ثورة علمية في فهم مصير الغابات

من التعداد الميداني إلى قراءة الشيفرة الوراثية

Jaimie Shelton
Jaimie Shelton
النموذج الجديد ليس مجرد ابتكار علمي، بل إنذار سياسي، يدعونا إلى إعادة صوغ علاقة الإنسان بالغابة على أسس من الرؤية الاستباقية

ثورة علمية في فهم مصير الغابات

حين نتأمل خريطة الأرض من الأعلى، لا يطالعنا اللون الأزرق وحده باعتباره رمزا للمحيطات والبحار، بل يفرض الأخضر نفسه بامتداد الغابات التي تغطي نحو ثلث سطح اليابسة. هذه الغابات ليست مجرد أشجار متراصة أو مساحات من الأخشاب، إنها "رئة الكوكب". فذلك الكائن الحي الهائل الذي يمدنا بالأوكسيجين، ويحافظ على توازن المناخ، ويختزن في ثناياه تنوعا بيولوجيا لا يزال العلماء عاجزين عن الإحاطة بكل أبعاده. فالغابة هي بنك الجينات الأعظم، والمختبر الطبيعي الأضخم، والمأوى الأخير لملايين الكائنات التي لولاها لانقرضت من زمن بعيد.

ومع ذلك، فإن هذا التراث الطبيعي يواجه اليوم تهديدات غير مسبوقة. فحرائق الغابات المدمرة التي تتكرر كل صيف، وإزالة الأشجار على نطاق واسع لصالح الزراعة أو العمران، وانتشار الآفات والأمراض بفعل تغير المناخ، تتضافر لتضع الغابات أمام اختبار وجودي. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن العالم يخسر سنويا ما يقارب عشرة ملايين هكتار من الغابات، أي ما يعادل مساحة دولة صغيرة متوسطة الحجم، وهو نزيف أخضر إذا استمر في هذا المعدل فسيغير وجه الكوكب خلال عقود قليلة.

في مواجهة هذا الخطر، لجأ العلماء والبيئيون إلى أدوات متنوعة: من التشريعات الدولية واتفاقيات المناخ، إلى حملات التشجير وإدارة المحميات الطبيعية. لكن التحدي الأكبر ظل ماثلا: كيف نفهم بدقة ديناميات الغابة المعقدة، ونتنبأ بما سيحدث لمجتمعاتها النباتية والحيوانية في المستقبل؟ وكيف يمكننا معرفة الأنواع الأكثر عرضة للانقراض أو التراجع قبل فوات الأوان؟

الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، فالأنظمة البيئية لا تخضع لقوانين خطية يمكن قياسها بمسطرة أو معادلة بسيطة. فكل شجرة في الغابة هي جزء من شبكة هائلة من التفاعلات، تتنافس على الضوء والماء والعناصر الغذائية، وتتأثر بجيرانها الأحياء والميتة، وتخضع لتقلبات الطقس والمناخ، وتتعرض في الوقت ذاته لضغوط بشرية متزايدة. وأي محاولة لفهم هذه الشبكة تتطلب عقودا من الرصد الميداني الدقيق، وهو جهد يتجاوز إمكانات كثير من فرق البحث حول العالم.

هنا يطل دور العلم الحديث بما يمتلك من أدوات رياضية وتقنية جديدة. ففي السنوات الأخيرة، تزايد الاهتمام بما يعرف بنماذج التنبؤ البيئي، وهي نماذج رياضية أو حاسوبية تحاول محاكاة سلوك الغابة عبر جمع معطيات ضخمة وتحليلها. لكن معظم هذه النماذج كانت محدودة القدرة، تعتمد أساسا على بيانات مناخية أو تعداد للأشجار دون أن تأخذ في الاعتبار البعد الجيني الخفي الذي يشكل "الذاكرة التطورية" لكل نوع.

جاءت الدراسة الحديثة التي أنجزها فريق بحثي من جامعة إلينوي في إربانا-شامبين بالتعاون مع جامعة ولاية أوريغون وجامعة ولاية يوتا، ونُشرت نتائجها في مجلة "ساينس". هذه الدراسة، التي يمكن اعتبارها خطوة ثورية في علم الإيكولوجيا، قدمت نموذجا جديدا قادرا على التنبؤ بدقة بمستقبل الغابات، ليس عبر عقود طويلة من الرصد فحسب، بل بالاستناد إلى مزيج مبتكر يجمع بين التعداد الميداني للأشجار والبيانات الجينومية المستخلصة من عينات وراثية.

