حين يلتفت المؤرخ الإسباني أميركو كاسترو (1885-1972) إلى تاريخ بلاده، لا يرى صورة نقية أو خطا مستقيما، بل نسيجا متشابكا صنعته أديان وثقافات ثلاث: المسيحية والإسلام واليهودية. عاش كاسترو زمنا مضطربا، شهد سقوط الملكية وصعود الجمهورية، ثم الحرب الأهلية وسطوة فرانكو، وكان يسعى في مؤلفه الأشهر "إسبانيا في تاريخها: المسيحيون والمسلمون واليهود" (1948) إلى أن يجد لإسبانيا وجها آخر غير الوجه القومي المتزمت. فإسبانيا عنده لم تولد من دم القوط وحدهم، بل تشكلت في الأندلس، حيث قامت تجربة إنسانية فريدة أطلق عليها اسم "التعايش" (La Convivencia).
هذا المفهوم لم يكن دعوة رومانسية إلى ماض ذهبي، بل محاولة لفهم سر الهوية الإسبانية. رأى كاسترو أن المسلمين حين بسطوا سلطانهم على الأندلس لم يعزلوا المسيحيين واليهود عزلا تاما، بل أفسحوا لهم مجالا للعيش والعمل والعبادة، وإن كان ذلك مشروطا بنظام "أهل الذمة" وبالجزية وما تقتضيه من قيود محدودة. غير أن ما يهمه لم يكن الجانب الفقهي وحده، بل الثمرة الحضارية التي خرجت من هذا التلاقي: لغة إسبانية محملة بآلاف المفردات العربية، وشعر موشح وزجل يجمع بين العربية والرومانسية، ومراكز ترجمة نقلت كنوز الفلسفة والعلوم من العربية إلى اللاتينية، فمهدت الطريق للنهضة الأوروبية.
أكثر الأمثلة التي استوقفته كانت فئة "المستعربين" (Mozárabes): مسيحيون عاشوا في ظل الحكم الإسلامي وتبنوا العربية في حياتهم اليومية وحتى في طقوسهم الكنسية. كتبوا صلواتهم بالعربية، وغنوا بها، فكانوا صورة ملموسة عن ذلك التهجين الثقافي الذي جعل من الأندلس ملتقى حضاريا غير مسبوق. وحتى بعد سقوط غرناطة، بقيت أصداء الأندلس في العمارة والموسيقى والذائقة اليومية.
لكن أطروحة كاسترو أثارت عاصفة فكرية، فقد هاجمه المؤرخ كلوديو سانشيث ألبورنوثي، أحد أبرز ممثلي المدرسة القومية الإسبانية، معتبرا أن الهوية الإسبانية "نقية" في أصلها، وأن القوط هم الأساس الذي لا يجوز التشكيك فيه. أما كاسترو فكان يصر على أن إسبانيا ولدت من التعدد، وأن محاولة تنقية هويتها من أثر الإسلام واليهودية لا تعني سوى بتر جزء حي من تاريخها. وبين هذين الصوتين انقسم المؤرخون، فمنهم من رأى في "التعايش" مبالغة، لأن التاريخ لم يخل من الصراع والعنف والتمييز، ومنهم من وجد فيه مفتاحا لفهم سر الخصوصية الإسبانية.
ما يجعل أطروحة كاسترو ذات قيمة أنها تكشف عن عمق الأثر الذي تركته الثقافة الإسلامية في الأندلس، والذي لم يمح بانتهاء الحكم ولا بزوال المؤسسات السياسية
النقد الأشد الذي وجه إلى كاسترو هو أنه بالغ في تجميل الصورة، فالتاريخ الأندلسي لم يكن دائما وديعا، إذ شهد ثورات مسيحية، وتمييزا قانونيا منع غير المسلمين من الوصول إلى المناصب العليا أو بناء دور عبادة جديدة إلا بإذن. لكن كاسترو لم ينكر هذه الوقائع، بل وضعها في سياق أوسع: فالتعايش عنده ليس غياب الصراعات، بل القدرة على إنتاج ثقافة مشتركة رغم وجودها. هو أشبه ما يكون بموسيقى مركبة، يدخل فيها نشاز وتوتر، لكن جمالها يخرج من مجموع الأصوات لا من نقائها لوحدها.
