"الجوائز الثقافية الوطنية" تراهن على التعدد وتستثمر في المبدع السعودي

المملكة تكرم أوجه ثقافتها المختلفة

Media Centre of the Minister of Culture
Media Centre of the Minister of Culture
الجوائز الثقافية الوطنية

"الجوائز الثقافية الوطنية" تراهن على التعدد وتستثمر في المبدع السعودي

مع كل دورة جديدة من دورات "الجوائز الثقافية الوطنية"، التي تتوّج مجموعة من صناع الثقافة في المملكة العربية السعودية، يترسّخ حضور الجائزة أكثر فأكثر، فتتجاوز المناسبة الاحتفالية والتكريمية، لترسخ حضورها بوصفها مرآة عاكسة للحراك الثقافي وتاريخه ومستقبله ودورها المحوري في رسم الخريطة الثقافية الوطنية، وهو ما رأيناه في الدورة الخامسة هذا العام، كما في جميع الدورات السابقة.

ما نراه اليوم في المشهد الثقافي السعودي، يتجاوز حدود الجوائز التقليدية، ليتحول إلى مشروع وطني متكامل يعيد تشكيل علاقة المجتمع بثقافته ومعارفه، مؤكدة أن الثقافة تحولت من كونها رفاهية أو مظهرا نخبويا يمارس على الهامش إلى أداة حيوية تشارك في صوغ مفردات حياة يومية أكثر غنى، وتنتج مجتمعا أكثر تماسكا.

أكدت الجوائز الثقافية الوطنية في دورتها الخامسة، والتي تقام في رعاية الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، بالفعل أنها ليست أوسمة تعلق على جدران الفائزين من أفراد أو مؤسسات أو شخصيات اعتبارية، وإنما هي مسار إدراكي أعمق يؤثث للثقافة لتغدو محركا استراتيجيا نحو مسارات التحول الوطني.

واللافت في هذا الحراك هو كسره للنمطية التي طالما رافقت العديد من الجوائز الثقافية، إذ لم تعد حكرا على الشعراء والروائيين والرسامين، بل امتدت لتحتضن مصممي الأزياء ومبتكري الأنمي، وصناع المسرح والموسيقيين،والمفكرين في ميدان الفلسفة والترجمة والآثار والمتاحف، لنجد أنفسنا أمام مشهد جديد تنزع فيه الثقافة عن نخبويتها، لتصبح أقرب إلى الناس، وأكثر ارتباطا بحياتهم اليومية وتحولاتهم المجتمعية.

ولم تفت وزير الثقافة الأمير بدر بن عبد الله بن محمد بن فرحان آل سعود، في كلمته خلال حفل التتويج بالجوائز في مركز الملك فهد الثقافي في الرياض، الإشارة إلى أن "مبادرة الجوائز الثقافية الوطنية تأتي انعكاسا لقيم الشكر والتقدير في ثقافتنا السعودية، وامتدادا لحرص وزارة الثقافة على تمكين وتشجيع المبدعين في المجالات الثقافية كافة". هذا الزخم يعكس تحديثا جوهريا في السياسات الثقافية للمملكة العربية السعودية، وهو إعلان غير مباشر أن الثقافة باتت تعامل باعتبارها استثمارا وطنيا مستمرا، لها دور اقتصادي يعادل دورها الجمالي، وينظر اليها كقوة ناعمة لها وزنها في رسم صورة الوطن أمام العالم، ونقلة نوعية في بناء مجتمع يعتز بهويته ويتناغم مع واقعه.

وهو ما يعزز الشعور بالانتماء، ويبعث برسالة قوية للمبدعين بأنهم ليسوا وحدهم في رحلتهم، بل أن هناك منظومة مؤسساتية تؤمن بعملهم، وتراهن عليهم. إنها لحظة اعتراف، لا بالمواهب فحسب، بل بقيمة الإبداع ذاته كحق أصيل، وركيزة في التعبير عن الذات والهوية.

