انهيار المعايير الدولية... من الأطر القانونية إلى واقع بلا قانون

مالي وبوركينا فاسو والنيجر تعلن انسحابها الفوري من المحكمة الجنائية الدولية

أ ف ب
أ ف ب
تُظهر هذه الصورة الملتقطة في 14 مارس 2025 المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي

انهيار المعايير الدولية... من الأطر القانونية إلى واقع بلا قانون

في 22 سبتمبر/أيلول 2025، أعلن تحالف دول الساحل (SSA) - الذي يضم مالي وبوركينا فاسو والنيجر– في بيان مشترك قراره بالانسحاب من نظام روما الأساسي، الذي أُنشئت بموجبه المحكمة الجنائية الدولية (ICC).

وقدّم البيان مبررات واضحة، مفادها أن المحكمة تحوّلت إلى "أداة للضغط الاستعماري الجديد في أيدي الإمبريالية، ونموذج عالمي للعدالة الانتقائية"، وأنها "عجزت عن مقاضاة جرائم حرب مثبتة وجرائم ضد الإنسانية وأعمال إبادة جماعية وعدوان."

ووصفت غالبية وسائل الإعلام هذه الخطوة بأنها فعل جديد من "الأطفال المتمرّدين" في المجتمع الدولي، في سياق مسار معادٍ للغرب تتقاسمه هذه الدول مع روسيا ويستهدف زعزعة استقرار منظومة المؤسسات والتحالفات الدولية.

غير أن أهمية هذا القرار تتجاوز بكثير نطاق منطقة الساحل، فهو يُجسّد شرخا بنيويا عميقا في نظام العدالة الدولية، ويؤشر إلى تآكله وتدهوره. فقد كشف انهيار "النظام التشغيلي" للعدالة العالمية، الناتج عن فقدان احتكار التفسيرات القانونية، عن فشل منهجي واضح. ولم يعد يُنظر إلى معايير القانون الدولي باعتبارها عالمية، فيما أصبحت شرعية المؤسسات القانونية الدولية نفسها موضع نزاع وتآكل متواصل.

الإرث الإشكالي للمحكمة الجنائية الدولية

أُنشئت المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الأفراد المسؤولين عن أفظع الجرائم، وفي مقدمتها الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. أما محكمة العدل الدولية، التي تأسست عام 1945 بموجب ميثاق الأمم المتحدة، فاقتصر اختصاصها على تسوية النزاعات بين الدول.

وجاءت فكرة إنشاء هيئة دائمة ذات ولاية عالمية استنادا إلى تجربة المحاكم الخاصة التي أنشأها مجلس الأمن، مثل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة عام 1993، والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا عام 1994.

لكن المحكمة الجنائية الدولية ورثت، حتى قبل تأسيسها، المشكلات ذاتها التي عانت منها تلك الهيئات السابقة: العقوبات الانتقائية، التأثر بالضغوط السياسية، البيروقراطية، وضعف التواصل مع المجتمعات المحلية بما في ذلك الضحايا.

عارضت عدة دول خارج النموذج الديمقراطي الغربي، مثل الصين والهند والإمارات وإيران وتركيا، النظام الأساسي. وتمثلت دوافعها في الخشية من تهديد السيادة، واحتمال تسييس المحكمة

وهكذا ترسخت الانتقائية كخاصية ملازمة للمحكمة. فقد انحصرت آليات العدالة في التهم "المعتمدة"، وصُوِّر الصرب والهوتو كـ"جناة جماعيين"، بينما حُوكم الكروات والبوسنيون بوتيرة أقل بكثير. أما جرائم التوتسي، بما فيها المجازر الجماعية ضد الهوتو وعمليات قتل اللاجئين في جمهورية الكونغو الديمقراطية، فقد جرى تجاهلها إلى حد كبير.

لقد تحوّل إرث نورمبرغ- المعروف بـ"محكمة المنتصرين"، التي صُممت أصلا لتكون ساحة للتمييز بين الخير والشر المطلق- إلى ما يُشار إليه اليوم على نطاق واسع بـ"عدالة المنتصر". وبات القانون الدولي، عند تطبيقه الانتقائي على من يُعتبرون مذنبين، أداة للمناورة السياسية.

كما ورثت المحكمة من المؤسسات الدولية الحديثة سمة مقلقة أخرى: الرفض المنهجي لتحمّل المسؤولية عن قراراتها وأفعالها.

مبادئ نظام روما وحدود عالميته

في 17 يوليو/تموز 1998، صوّتت 120 دولة خلال مؤتمر للأمم المتحدة عُقد في روما لاعتماد نظام روما الأساسي، الذي أُنشئت بموجبه المحكمة الجنائية الدولية. وقد صيغ هذا النظام ليكون "ضمانا لعدم إفلات أخطر الجرائم من العقاب."

وتقوم مبادئه الأساسية على: مبدأ التكاملية، والاختصاص القضائي المحدود، والمسؤولية الجنائية الفردية، وعدم تقادم الجرائم، وتطبيق العقوبات الشخصية، واستقلال القضاء، والعالمية رغم محدوديتها، إلى جانب افتراض البراءة وضمان الحق في محاكمة عادلة.