إن ما يجعل أطروحة كاسترو ذات قيمة أنها تكشف عن عمق الأثر الذي تركته الثقافة الإسلامية في الأندلس، والذي لم يمح بانتهاء الحكم ولا بزوال المؤسسات السياسية، بل ظل يسري في صميم الهوية الإسبانية. فإسبانيا مدينة للأندلس في لغتها التي امتلأت بآلاف الألفاظ العربية في الفلاحة والطب والفلك والهندسة، حتى صار القاموس القشتالي خزانا لتراث عربي دفين. وهي مدينة للأندلس في عمرانها الذي لم يقتصر على قصر الحمراء ومسجد قرطبة، بل على أنماط بناء البيوت، والزخارف الهندسية، وفنون الحدائق التي ما زالت تميز مدن الأندلس حتى اليوم.
وعلى مستوى الفكر، يكفي أن نستحضر حركة الترجمة الكبرى في طليطلة، حيث نقلت كتب الفلاسفة والأطباء والرياضيين من العربية إلى اللاتينية، فلم تدخل أوروبا عصر نهضتها من فراغ، بل عبر هذا الجسر الأندلسي. وما تزال أسماء ابن حزم وابن رشد وابن طفيل والزهراوي وابن البيطار تذكر في تاريخ الفلسفة والطب والنبات، لا باعتبارهم علماء مسلمين فقط، بل كجزء من ميراث إسبانيا نفسها. وحتى المخيلة الأدبية الإسبانية، التي أنجبت دون كيخوته، تجد جذورها في سرديات الموشحات والأزجال والقصص الشعبية الأندلسية.
الأندلس التي يستحضرها كاسترو ليست صورة مثالية ولا حلما ضائعا، بل تجربة بشرية واقعية، امتزج فيها الصراع بالتعاون، والعنف بالإبداع، لكنها أنتجت في النهاية هوية لا يمكن ردها إلى أصل واحد، فالهوية الإسبانية، في نظره، لا تتركز في عرق القوط، ولا ثقافة الإسلام، إنما هي لقاء تاريخي طويل بين المسيحيين والمسلمين واليهود. فالحضارات مهما تنازعت، تترك وراءها ما يتجاوز السياسة والجيوش، تترك لغة وذائقة وعلما وخيالا، لا يستطيع الزمن محوه.
لكن بالنظر إلى ما وراء إسبانيا، يتضح لنا أن مشهد الأندلس آنذاك لم يكن مألوفا لأوروبا المسيحية في العصور الوسطى؛ فالممالك الأوروبية لم تكن قادرة على استيعاب الاختلافات الداخلية بين الكاثوليك والبروتستانت، فكيف بوجود أديان متجاورة في كيان واحد. كان النموذج الأندلسي صدمة حضارية للأوروبيين، ومحط ذهول ودهشة وإعجاب أو نفور وكره. مجتمع يتجاور فيه المسلم والمسيحي واليهودي، ويتشاركون الحقوق والواجبات، بل قد يصل اليهودي أو المسيحي لأعلى المناصب في مجتمع غالبيته من المسلمين، ويكون راعيا لمصالح الجميع.
درس "التعايش الأندلسي" وضع البذور الأولى لمفهوم "المواطنة" الذي سيجد صداه لاحقا في فلسفات لوك وروسو ومونتسكيو، ويقود نحو ظهور الدولة الحديثة
إنه نموذج غريب جدا على نسيج المجتمعات الأوروبية، لكنه استطاع أن يفرض نفسه، ويتسلل نحو الوعي الأوروبي الذي بدأ يطرح الأسئلة حول إمكانية وجود مجتمع متعدد الأديان، وبدأ يبحث في مفهوم المجتمع المدني، ويناقش أفكار العقد الاجتماعي، ونظريات الحق الطبيعي، وحقوق الإنسان.
لهذا لن يكون من قبيل المبالغة القول إن درس "التعايش الأندلسي" وضع البذور الأولى لمفهوم "المواطنة" الذي سيجد صداه لاحقا في فلسفات لوك وروسو ومونتسكيو، ويقود نحو ظهور الدولة الحديثة.