بوتين: عن جيوبولتيك القيصر ولقاءات ترمب

بوتين: عن جيوبولتيك القيصر ولقاءات ترمب

استمع إلى المقال دقيقة

يُؤكد ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين أن الدعوة للرئيس الأميركي دونالد ترمب ما زالت مفتوحة لزيارة روسيا، تلك واحدة من انتصارات بوتين التي لا يريد إعلانها، بعد استمراره بإرهاق "الناتو" الذي يفكر بإقامة جدار صدّ دفاعي عن أوروبا ضد المسيرات التي لم يكن مصدرها إلا روسيا البوتينية.

وينتظر الرئيس الأميركي ضبط ساعة التوقيت ليحط في مطار موسكو، معلنا أن التسويات ممكنة، ومجددا قدرته على فهم القيصر العائد من التاريخ، لكن الأخير لا شيء يحتاجه ليطلبه من ترمب، فقد أمّنَ نفسه بعلاقات آسيوية ضخمة، وضَمِنَ التمويل والسيولة لحرب طويلة. فيما هدف ترمب إضافة حرب يطفئ نارها لقائمة الحرائق التي يقول إنه أخمدها.

وفي 25 ديسمبر/كانون الأول 1991 حين استقال آخر رؤساء الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، كان قرار الموت الرحيم قد أنجز لنهج اقتصادي وسياسي قسّم العالم لشطرين، وخلال العقد الأول من القرن الحادي العشرين، استعادت روسيا عافيتها، وأُجريت فيها إصلاحات جوهرية، وساهمت الكنيسة الأرثوذكسية بحشد الدعم لسياسات سيد الكرملين الجديد تحت شعار "روسيا الأم" وهو مفهوم أيديولوجي ظهر في القرن الثامن عشر، ويرمز لروسيا بوصفها الأم والروح الجماعية. وآنذاك استعادت الكنيسة حضورها ودورها بعد تهميشها وقمعها في زمن الشيوعية، وبموازاة ذلك استعاد فلاديمير بوتين حضور روسيا في الدول المجاورة ذات الثقافة الروسية مثل أوكرانيا وبيلاروسيا. كما أكد لاحقا على أن روسيا الجديدة تحافظ على القيم والأسرة، في مواجهة تسليع الغرب الرأسمالي للقيم، والسعي نحو الحرية المنفلتة التي هددت كيان الأسرة.

أدرك بوتين مبكرا أن الغرب الأوروبي والأميركي شجّع، وسعى لتفكيك الإمبراطورية الروسية، وفَهِمَ أيضا أن هذا الغرب لن يتركه يتمدد، وسيسعى إلى كبح جماح طموحه باستعادة أمجاد أسلافه الكبار أمثال بطرس الأكبر وكاترين الثانية العظيمة، ولهذا نَصَبَ لنفسه هدفا وطنيا ليعيد مركزيته في السلطة، ويتولى الحكم لأربع دورات، اتسمت بالقوة وغياب الحريات وانتشار الفساد. ومع أنه اعتمد نهجا ليبراليا في الاقتصاد، إلا أنه قاد البلاد بأسلوب الرجل الأوحد. ورفع شعار استعادة الروح الروسية بتعزيز نفوذها ومكانتها، حدث ذلك في الوقت الذي كان الغرب يحاصره ويمدّ نفوذه إلى التخوم الروسية عبر الدويلات المستقلة حديثا. وكان لا بد لسيد الكرملين من الإعلان عن نواياه.

في عام 2007 كشف بوتين أن نهجه مع الغرب سوف يتحول نحو المواجهة، وذلك ما ردده في مؤتمر ميونيخ للأمن، حيث انتقد الولايات بسبب نهجها الأحادي متسائلا ما الذي يعيشه عالم أحادي القطب؟ فأجاب بأنه يعني نوعا واحدا من المواقف، ومركزا وحيدا للسلطة والقوة وصنع القرار، ومن ثمّ "عالم واحد يوجد فيه سيد واحد".