رويترز
رؤساء دول وحكومات تحالف دول الساحل (AES) في نيامي، النيجر، 6 يوليو 2024

منذ البداية، كان الطابع الدولي للنظام الأساسي محصورا في الدول الموقعة عليه. ولا ينبغي النظر إلى هذه المحدودية بوصفها امتدادا للإرث السابق، بل أقرب إلى "مرض طفولي مؤسسي" لازم المحكمة منذ نشأتها.

وقد عارضت عدة دول خارج النموذج الديمقراطي الغربي، مثل الصين والهند والإمارات وإيران وتركيا، النظام الأساسي. وتمثلت دوافعها في الخشية من تهديد السيادة، واحتمال تسييس المحكمة، والمخاطر المرتبطة بالتورط في نزاعات داخلية أو عمليات عسكرية، إلى جانب الرغبة في حماية وضعها الإقليمي.

أما دول مثل روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل فقد وقّعت على النظام لكنها امتنعت عن التصديق عليه، رافضة عمليا الاعتراف باختصاص المحكمة.

ومع ذلك، ففي الأول من يوليو/تموز 2002، وبعد أن صادقت 60 دولة على النظام الأساسي، باشرت المحكمة الجنائية الدولية عملها رسميا من مقرها في لاهاي بهولندا.

وقد اختير قضاتها على أساس معايير شملت:

- المؤهلات المهنية العالية.

- تمثيل الأنظمة القانونية المتنوعة.

- التوازن الجغرافي.

- المساواة بين الجنسين.

وتُموَّل المحكمة من مساهمات الدول الأعضاء، وبلغت ميزانيتها عام 2025 نحو 195 مليون يورو.

المحكمة الجنائية الدولية كفاعل سياسي

منذ إنشائها، برز اتجاهان مترابطان في نشاط المحكمة:

1- لم تعد المحكمة أداة قضائية محايدة لتطبيق القانون بنزاهة، بل أخذت تمارس دورا متزايد التأثير في الشؤون الدولية، لتصبح فعليا طرفا سياسيا.

2- أصبحت القارة الأفريقية محور نشاطها الأساسي، إذ تركز بحلول عام 2025 ما يقرب من 65 في المئة من التحقيقات فيها، فمن بين 54 لائحة اتهام، شملت 47 مواطنا أفريقياً.

كان لوران غباغبو، الرئيس السابق لساحل العاج، أول رئيس يُنقل إلى لاهاي لمواجهة اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية إثر الصراع الذي أعقب انتخابات 2011

وإن كانت كل قضية تحمل خصوصيتها، فإنها مجتمعة ترسم نمطا أوسع من التراجع، حيث باتت "عدالة المنتصر" تتخذ ملامح "عدالة وصائية" تُمارس فيها الملاحقات الانتقائية على الدول الأضعف.

أفريقيا كـ"أرض اختبار" و"مقبرة" للمحكمة

في عام 2009، أصدرت المحكمة مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم إبادة في دارفور. كان الهدف ممارسة الضغط على نظام الخرطوم، لكن النتيجة جاءت عكسية، إذ شلّت الخطوة الحوار داخل الاتحاد الأفريقي. بل إن عدة دول، منها جنوب أفريقيا عام 2015، رفضت تنفيذ المذكرة رغم خضوعها لاختصاص المحكمة.

وفي عام 2010، رفعت المحكمة دعاوى ضد أوهورو كينياتا وويليام روتو، اللذين أصبحا لاحقا رئيسا ونائبا لرئيس كينيا، على خلفية العنف الذي أعقب الانتخابات. غير أن المحكمة قوضت مصداقيتها حين انخرطت في صراعات سياسية داخلية بدلا من القيام بدور الحكم المحايد. وانتهت القضية لعدم كفاية الأدلة، بينما استغل كينياتا الاتهامات ليظهر في حملته كضحية لـ"مؤامرة لاهاي."

أ ف ب
يتجمع الناس للاحتفال بانسحاب مالي والنيجر وبوركينا فاسو من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) في نيامي في 28 يناير 2025

أما في ليبيا، فقد سارعت المحكمة أثناء تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 2011 إلى إصدار مذكرات توقيف بحق معمر القذافي وابنه سيف الإسلام. وقد كشف توقيت هذه الخطوة عن توافق وثيق مع سياسات الحلف، وهو ما عمّق فقدان القيادة الليبية شرعيتها.

حالة ساحل العاج: غباغبو والمحكمة

كان لوران غباغبو، الرئيس السابق لساحل العاج، أول رئيس يُنقل إلى لاهاي لمواجهة اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية إثر الصراع الذي أعقب انتخابات 2011.

تجلّت تعقيدات هذه القضية منذ بدايتها، فقد أُلقي القبض على غباغبو على يد قوات خاصة فرنسية بعد هجوم على القصر الرئاسي شاركت فيه مروحيات تابعة لقوات حفظ السلام الأممية خلال المواجهات المسلحة في أبيدجان، ثم جرى تسليمه لاحقا إلى المحكمة الجنائية الدولية من قبل مسؤولين محسوبين على الرئيس الجديد، الحسن واتارا.