الفكرة الجوهرية بسيطة بقدر ما هي عميقة، فإذا كان لكل نوع نباتي تاريخ مكتوب في جيناته، فإن قراءة هذا التاريخ يمكن أن تكشف عن أسرار بقائه أو تراجعه في بيئة معينة. وكما أن "الصندوق الأسود" يحتفظ بتفاصيل رحلة الطائرة، فإن الجينوم يحتفظ بقصة النوع في الغابة، فكيف يتكاثر، وكيف يتكيف، وما احتمالات استمراره في المستقبل.

الغابة نظام بطيء الحركة مقارنة بغيره من الأنظمة البيئية. فالأشجار قد تحتاج لعقود حتى تنضج، وبعضها يعيش لقرون.

طبق الباحثون نموذجهم على غابة ويند ريفر في ولاية واشنطن، وهي إحدى الغابات التي تخضع منذ سنوات لبرنامج "فوروست جيو" التابع لمؤسسة سميثسونيان، الذي يعد أضخم شبكة عالمية لدراسة النظم البيئية للغابات. وقد ركزت الدراسة على ثمانية أنواع من الأشجار تمثل نحو 90% من الكتلة الحية في هذه الغابة، حيث جمعت بيانات وراثية من مئة فرد لكل نوع، إلى جانب تعداد شامل لكل الأشجار التي يزيد قطرها على سنتيمتر واحد.

النتيجة كانت لافتة. فالنموذج الجديد لم يتنبأ فقط بمستوى التغير في وفرة هذه الأنواع، بل أثبت دقة عالية عند مقارنته بالواقع في سنوات لاحقة (2016 و2021). بكلمات أخرى، أصبح في الإمكان رسم "خريطة مستقبلية" للغابة، تحدد الأنواع المرشحة للتراجع، وتكشف عن احتمالات اختلال التوازن البيئي قبل وقوعه.

هذه النقلة النوعية لا تمثل مجرد إنجاز أكاديمي، بل تحمل انعكاسات عملية هائلة. فإذا تمكنا من التنبؤ بمستقبل الغابات، فسيكون في وسع صانعي السياسات توجيه جهود الحماية والتشجير إلى الأنواع الأكثر هشاشة، وتطوير استراتيجيات وقائية ضد الأمراض والآفات، بل وحتى إعادة تصميم إدارة الغابات بما يضمن استدامتها لعقود وقرون مقبلة.

لكن في المقابل، تطرح هذه النماذج أسئلة عميقة حول حدود العلم وأخلاقياته. فهل يكفي التنبؤ لاتخاذ قرارات مصيرية؟ وماذا لو انحازت البيانات إلى غابات مدروسة في الشمال العالمي بينما تترك غابات الجنوب، مثل الأمازون أو الكونغو، بلا تمثيل كاف؟ وكيف يمكن التوفيق بين المعرفة العلمية وحقوق المجتمعات المحلية التي تعيش في قلب هذه الغابات؟

ديناميات الغابات

هناك العديد من التعقيدات في أي نموذج للتنبؤ بمستقبل الغابات، فالغابة، على بساطتها الظاهرة للعين المجردة كمساحة خضراء ممتدة، هي في الحقيقة منظومة إيكولوجية متشابكة تتداخل فيها مستويات التنظيم من الجزيئي إلى الكوكبي.

أول ما يواجه الباحث في دراسة الغابات هو التعقيد الهائل لتنوع العوامل المؤثرة في بقاء الأنواع وتوزيعها. فالأشجار لا تنمو في فراغ، بل في بيئة تتغير باستمرار على مستويات متداخلة، بدءا من المناخ وما يحمله من تذبذب في الأمطار ودرجات الحرارة والرطوبة وتكرار موجات الجفاف أو الصقيع، مرورا بالتربة بخصائصها الكيميائية والفيزيائية وقدرتها على الاحتفاظ بالماء ومحتواها العضوي، وصولا إلى الضوء الذي يحدد مصير الأنواع المحبة للشمس أو الظل، فضلا عن التنافس بين الأشجار نفسها على الموارد المحدودة وتأثير الأمراض الفطرية والحشرات والحيوانات العاشبة التي تلتهم الشتلات، مما يجعل كل متغير متشابكا مع الآخر في شبكة معقدة يصعب معها حسم العامل الأكثر مسؤولية عن تراجع نوع أو ازدهار آخر.

