عبد الله الحواس لـ"المجلة": الكتابة ليست وظيفة بل حياة ممتدة

النهضة الثقافية في المملكة منحت هذا الجيل فرصا لا متناهية لخوض غمار الكتابة

الروائي السعودي عبد الله الحواس

عبد الله الحواس لـ"المجلة": الكتابة ليست وظيفة بل حياة ممتدة

تأتي الكتابة عند الروائي السعودي عبد الله الحواس كحالة من الإنصات للداخل والاستجابة له، لينسج من بعدها الأحداث بتأن شديد، وذلك منذ بداياته مع رواية "تلهف حبا" 2015 ثم "أنبوب" في 2017 وأخيرا "الأشهب" في 2021.

لا يكتفي الحواس بالكتابة الروائية بل يطل على الجمهور عبر "بودكاست سنارة"، ومن خلاله يطرح مواضيع متنوعة تلامس القضايا والمشاعر الإنسانية العميقة. وإلى جانب هذا، يمارس عمله اليومي كرئيس المكتبة في "مركز إثراء الثقافي". عن هذه الجوانب المختلفة تحدث الحواس الى "المجلة" في الحوار التالي.

نشرت في 2015 روايتك الأولى "تلهف حبا"، هلا حدثتنا عن بداية علاقتك بالكتابة الروائية، ومن أبرز الكتاب الذين تأثرت بتجاربهم؟

البداية مع الكتابة الروائية لم تكن قرارا واعيا بقدر ما كانت استجابة لحاجة داخلية. كنت أبحث عن طريقة لفهم ذاتي والعالم من حولي. روايتي الأولى "تلهف حبا" خرجت من تلك الحاجة، كأنها محاولة أولى لاختبار اللغة بوصفها ملاذا. أما عن الكتاب الذين أثروا فيّ، فكل كاتب قرأت له ترك في نفسي شيئا، فمثلا كان لعبد الرحمن منيف أثر بالغ في فهم علاقة الأدب بالتحولات الكبرى، بينما أخذت من المنفلوطي دهشة اللغة وحسها الشعري، وأحببت لدى أمين معلوف مزجه للتاريخ بالحاضر وللأسطورة بالإنسان. لكن في النهاية، يظل الهدف أن أجد صوتي الخاص، ولو جاء في البداية همسا بين أصوات أعلى.

لماذا حلب؟

بين رواياتك الثلاث الصادرة الى الآن، فترات زمنية متباعدة، فلماذا أنت مقل بالإصدارات؟

لا أتعامل مع الكتابة بمنطق الكم أو سرعة التراكم، بل أراها فعلا يحتاج إلى نضج طويل وتأمل أعمق. المسافة الزمنية بين رواياتي ليست فراغا، بل هي جزء من العملية الإبداعية.

في النهاية يظل الهدف أن أجد صوتي الخاص، ولو جاء في البداية همسا بين أصوات أعلى

أحتاج إلى أن أنضج شخصيا أولا قبل أن يولد النص. أحيانا يكون الصمت أبلغ من أي إصدار متعجل. لذلك أقبل أن يقال عني إني مقل، لأن الكتابة عندي ليست وظيفة بل حياة ممتدة، ولدينا شواهد كثيرة عن كتاب عالميين أمضوا فترات طويلة أو متباعدة في إنتاجاتهم لكن أثرهم باق.

لماذا اخترت من حلب وأبوابها التسعة مسرحا لأحداث روايتك الأخيرة "الأشهب"؟

لا بد أن أذكر أولا أنني لم أزر حلب قط. لكنني أردت أن أخوض تحديا في وصف مكان برمته من القراءات المتراكمة والصور المنشورة لها. حلب الشهباء مدينة تاريخية عريقة، وهي في حد ذاتها نص مفتوح على التأويل. أبوابها التسعة ليست مجرد مداخل حجرية، بل رموز للحياة والموت والذاكرة والهوية. في "الأشهب" أردت ألا تكون حلب مسرحا للأحداث فحسب، بل شخصية ثالثة إلى جانب الشخصيات الأخرى، لها حضورها ووقعها وجرحها. حلب اختصار لجدلية الانكسار والقدرة على النهوض، وهي في هذا المعنى أكثر من مجرد مكان: إنها مرآة لإنسان يبحث عن ذاته وسط التاريخ.