هذا الزخم يعكس تحديثا جوهريا في السياسات الثقافية للمملكة العربية السعودية، وهو إعلان غير مباشر أن الثقافة باتت تعامل باعتبارها استثمارا وطنيا مستمرا

من يرى أن الجوائز الثقافية الوطنية مجرد تكريم على خشبة المسرح، ربما لم يستوعب بعد ما يحدث في السعودية اليوم. هي جوائز تكريمية في طبيعة الحال، لكنها في الوقت نفسه رهان حضاري مفاده أن الإبداع ليس كماليات لتزيين الحياة، بل استثمار في الإنسان: في مخيلته، ووعيه، وانتمائه، وموهبته وإتقانه، إنها معنى جديد في أن يكون الإنسان صانعا للجمال، وشريكا في بناء وطني ذي طابع حضاري متطور.

Fayez Nureldine / AFP
وزير الثقافة السعودي بدر بن عبد الله بن فرحان خلال افتتاح الدورة الخامسة والأربعين الموسعة للجنة التراث العالمي في الرياض، 10 سبتمبر 2023

إن الإبداع الذي كان ينظر إليه قديما بوصفه نوعا من الترف، أصبح اليوم في صميم الرؤية الثقافية السعودية. والجوائز التي كان ينظر إليها على أنها احتفال نخبوي، تحولت إلى رسالة مجتمعية تؤكد أن كل من يضيف الى المعنى يستحق أن يحتفى به. وبهذا تتحول الثقافة من زينة إلى ضرورة توازي الصناعات الصلبة في الأثر والمردود. وهو تحول أساسي، تحديدا حين تراهن الدولة على المبدع وتبرزه على المنصات لا لتكريمه بل ليكون أحد أعمدة التأسيس للمستقبل، وهذا في حد ذاته درس عميق في أن الثقافة ليست منتجا جانبيا للتنمية، بل واحد من أعمدتها الأكثر رسوخا وفاعلية.

أشارت فعاليات الدورة الخامسة للجوائز الوطنية إلى أنها جسر يمتد لمشروع طويل الأمد، عنوانه الحقيقي "بناء الإنسان أولا"، انطلاقا من أن التغيير السعودي طوال السنوات الماضية انطلق من تغيير في البنية التحتية صاحبته إعادة بناء البنية الوجدانية والفكرية والقيمية لهذا المجتمع، ليستمر في الإنتاج المعرفي ويواصل ما تخطط السعودية لصناعته في مستقبلها المرسوم لتموضع عالمي جديد على مستوى السياسات التنموية، تحافظ بموجبه على صميم هويتها الوطنية التي تعاد كتابتها اليوم بأسلوب حديث، وعبر أجيال جديدة.

Amer Hilabi / AFP
الفنان السعودي محمد عبده خلال حفل غنائي في جدة، 30 يناير 2017

محمد عبده شخصية العام

جاء تكريم فنان العرب محمد عبده بجائزة "شخصية العام الثقافية" احتفاء بمسيرة فنية طويلة، وتكريما لذاكرة جمعية شكلتها ألحانه وصوته ومواقفه، على مدى عقود.

فمحمد عبده ليس مجرد مطرب أو فنان ناجح، بل مؤرخ صوتي، يروي حكايات الناس وأحلامهم وهمومهم ولحظات فرحهم، ويسهر معهم كلما احتاجوا إليه.

منذ بداياته في ستينات القرن الماضي، مرورا بمرحلة السبعينات والثمانينات الذهبية، استطاع محمد عبده أن يشكل علامة موسيقية نادرة اختزنت في داخلها ملامح الأغنية السعودية الحديثة، وساهمت في تعريف العالم العربي بصوت المملكة وثقافتها الوجدانية العميقة.

ما يميز محمد عبده في الأغنية العربية ليس صوته العذب أو اختياراته الموسيقية الدقيقة، بل قدرته الفريدة على أن يكون معاصرا لكل مرحلة فنية، دون أن يفقد هويته الأصيلة

ما يميز محمد عبده في الأغنية العربية ليس صوته العذب أو اختياراته الموسيقية الدقيقة، بل قدرته الفريدة على أن يكون معاصرا لكل مرحلة فنية، دون أن يفقد هويته الأصيلة. حتى في زمن التغيرات السريعة والتبدلات المتلاحقة، بقي محمد عبده محافظا على جوهره، مطورا أدواته، منفتحا على التجريب، دون أن يفرط في أصالته. لهذا شهدت حفلاته في العقود الأخيرة - من مهرجان الجنادرية إلى مواسم الرياض - إقبالا من أجيال مختلفة، مما يؤكد أن هذا الفنان لم يتقوقع في ماضيه، بل جعل الماضي نفسه مادة حية، قابلة للتجدد والتأثير. لم يكن تكريمه في هذا العام حدثا عاطفيا، بل اعترافا من مؤسسة ثقافية كبرى بأن الفن، حين يكون صادقا ومتينا، يصبح ذاكرة وطنية لا تمحى، ولا تشيخ.