الغابات الاستوائية الكثيفة والتكنولوجيا البيئية.

الغابة نظام بطيء الحركة مقارنة بغيره من الأنظمة البيئية. فالأشجار قد تحتاج لعقود حتى تنضج، وبعضها يعيش لقرون. وهذا يعني أن أي دراسة قصيرة المدى قد تعطي صورة مضللة عن الاتجاهات الطويلة الأمد. على سبيل المثل، زيادة مؤقتة في نوع معين من الأشجار قد تبدو مؤشرا الى ازدهاره، لكنها في الواقع مجرد "فقاعة زمنية" ستختفي مع دورة حياة الجيل التالي.

هذا البعد الزمني جعل العلماء يعتمدون على مشاريع طويلة الأجل تمتد لعشرات السنين، مثل شبكة "فورست جيو" التابعة لمؤسسة سميثسونيان، التي تتابع اليوم أكثر من 70 موقعا حول العالم. لكن هذه الجهود باهظة التكلفة وتتطلب أجيالا من الباحثين، وهو ما يحد من إمكان تكرارها على نطاق واسع.

من أكبر الثغرات في النماذج السابقة أنها اعتمدت على المعطيات الظاهرية فقط مثل عدد الأشجار، وأحجامها، ونموها السنوي لكنها أغفلت البعد الجيني الذي يمثل التاريخ التطوري للأنواع

تقليديا، كانت دراسة الغابات تعتمد على التعداد الميداني للأشجار. يقيس الباحثون قطر الجذوع، وارتفاع الأشجار، ومواقعها الجغرافية، ثم يكررون العملية كل بضع سنوات لرصد التغيرات. ورغم دقة هذه الطريقة، إلا أنها تستهلك وقتا وجهدا هائلين. كما أنها تظل سطحية نسبيا، لأنها لا تكشف شيئا عن التركيب الجيني أو القدرات التطورية الكامنة في الأنواع. كما أن جمع البيانات في الغابات الاستوائية أو الجبلية يعد مغامرة محفوفة بالأخطار تتمثل في صعوبة الوصول، والظروف المناخية القاسية، وخطورة التعامل مع الحياة البرية.

ليست كل الغابات متشابهة. فالغابة الاستوائية المطيرة في الأمازون تضم آلاف الأنواع من الأشجار في الهكتار الواحد، بينما قد تحتوي الغابات الشمالية الباردة على عشرات الأنواع فقط. هذا التباين يجعل تعميم النتائج أمرا بالغ الصعوبة. فالنموذج الذي ينجح في غابة معتدلة المناخ قد يفشل تماما في غابة مدارية، والعكس صحيح.

يضاف إلى ما سبق، التحدي الأكبر في عصرنا وهو التغير المناخي. فارتفاع درجات الحرارة وزيادة موجات الجفاف والحرائق لا تغيران فقط ديناميات الغابة الحالية، بل يعيدان تشكيل مستقبلها بطريقة يصعب التنبؤ بها. على سبيل المثل، بعض الأنواع التي اعتادت النمو في مناطق معينة قد تجد نفسها غير قادرة على البقاء مع ارتفاع الحرارة درجتين أو ثلاث درجات.

المشكلة أن هذه التحولات المناخية تحدث بسرعة غير مسبوقة، أسرع من قدرة الأنواع على التكيف التطوري الطبيعي. بالتالي، فإن النماذج التي لا تدمج البعد المناخي في حساباتها تصبح غير دقيقة.

ثغرات النماذج السابقة

من أكبر الثغرات في النماذج السابقة أنها اعتمدت على المعطيات الظاهرية فقط مثل عدد الأشجار، وأحجامها، ونموها السنوي. لكنها أغفلت البعد الجيني الذي يمثل التاريخ التطوري للأنواع. فالجينات هي السجل الذي يحكي قصة قدرة النوع على التكاثر والبقاء، وعلى مواجهة الضغوط البيئية. من دون هذا البعد، كانت النماذج أشبه بمحاولة قراءة كتاب من صفحته الأخيرة فقط، دون معرفة ما جرى في الفصول السابقة.

ولا يمكن إغفال أثر الإنسان المباشر الذي يقطع الأشجار، ويشق الطرق، ويتوسع زراعيا، ويقوم بنشاطات التعدين، وحتى السياسات الاقتصادية. تحدث هذه العوامل اضطرابا في النظام البيئي لا يمكن أي نموذج طبيعي أن يتوقعه ما لم يدمج البعد الاجتماعي-الاقتصادي.

