أميمة الخميس لـ "المجلة": الكتابة تناهض الفناء

أجمل جزء من القصة يكتمل في مخيلة القارئ

أميمة الخميس لـ "المجلة": الكتابة تناهض الفناء

أميمة الخميس، أول سعودية تفوز بجائزة نجيب محفوظ عن روايتها "مسرى الغرانيق"، التي دارت أحداثها في مرحلة حساسة من التاريخ العربي والإسلامي وتحديدا القرن الرابع الهجري الذي يطلق عليه "زبدة الحقب". بسرد جمع بين التخييلي والتاريخي، تكمل الخميس ومن خلال حكاية "العمة آل مشرق"، سرد التحولات التاريخية التي حصلت في السعودية، مرورا بالبحرين وصولا لنيويورك، عبر قرن من الزمن.

اختيرت روايتها "البحريات" الصادرة في العام 2006 للترجمة للغة الصينية، ضمن مشروع ترجمة الأدب السعودي الذي تشرف عليه وكالة "كلمات". هنا حوار معها.

اتجه بطل روايتك "مسرى الغرانيق في مدن العقيق" بداية إلى بيت الحكمة في بغداد، ليكمل في مساره إلى القدس فالقاهرة ثم القيروان وانتهاء في الأندلس، كيف يمكن أن نقرأ هذه الوجهة لـ "مزيد الحنفي" في ظل المشهد الثقافي الحالي للمنطقة العربية؟

مثّل بيت الحكمة في القرن الرابع الهجري في بغداد مغامرة هائلة للعقل، فترجم أمهات كتب الفلسفة الإغريقية والسريانية والهندية، وكان حاضنة متوهجة للأفكار والفلسفات التي بدأت، نتيجة هذا الحراك الفكري الكبير ورعاية الخلفاء لها، تنضج وتتبلور وينعكس أثرها على التيارات والمذاهب الفكرية في بغداد، فاستقلت المذاهب الفقهية الأربعة، بمضمونها الفكري ونشاطها الفقهي، وظهرت فرقة المعتزلة التي جعلت من العقل إماما لها، وجماعة أخوان الصفا التي فضلت أن تظل تحت أرضية، خشية الهراوة الفقهية.

الرواية بحاجة إلى منعطف وجودي كبير يقذف بالأحداث إلى أرض العجائب، ويمطر فوقها ممكنات الدهشة

المفارقة المحزنة أنه بعد ألف عام من هذا الحراك الفكري المتوقد، والذي سبق عصر النهضة التنويري الأوروبي بألف عام، ما برح الشرق الأوسط الحزين يعيش زمن الخرافة.

رواية مسرى الغرانيق في مدن العقيق

تحولات

تأخذنا رواية "عمة آل مشرق" إلى التحولات والتغيرات الكبرى، انتقالا من الرياض، إلى المنامة وحتى نيويورك، بين عمق زمني يمتد لمائة عام وخيال بهي صنع الحكاية، حدثينا عن هذه الرواية؟

في لحظة معينة من السرد، لابد من حدوث الانعطافات الكبرى التي تبعثر انتظام السرد وتخلخل توقعات ليس القارئ فقط بل أيضا الروائي. هي اللحظة التي صفع فيها موت أنكيدو وجه جلجامش، فمضى يصنع ملحمته وينازل الموت بحثا عن عشبة الخلود، واللحظة التي قرر فيها عوليس مغادرة أثيكا وزوجته الجميلة بينيلوبي، ويبحر في البحار السبعة المخيفة ليصنع ملحمته. فالرواية بحاجة إلى منعطف وجودي كبير يقذف بالأحداث إلى أرض العجائب، ويمطر فوقها ممكنات الدهشة التي تصنع منها رواية. و"عمة آل مشرق" حاكت حوارا طويلا ما بين الشرق والغرب، بداية من رحلة تبشيرية ترتدي معطف الطب تقصد نجد وسط الجزيرة العربية، وصولا لفيلم سينمائي يحاول أن يلملم أطراف الحكاية في نيويورك.

كيف تلقيت اختيار روايتك "البحريات" للترجمة للغة الصينية ضمن مشروع ترجمة الأدب السعودي، وهل هناك خصوصية للغة لدى الروائي يتطلع لترجمة روايته إليها؟

عندما أخبرتني وكيلتي الأدبية، دلال نصر من وكالة "كلمات"، بأنه وقع الاختيار على البحريات لتترجم إلى اللغة الصينية، أحسست بأنني أقف فوق سور الصين العظيم وبيدي رسالة صغيرة من قلب جزيرة العرب إلى هذا الشعب العظيم الذي يفوق تعداده المليار نسمة.وتذكرت الرواية الصينية الأخاذة "البجعات البرية" التي تدور أحداثها عبر ثلاثة أجيال من النساء، تناقلن إرثا نسائيا ثقيلا وقاسيا، فالجدة التي كانت جارية في إحدى القصور، كان لها ابنة شهدت عصر ماوتسي تونغ الصارم، بينما قررت الثالثة أن تكتب حكايتهما. ترجمة العلوم والفنون والآداب، هي أعظم قنطرة تصنعها الشعوب نحو السلام والتعايش.