الشباب


حين يكرم مبدع شاب مثل يحيى رياني بـ"جائزة الثقافة للشباب"، فهو اعتراف بجيل جديد متعدد المواهب، جيل يكتب بروح يقظة وإدهاش، ويستغل اللغة ليستحضر صداها القديم في قالب معاصر، وصادق ومؤثر. تكريمه في هذا السياق هو إعلان ضمني أن المؤسسات الثقافية باتت تمتلك حسا استشرافيا يستشعر مواطن الجمال ويدعمها لتواصل مسيرتها، كما يؤكد أن الشعر في السعودية ليس محصورا في النخبة، بل هو أداة تواصل، وهوية نابضة، وصوت يجد صداه ويجدده في جميع الأجيال.

Media Centre of the Minister of Culture
الجوائز الثقافية الوطنية

التميز الثقافي السعودي والدولي


تمكنت الجائزة في دورتها الحالية من إظهار أعمال ومبادرات عدد من المؤسسات الدولية والسعودية التي لم يكن ليتعرف اليها المجتمع والى دوافع استحقاقها لولا تفردها في صنائعها الثقافية الداعمة للإبداع والمبدعين، منها مؤسسة "أواماكي" الدولية التي دعمت النساء ومكّنتهن في مجتمعات بيرو الجبلية الفقيرة، حين كفلت لهن التدريب، مؤكدة أن أثر العطاء الثقافي يتجذر في الإنسان ويستمر في تحفيزه وتغييره إلى أن يمنحه فرصة للبقاء ومقاومة وعورة الحياة الجبلية بحرفة يدوية تحول النسيج العادي بيد الفقراء إلى مصنوعات ومنسوجات عالمية.

ثقافة اليوم لم تعد مبادرة فردية أو ضربة حظ، أو اجتهادا ذاتيا، بقدر ما أنها بناء مؤسسي يمتلك الرؤية والاستراتيجيا وأدوات الاستدامة

أما المؤسسات السعودية فمنها "مؤسسة المداد" ومؤسسة عبد المنعم الراشد، إضافة إلى شركة "مخزن 7" المتخصصة في الإنتاج المرئي والتلفزيوني، و"شركة مانجا للإنتاج" التي أظهرت تحولا جوهريا في فهم طبيعة العمل الثقافي، مؤكدة أن ثقافة اليوم لم تعد مبادرة فردية أو ضربة حظ، أو اجتهادا ذاتيا، بقدر ما أنها بناء مؤسسي يمتلك الرؤية والاستراتيجيا وأدوات الاستدامة. فمن يعمل في إنتاج الأنمي، أو النشر، أو المحتوى الثقافي الموجه الى الشباب مستندا في عمله ومنتجه على التراث السعودي وأحداثه التاريخية، فلا بد من أن تصل قيمة وقيم رسالته الى مستهدفاتها، وتجد الصدى والقبول.

SPA
"مانجا برودكشنز" في الجوائز الوطنية للثقافة

أطياف متعددة

من يتابع الجائزة على امتداد دوراتها السابقة، سيجد أنها من دورة الى أخرى تتحول تدريجيا من اقتصارها على النخب الفنية أو الأكاديمية، لتشمل أطيافا مجتمعية وفنية متعددة من مبدعين وحرفيين تمكنوا من إعادة تشكيل الذاكرة بأيديهم، وعلماء آثار أزهقوا أعمارهم في البحث عن خطوط تاريخية، وآثار تحت الأنقاض والرمال، إضافة إلى مصممي الأزياء الذين نسجوا الحداثة بالخيط السعودي، والتراث الأصيل الذي اختزنته هذه الأرض منذ القدم.