لذا بحث علماء البيئة عن أدوات أكثر ذكاء، قادرة على التعامل مع هذا الكم الهائل من المتغيرات. ومع الثورة الجينومية التي شهدها العقدان الأخيران، بدا أن الحل يكمن في دمج البيانات الوراثية مع التعداد الميداني، لصوغ صورة أكثر تكاملا عن الغابة.

هنا تبرز الدراسة الحديثة كخطوة نوعية لم تكتف بزيادة حجم البيانات، بل غيرت زاوية النظر نفسها. فبدلا من مراقبة الأشجار من الخارج فقط، حاولت الاستماع إلى "سجلها الداخلي" المخزن في الحمض النووي، وتعني هذه النقلة أن المستقبل لم يعد يعتمد فقط على ما نراه اليوم، بل على ما يحمله الماضي الوراثي في طياته.

ولادة النموذج الجديد

حين ننظر إلى تاريخ دراسة الغابات، نجد أن معظم النماذج التي طورها العلماء اعتمدت على مبدأ واحد: راقب ما هو ظاهر أمامك. فالعلماء كانوا يحصون الأشجار، ويقيسون أطوالها، ويسجلون أقطار جذوعها، ثم يقارنون النتائج عبر الزمن. لكن هذه الطريقة، رغم قيمتها، ظلت محدودة، لأنها تشبه متابعة صحة إنسان بمجرد مراقبة وزنه وطوله دون النظر إلى فحوص الدم أو الجينات التي تحمل سر أمراضه.

أمضى البروفسور جيمس أودواير من جامعة إلينوي في أوربانا-شامبين فترة طويلة يحاول أن يجيب عن سؤال أساس: لماذا تستمر بعض الأنواع في الغابة بينما تختفي أخرى؟

التنوع الوراثي أشبه بجهاز تسجيل مخفي يروي القصة الحقيقية لتاريخ النوع داخل الغابة

جيمس أودواير من جامعة إلينوي في أوربانا-شامبين

في أبحاثه السابقة، طور أودواير وزملاؤه نموذجا رياضيا يعتمد على ما يُعرف بـ"الصفات الحياتية" للأنواع، مثل سرعة النمو، ومعدل التكاثر، ومتوسط العمر. ومن خلال هذه البيانات، تمكن الفريق من حساب ما أطلقوا عليه الحجم السكاني الفعال، أي عدد الأفراد القادرين فعليا على تمرير جيناتهم إلى الأجيال التالية.

كانت الفكرة ثورية، ليس المهم كم عدد الأشجار التي نراها في الغابة، بل كم عدد الأشجار التي تساهم بجيناتها في بقاء النوع. هذه النقلة النظرية فتحت بابا لفهم ديناميات التعايش بين الأنواع المختلفة داخل الغابة.

لكن رغم نجاح النموذج الأولي، ظهرت مشكلة كبرى. للحصول على بيانات دقيقة عن الصفات الحياتية، كان على الباحثين متابعة كل نوع من الأشجار لعقود، يرصدون معدلات نموه، وتكاثره، وموته. هذا الأمر غير واقعي في معظم الغابات، خصوصا في العالم النامي حيث تفتقر الدراسات الطويلة الأمد إلى التمويل أو البنية التحتية.

REUTERS
يعمل أفراد من الدفاع المدني السوري، المعروفين باسم "الخوذ البيضاء"، على إخماد حريق هائل مشتعل في منطقة غابات، في ريف اللاذقية، سوريا

من هنا جاء السؤال: هل يمكن أن نجد بديلا أسرع وأدق من مراقبة الصفات الظاهرية لعقود؟ وهل هناك "لغة" أخرى يمكن أن تكشف عن تاريخ النوع وقدرته على البقاء؟

الإجابة جاءت من التطور السريع في علوم الجينوم. فبفضل تقنيات التسلسل الجيني، أصبح في الإمكان جمع بيانات وراثية من مئات الأفراد في فترة زمنية قصيرة. هنا تدخل البروفسور آندي جونز من جامعة ولاية أوريغون، الذي قاد مشروعا لجمع عينات جينية من ثمانية أنواع من الأشجار تشكل نحو 90٪ من الكتلة الحيوية في غابة "ويند ريفر" بولاية واشنطن.