غلاف رواية "الأشهب"

ما الفكرة التي أردت إيصالها من خلال اختيارك العديد من الصفات التي تبدو متناقضة أحيانا لشخصية "الأشهب" الرئيسة؟ 

الأشهب شخصية لا يمكن أن تختزل بسهولة، جمعت فيه كل التناقضات الممكنة التي يمر بها إنسان بماض وحاضر معقدين. الجبن والإقدام، التحرر والتزمت، الانتماء والبراء، والالتزام والتمرد في آن واحد.

حلب اختصار لجدلية الانكسار والقدرة على النهوض، وهي في هذا المعنى أكثر من مجرد مكان

أردت أن أقول إن الإنسان ليس كتلة متجانسة، بل كائن متناقض تتجاور داخله الصفات التي قد يظن الناس أنها متنافية. في مجتمعات تميل إلى تصنيف الفرد بسرعة، كان من المهم أن أخلق شخصية تقاوم هذا التصنيف، وتبقى عصية على الفهم المباشر.

ضجيج الكتابة

طرح عليك ذات مرة سؤال مفاده "هل يمكن التاريخ أن يخرج من التجريد ويصبح ملموسا"، من وحي تجربتك كيف تجيب عنه الآن؟ 

أعتقد أن هذا السؤال طرحه أحد القراء خلال مراجعته للرواية، وهو سؤال جيد ينم عن فهم ووعي من قبل القارئ. ولو أردت أن أجيب عنه لاحتجت إلى الكثير من الشرح. ولكن لا يمكن التملص من التاريخ عموما. كنت أبحث عن إمكان استعادة التاريخ بوصفه حياة نابضة، لا مجرد وقائع جامدة. التاريخ في نظري هو أصوات الأسواق، وروائح المدن القديمة، وخطوات الأجداد على طرق مطموسة. هو الضمير الحي للإنسان، وليس فقط سطور الكتب. الرواية هنا محاولة لإخراج التاريخ من بروده الأكاديمي إلى دفئه الإنساني.

غلاف رواية "أنبوب"

عملت في راويتك الثانية "أنبوب" على فكرة القدرة على تغيير الواقع، هل تعتقد أن الرواية يمكن أن تحدث تغييرا؟

حين أعكف على عمل روائي لا أفكر في ما يمكن أن تغيره الرواية في الواقع، فلا أحبذ تحميل الرواية أكبر مما تحتمل. وعلى مدى التاريخ، هنالك كتب كثيرة أحدثت ضجة كبرى وأصبحت إما معاول هدم أو طوب بناء دون قصد مباشر من كتابها. 

إدارة المكتبة ليست وظيفة إدارية بقدر ما هي مسؤولية ثقافية تجاه الحاضر والمستقبل

 

رواياتي لا تحاول تغيير معادلات كبرى، لكنها قادرة على إحداث ضجيج داخلي قد يساهم في تغيير الفرد. فحين يتغير القارئ، ولو في نظرته الى العالم، فإن جزءا من الواقع يتغير. الرواية تمنح الإنسان وعيا جديدا، وهذا الوعي هو الشرارة الأولى لأي تحول، فهي فرصة لإعادة طرح الأسئلة، والتشكيك في ما اعتدناه كمسلمات.

مرآة الأسئلة

ما الذي تطمح إليه من خلال كتابتك الروائية التي طرحت فيها أفكارا تتمرد على الواقع؟

لا أعتقد أن التمرد على الواقع هو سمة لكتاباتي. فأنا أستطيع أن أتقبل الواقع كما هو، وأن أتكيف معه. التمرد في نصوصي ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لفتح الأفق على احتمالات أخرى عبر شخصيات مختلفة. ما أطمح إليه هو أن يجد القارئ في نصوصي مرآة لأسئلته الداخلية، وأن يكتشف أن التغيير ممكن حتى لو بدأ بفكرة صغيرة أو بنظرة مختلفة. الكتابة في جوهرها مقاومة للجمود.

