات الحظر القائمة- بما فيها القرار 1591- وسدّ الثغرات الفنية والإجرائية التي تمكّن من تهريب أو تحويل هذه المنصات إلى الميليشيات. المساءلة والرقابة ليستا رفاهية أخلاقية، بل خط الدفاع الأخير أمام تفكّك الدولة وتآكل النسيج الإنساني.

لقد خلَّفت الحرب في السودان بالفعل وراءها دمارا هائلا: ملايين النازحين، ومجتمعات ممزقة، وأنظمة صحية منهارة، ومجاعة تهدد الأرواح. ويُمثِّل ظهور الطائرات المسيرة الانتحارية منعطفا جديدا وخطيرا في هذا المسار، حيث يرفع التطور التقني من وتيرة التصعيد، ويضاعف من القدرة على الإيصال والدمار. إن ما رصده مختبر ييل قرب نيالا، مقترنا بادعاءات "تأسيس" حول ضربات الخرطوم، ينبئ بأن تهديدا كان يبدو بعيدا قد أصبح جزءا من نسيج الرعب اليومي في السودان.

وفي خضم هذا المشهد، يجب أن لا تُطوى صفحة الفاشر ومعاناتها تحت وطأة الحصار والجوع والإهمال. فمع تحوّل القدرة على الضرب من بُعد إلى أمرٍ مألوف، فإن كل منشأة مدنية، وكل مستشفى ميداني، وكل سوق عامة، تتحول إلى هدف محتمل.

font change