لم يكن الهدف تسلسل الجينوم الكامل لكل شجرة، بل الحصول على عينات من جينات مختارة تكفي لعكس الأنماط التطورية المهمة. الفرضية كانت بسيطة لكنها عميقة، فالجينوم يحمل في طياته ذاكرة النوع – فهو يسجل التغيرات، والتحولات، والنجاحات والإخفاقات في التكاثر عبر مئات السنين.

دمج الفريق البحثي بين بيانات التعداد الميداني التي شملت إحصاء كل الأشجار التي يزيد قطر جذعها على سنتيمتر واحد في الغابة عام 2011، وبين البيانات الجينومية التي استندت إلى تحليل قرابة مئة فرد من كل نوع من الأنواع الثمانية الرئيسة، ثم قام بمواءمة هذه النتائج داخل النموذج الرياضي الذي طوره أودواير سابقا، وجاءت النتيجة لافتة إذ لم يقتصر النموذج على وصف الماضي بدقة، بل أثبت قدرته على التنبؤ بمستقبل الغابة أيضا.

حين تمت مقارنة نتائج النموذج مع التعدادات اللاحقة في عامي 2016 و2021، تبين أن توقعاته حول تراجع أو زيادة أعداد بعض الأنواع كانت مطابقة تقريبا للواقع. وفاقت هذه الدقة ما قدمته النماذج القديمة التي اعتمدت فقط على الصفات الحياتية أو على التعدادات الميدانية، وقد عبر أودواير عن ذلك قائلا: "التنوع الوراثي أشبه بجهاز تسجيل مخفي يروي القصة الحقيقية لتاريخ النوع داخل الغابة."

النقطة الجوهرية في هذا النموذج هي مفهوم الحجم السكاني الفعّال. فعدد الأشجار المرئية في الغابة قد يوحي بكثرة النوع، لكن إذا كان معظمها لا ينجح في التكاثر، فإن هذا النوع في خطر. والجينات هنا تكشف الحقيقة، فما الذي ينقل صفاته إلى الجيل التالي، وما الذي ينتهي دوره مع موته؟

يقوم النموذج الجديد على الجمع بين قوة البيانات الجينية وعمق البيانات البيئية عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة

بهذا الدمج بين التعداد المرئي والسجل الوراثي، انتقل الباحثون من الاعتماد على الملاحظة الخارجية البطيئة إلى الاستفادة من البيانات الداخلية العميقة. يمكن القول إننا أمام تحول جذري في علم الإيكولوجيا، شبيه بما أحدثه دخول تقنيات الأشعة السينية في الطب وأدت لرؤية ما هو مخفي تحت السطح.

هذا النموذج لا يقتصر على غابة "ويند ريفر"، بل يمكن تكييفه ليستخدم في غابات أقل دراسة أو ذات موارد محدودة. فحتى بمجرد تعداد واحد وجمع عينات جينية لمرة واحدة، يمكن النموذج أن يعطي صورة مستقبلية عن مصير الأنواع.

وهذا ما يجعل الإنجاز ذا قيمة تطبيقية هائلة، فلم يعد الحفاظ على الغابات يتطلب عقودا من الرصد المستمر، بل يمكن الحصول على مؤشرات موثوق بها خلال سنوات قليلة، وهو ما يختصر الوقت والمال والجهد.

غير أن هذه الجهود البحثية، مهما بلغت دقتها، ستظل محدودة التأثير ما لم تترجم إلى سياسات عامة جريئة، تتبنى صون الغابات بوصفه أولوية وطنية ودولية. فالتحذير هنا لا يقتصر على فقدان نوع نباتي أو شجري، بل يمتد إلى انهيار شبكات الحياة التي تعتمد عليها مجتمعات بشرية بأكملها، من الأمن الغذائي إلى المياه العذبة والاستقرار المناخي، وتجاهل ما تكشفه هذه النماذج من مؤشرات مستقبلية يعني أن نترك مصير الأرض مرهونا بقرارات قصيرة النظر، وأن ندفع الأجيال القادمة ثمن تهاوننا اليوم.

ويرى العلماء أن النموذج الجديد ليس مجرد ابتكار علمي، بل إنذار سياسي، يدعونا إلى إعادة صوغ علاقة الإنسان بالغابة على أسس من الرؤية الاستباقية، والتخطيط الطويل المدى، وإرادة سياسية تضع البيئة في صدارة القرارات الاقتصادية والتنموية. فالغابة ليست مخزنا للأخشاب فحسب، بل درع واقية للحياة، ومجرد خطوة متأخرة في حمايتها قد تتحول إلى خسارة لا تعوض.

font change