عكس تصريح بوتين انزعاجه من سياسات الغرب في زمن العولمة، والدعم الموجه غربيا للثورات الملونة المطالبة بالديمقراطية والحريات في الدول القريبة من روسيا. واشتاط بوتين غضبا في يناير/كانون الثاني 2021 عندما دعمت الولايات المتحدة المرشح الروسي المعارض أليكسي نافالني (Alexei Navalny) في الانتخابات الروسية، التي لم تتعدّ إلا كونها حشدا شعبيا لصالح القيصر الجديد. ثم توغل في أوكرانيا وشنَّ حربا عليها في فبراير/شباط 2022.

تطور نهج بوتين الجيوسياسي عمليا بعمليات عسكرية هجومية ملموسة للرد على سياسات الغرب، عام 2008 عندما تدخل في جورجيا ودعم انفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وانتهى بضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014، في خطوة مفاجئة للغرب، ثم إعلان حرب مفتوحة على أوكرانيا ما زالت مستمرة من فبراير/شباط 2022.

في عام 2007 كشف بوتين أن نهجه مع الغرب سوف يتحول نحو المواجهة، وذلك ما ردده في مؤتمر ميونيخ للأمن، حيث انتقد الولايات بسبب نهجها الأحادي متسائلا ما الذي يعيشه عالم أحادي القطب؟ 

فقد قيّم الرئيس هوامش التاريخ وحركته بالنسبة لدولته التي قُطِعَت أجزاء منها باسم دول تولى رعايتها الغرب المنافس له، مُنصتا جيدا لمنظري السياسة في بلده أمثال جيرونوفكسي وسوروكين، بخصوص  شكل التحول والحضور الروسي في السياسة العالمية. فالأول، دعا في كتابه "القفزة الأخيرة نحو الجنوب" إلى أن تتجه روسيا إلى الجنوب المسلم وفي سبيل ذلك متّنت روسيا علاقاتها مع إيران وتركيا والسعودية والإمارات وسوريا وغيرها من الدول، فطبق بوتين توصية جيرينوفسكي أن "خيار روسيا العظمى يتضمن مهمة التحرير والتمدد جنوبا ليصل جيشها إلى المحيط الهندي...". أما سوروكين فنظّر لمكانة روسيا في نظام دولي متعدد الأقطاب، ونصح بإبقاء منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي (الخارج القريب)، في دائرة المصالح الروسية، وتنفيذ سياسة توازن قوى في المناطق الخارجية، وهي ما يسيمها الخارج البعيد. وهي مصطلحات ظهرت في الخطاب الروسي المتعلق بالعلاقات الدولية.
خلال عقدين، أعاد بوتين مركزية روسيا في الفكرة "الأوراسية الجديدة" التي تنظر إلى روسيا ككتلة إقليمية واسعة ومتجانسة ولاعبا دوليا في نظام متعدد الأقطاب. وخلال ثلاثة أعوام وأكثر من بدء الحرب الروسية-الأوكرانية استعاد بوتين مكانة روسيا برغم كلفها الكبيرة، واستطاع أن يفرض على "الناتو" حسابات جديدة، الذي لم يغفل أن صراعه مع روسيا بات مفتوحا، ومع أن هناك عقوبات اقتصادية فرضت على روسيا، في مقابل تزويد الغرب لأوكرانيا بأفضل أنواع الأسلحة، إلا أن بوتين ما زال يتوغل في أراضي أوكرانيا ويخترق المجالات الجوية لدول "الناتو"، وكان الأكثر استفادة من قمة ألاسكا مع الرئيس ترمب، استعاد الحوار مع أميركا دون أن يتنازل عن شيء، وأكد بأن الحظر الدولي عليه بوصفه مطلوبا للجنائية الدولية يمكن تجاوزه، لا بل استفاد كثيرا من رفع الحظر والعقوبات الاقتصادية خلال رحلة ألاسكا.

font change