الروائي السعودي عبد الله الحواس

إلى جانب القضايا الأدبية، تطرح قضايا اجتماعية وفكرية عبر بودكاست "سنارة"، حدثنا عن تجربة "البودكاست" وهل هي عالم مستقل بالنسبة إليك أم أنها مرتبطة بمشروعك الأدبي؟

"سنارة" تجربة مختلفة، لكنها ليست منفصلة عن مشروعي الأدبي. هي نافذة صوتية أطرح فيها قضايا اجتماعية وفكرية تؤرقني، لكن بروح أكثر آنية وحوارية. إذا كانت الرواية فعل تأمل بطيء، فإن "البودكاست" هو تواصل مباشر مع المستمع، حوار حي يلتقط اللحظة. كلاهما يغذي الآخر: الأدب يمنح "البودكاست" عمقه، و"البودكاست" يعيدني إلى نبض الشارع والناس.

كان بودي لو استطعت أن أستمر فيه أكثر، لكن انشغالي بالعمل الثقافي ومشاريع الكتابة جعلني أتوقف قسريا عن متابعة إنتاجه.

مكتبة "إثراء"

هلا حدثتنا عن الأمور التي توليها اهتمامك عبر عملك كرئيس للمكتبة في مركز "إثراء" الثقافي؟

قد يظن البعض أنني محظوظ لأنني محاط بهذه الكتب التي ألتقيها كل صباح. لكن العمل الإداري سلبني الاستمتاع بكل هذه المعارف المتنوعة، فقررت النظر الى الأمر من زاوية أخرى تجعلني أصنع الأثر الإيجابي للآخرين. عملي في مكتبة "إثراء" هو امتداد لفكرة أؤمن بها: أن المكتبة ليست مجرد رفوف كتب فقط، بل فضاء حي للتفاعل.

هذه اللحظة التاريخية التي تعيشها المملكة استثنائية، وأعتقد أننا سنجني ثمارها على مدى عقود مقبلة

أهتم بأن تكون القراءة تجربة شخصية للجميع نابضة بالحياة، لا مجرد عادة ثقافية. لذلك نعمل على أن تكون المكتبة مكانا للدهشة والاكتشاف، تعيد الى القارئ علاقته الحميمة بالنصوص. إدارة المكتبة هنا ليست وظيفة إدارية بقدر ما هي مسؤولية ثقافية تجاه الحاضر والمستقبل.

غلاف رواية "تلهف حبا"

كيف تنظر إلى تجربة الكتاب السعوديين الشباب اليوم، وهل بات أفق الإبداع مفتوحا أكثر خلال النهضة الثقافية التي تشهدها المملكة؟

الكتاب السعوديون الشباب اليوم يحظون بثقة لم تكن موجودة في السابق. النهضة الثقافية التي تشهدها المملكة فتحت الأفق، ومنحت هذا الجيل فرصا لا متناهية لخوض غمار الكتابة بشتى أنواعها. صار لدينا تنوع في الأصوات، وتعدد في الأشكال، وإقبال على التجريب. هذه اللحظة التاريخية التي تعيشها المملكة استثنائية، وأعتقد أننا سنجني ثمارها على مدى عقود مقبلة.

هل تعمل على مشروع أدبي جديد؟

نعم. أعمل على مشروع روائي جديد واضعا لمساتي الأخيرة عليه. كل ما أستطيع قوله إنه سيذهب أكثر في اتجاه الذاكرة المحلية، وسيحاول أن يلتقط تفاصيل منسية في حياتنا اليومية. بالنسبة إلي، النص يولد حين يكتمل داخلي أولا، ثم يخرج الى القارئ. لذلك أتعامل معه كرحلة طويلة لا تقبل الاستعجال.

font change