من هنا رأينا هذا العام تكريم أسماء مهمة مثل عبدالله السحيباني، الذي أعاد الى الحياة شواهد من العصر الحجري، أو فهد الحسين الذي حفظ الحرف في جسد الكتابة، أو د. عبدالله البريدي المهتم بمجال الفلسفة، أو الباحث والمترجم د. عبدالله الوليعي الذي نقل تراث وطنه، وتاريخ الجزيرة العربية إلى لغات عالمية أخرى. أو صاحبة السمو الملكي الأميرة نورة بنت محمد الفيصل التي ألبست الهوية السعودية حلتها وزيها اللائق، أو الموسيقي السعودي الكبير عبد الرب إدريس محيي اللحن السعودي، أو صالح عبد الواحد قائد فرقة الدرعية للعرضة السعودية الذي وصل بها إلى قائمة التراث العالمي لمنظمة يونسكو عام 2015.

Media Centre of the Minister of Culture
الجوائز الثقافية الوطنية

إن تكريم جميع هذه الأسماء الرافدة للمعرفة والثقافة السعودية وفنونها، أعطاهم أعمارا إضافية يواصلون فيها إبداعهم ومواهبهم وشغفهم، وأعطى غيرهم رسائل إيجابية أن الإبداع لا يصنف، ولا يقاس بمعايير واحدة، مقدما بذلك دعوته الى كل من يحمل روح الفن، وفكرة الجمال بألا يتوقف بل يستمر في عطائه الإبداعي وممارسة ما يهواه ليرى نفسه واحدا من المكرمين والمحتفى بهم وبإبداعهم وموهبتهم المستقبلية.

تكريم الإعلام الثقافي

مهما تعددت الوسائل الإعلامية أو تجددت، يظل دور الإعلام الثقافي في جميع مجالاته أو أقسامه داخل الصحف السعودية المحلية والدولية، في حاجة دائمة الى الرعاية والدعم والانتباه كونه من أهم الفروع الإعلامية المحافظة على الزخم الثقافي ورفده بالمعلومات التي تساهم في مواصلة المبدعين لإبداعهم. ليس أدل على ذلك من تكريم الإعلامي السعودي سعد الحميدين الذي قضى زهاء خمسة عقود من عمره في خدمة الإعلام الثقافي، وشريكا في تكوين الرأي، وصناعة الذائقة، وتمكين الرسالة الثقافية من الوصول إلى الناس.

قضى سعد الحميدين زهاء خمسة عقود من عمره في خدمة الإعلام الثقافي، وشريكا في تكوين الرأي، وصناعة الذائقة، وتمكين الرسالة الثقافية من الوصول إلى الناس

ظل الحميدين طوال العقود الماضية حارسا لحقول الجمال والمعنى وسط زحام الأخبار الثقافية المتسارعة والمنجزات الإبداعية السعودية المتتالية، وكان شاهدا على مراحل ثقافية متعددة، من الزمن الورقي إلى الرقمي، ومع ذلك لم تتغير بوصلته. وتكريمه في هذه الدورة هو تكريم لفكرة أن الإعلامي يمكن أن يكون مثقفا حقيقيا، وشريكا في العمق، وإشارة تقدير الى استمرارية الإعلام الثقافي باعتباره حجر الزاوية في مسيرة التنمية الثقافية.
 

الناشر السعودي

من المعلوم أن المؤلف السعودي هاجر بكتابه وإبداعه لعقود طويلة مضت إلى أماكن أخرى، دون أن تستقر هجرته إلا في السنوات العشر الماضية عندما نشأت دور نشر سعودية رسمت هويتها وخاضت تجاربها وتحدياتها في عالم النشر، في محاولة منها لخدمة المؤلف السعودي ومنجزه. فظهرت دور نشر عديدة منها ما كرم في دورات الجائزة السابقة، واليوم يأتي تكريم "دار تشكيل للنشر والتوزيع" كونها جمعت بين النشر والمبادرات المجتمعية والثقافية، لتتحول إلى منصة متعددة المهام والخدمات التي تختصر على المؤلفين السعوديين رحلة النشر ومساراته.
 

font change

مقالات ذات صلة