رواية عمة آل مشرق

ذكورية وأنثوية

إن كان يمكن لامرأة رابعة أن تكون إلى جانب نساء روايتك "البحريات"، اللاتي قذف بهن البحر إلى الصحراء وتوغلن في هذه البيئة وحكاياتها، ما الحكاية التي يمكن أن ترويها أميمة الخميس؟

أجمل جزءا من القصة هو ذلك الذي يكتمل داخل مخيلة القارئ، والبحرية الرابعة التي ستنبثق عن ذهن قارئ متمرد، لا يقبل بالنهايات المقدمة والمتاحة له، هو كذاك الطفل الذي يرفض أن تنتهي النزهة آخر النهار ويعود الجميع للمنزل، لذا سيستجلب شخصيات جديدة ستكون أشد جموحا وأغزر في تفاصيل يومياتها، وأوسع خطوات في اكتشاف أرض جديدة للدراما، تخصها هي.

لم أضع قط الممنوعات الاستفزازية هدفا لاستقطاب القراء

تعتبرين أن "السرد أرض أنثوية" كيف وبناء على ماذا تتحدد كيفية التقسيم بين ما هو ذكوري وما هو أنثوي، وهل تحافظ المرأة برأيك على هذه السمة؟

التاريخ مدونة ذكورية، تضمن بطولات الرجال وحروبهم وأشعارهم وقيم الفروسية والنزال، على حين أن أقاصيص الجدات، وتهويدات المهد، وحكايات ما قبل النوم، والقصص التي كانت تحاك بين باقات النساء، لترطيب الفراق، والتربيت على لواعج الفراق، هائلة وكبيرة، ولكنها لم تصل مدونة التاريخ الرسمية إلا لماما، وبصورة لا تتجاوز القصاصين والرواة وأصحاب المقابسات

السرد أرض أنثوية، وكل ما كتبت المرأة صفحة بلسانها، حررت أرضا كانت ترفع بيارق الذكور.

أما المرأة فهي تدير حيزها في هذا العالم من خلال الحكاية والسرد، فهي تمرر القيم، ترسم الضوابط، تسلط الضوء، تدير خشبة المسرح، تدني شخصيات وتقصي أخرى، تهدهد المهد، وتنسج فوضى العالم لتصبح حكاية.

المرأة والحرية

كم بلغت مساحة الحرية في الوقت الحاضر لك خصوصا، وللكاتبة العربية عموما في التعبير، إن كان من حيث الموضوعات أو من خلال المدى في السرد الذي يمكن أن تذهب فيه؟

الحرية كلمة نسبية وفضفاضة، وقابلة للتأويل، وإذا كانت أسقف التعبير مرتفعة على مستوى التلقي بين النخب الثقافية، فهناك باقة من التابو المحظورة التي من الصعب تجاوزها، لكن بالنسبة إلى تجربتي كامرأة كاتبة لم أضع قط الممنوعات الاستفزازية هدفا لاستقطاب القراء، أشعر بأن العملية الإبداعية غابة دامسة وشهية، أكثر اتساعا وشمولية من ركن مصارعة الممنوع.

أما زالت الكتابة مهمة شاقة على المرأة خاصة أن والدتك السيدة سهام السرحي أول امرأة تكتب في صحيفة "الجزيرة" التي أسسها والدك المؤرخ عبدالله الخميس، أي أنك عايشت تجربة الكتابة بين زمنين، التمايزات بينهما شاسعة؟

الكتابة ليست معاناة ولا أمرا شاقا، الكتابة هي التي ترتب فوضى العالم في رأسك، هي التي تناهض الفناء، هي التي تطرق البوابات الموصدة وتخضعها للمساءلة والشك، الكتابة تدلك على درب التحولات والمغامرة.

رواية البحريات

مكتسبات

كيف تنظرين إلى المكتسبات التي حققتها المرأة في السعودية وانعكاسها على قدرتها على التعريف عن نفسها دون الحاجة لآخر للتعريف بها؟

إذا أردنا أن نستعين هنا بفلسفة هيغل، أي عندما تولد الفكرة من نقيضها، ليحقق التاريخ غاياته، سنجد إن ما يحدث من مكتسبات للمرأة على مستوى المواطنة والمساحات الأوسع في دوائر صناعة القرار، والتمكين وتجلياته على أكثر من صعيد، ما هو إلا نتاج دولة مستقرة منذ قرن، قيادة مركزية قوية، وخطط تنموية متتالية كل خطة تحاول أن ترمم وتتجاوز الخطة السابقة وتتقدم مسافات أوسع.

ما نراه أمامنا هو حصاد سنوات طويلة، رافقها إرادة سياسية قوية وحازمة، جعلتها ملموسة على أرض الواقع

فما نراه أمامنا هو حصاد سنوات طويلة، رافقها إرادة سياسية قوية وحازمة، جعلتها ملموسة على أرض الواقع.

تاريخيا، مارس الأدب دورا مركزيا في التصدي لقضايا الواقع وهناك روايات أثرت في مجرى التاريخ، خلال العشرين عام الماضية هل استمر الأدب بطرق أبواب القضايا الناشئة بنفس القوة والطرح، خاصة مع ما شهدته الجغرافية العربية من تغييرات عاصفة؟

يقال بأن الشعر استشرافي تنبؤي يقف فوق حافة الزمن يستطلع القادم، على حين أن الرواية تأتي متقهقرة، فالثورة الفرنسية على سبيل المثال كانت عام 1789 واحتاج فيكتور عوغو كاتب فرنسا الأول إلى ما يقارب الثمانين عاما ليكتب روايته الشهيرة البؤساء عام 1862.

‎فالرواية تتأمل وتستبطن وترصد انعكاسات الظواهر على مجرى الأحداث والمجتمعات والأفكار، والتحولات الكبرى، لتفسر وتحلل، وليس بالضرورة أن تحمل صيغة وعظية أو تعليمية. يكفيها أن تحمل فكرة متمردة على سياق النمط وتوقد جذوة الأمل.

font change