بدأت محاكمته عام 2016، وفي 2019 برّأته المحكمة بالكامل لعدم كفاية الأدلة، وهو حكم أكدته غرفة الاستئناف في 2021. عاد غباغبو بعدها إلى بلاده كشخصية سياسية، غير أن مكانته كأبرز معارض لواتارا، المقرّب من فرنسا، تراجعت فعليا.

تعكس هذه القضية كيف جرى توظيف المحكمة الدولية. إذ ركزت مذكرة التوقيف على غباغبو متجاهلة إلى حد كبير أعمال العنف التي ارتكبها أنصار واتارا، وهو ما منح النظام الجديد شرعية دولية. وفي أغسطس/آب 2025، أعلن واتارا عزمه الترشح لولاية رئاسية رابعة، رغم أن الدستور يحدّد الولايتين باثنتين فقط.

ردود الفعل الأفريقية ضد المحكمة

أثارت المحكمة الجنائية الدولية استياء واسعا في المجتمعات الأفريقية، حيث اتُّهمت بالتحيّز وازدواجية المعايير، ونالت لقب "محكمة البيض على الأفارقة". وبحلول 2016، أصبح خيار الانسحاب الجماعي من اختصاصها، فيما عُرف بـ"خروج أفريقيا"، مطروحا بجدية داخل الاتحاد الأفريقي.

دفعت الانتكاسات المتكررة للمحكمة الجنائية الدولية في أفريقيا إلى البحث عن قضايا ذات صدى عالمي

وازدادت المخاوف مع محاولات المحكمة توسيع نطاق عملها. ففي 2025، سعت إلى خلق سابقة عبر تصنيف مقاطع الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي كجرائم من قبيل "الإرهاب النفسي" و"انتهاك الكرامة الشخصية" و"الجرائم ضد الإنسانية". اللافت أن معظم هذه المواد كانت توثق أفعال قوات موالية للحكومات.

محاكمة حسين حبري: إلقاء العبء على الآخرين

سعت المحكمة إلى إبعاد نفسها عن بعض القضايا الأفريقية البارزة بتشجيع إنشاء محاكم إقليمية أو وطنية تتحمل المسؤولية.

وفي قضية الرئيس التشادي السابق حسين حبري، تولّت الدوائر الأفريقية الاستثنائية في السنغال، بدعم من الاتحاد الأفريقي، مهمة المحاكمة وحدها. رسميا، كانت الجرائم خارج ولاية المحكمة الجنائية الدولية، إذ ارتكبت بين 1982 و1990، أي قبل تأسيسها.

إلا أن المحاكمة انتهكت بوضوح مبدأ "لا جريمة بلا قانون" (nullum crimen sine lege)، إذ ارتبطت اتهامات عديدة بأفعال لم تُعتبر جرائم وفق القانون الدولي في حينه. وبالنسبة لمراقبين أفارقة، بدا الأمر أشبه بأداة لمعاقبة زعيم مخلوع، في حين جرى تجاهل جرائم منسوبة إلى الرئيس إدريس ديبي، الخصم السياسي لحبري، ما كشف عن عدالة انتقائية تقوم على مساومة بين القانون والسياسة.

وقد فاقمت التساؤلات حول شرعية المحاكمة، ومدى التزامها بالمعايير الدولية، وغياب الرقابة المستقلة، من تقويض مصداقيتها.

تسييس العدالة الدولية وحدود المحكمة

دفعت الانتكاسات المتكررة للمحكمة الجنائية الدولية في أفريقيا إلى البحث عن قضايا ذات صدى عالمي. ففي الفترة بين 2021 و2025، فتحت المحكمة ملفات ضد قادة دول نافذة:

- في 2021، فُتح تحقيق بحق الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي حول القتل الجماعي خارج نطاق القضاء في إطار "الحرب على المخدرات".

- في 2023، صدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهمة ترحيل أطفال أوكرانيين من الأراضي المحتلة، باعتبارها جريمة حرب.

- في 2025، طلب المدعي العام كريم خان إصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال العمليات في غزة.

هذه القضايا تكشف اتساع تدخل المحكمة في ملفات سياسية شديدة الحساسية، ما أثار تساؤلات عميقة حول نزاهتها وحدود ولايتها القضائية. ورغم اختلاف السياقات، فإنها تشترك في سمة جامعة: تحويل أدوات مثل "الولاية القضائية العالمية" وآلية المساءلة، إلى أدوات موظفة داخل صراعات سياسية. وباتت قرارات المحكمة تُعامل، في المقام الأول، كإشارات سياسية يُتوقع مسبقا ضعف إنفاذها أو عدمه.

عندما تتحول المؤسسات القانونية الدولية إلى واجهة سياسية، يخضع القانون نفسه لحسابات الجغرافيا السياسية. ويتوقف عن كونه معيارا عالميا ملزما

لا يقتصر الأمر على كشف مواطن ضعف المحكمة وحدودها، بل يعكس عجزها كمؤسسة قانونية. وقد جاءت ردود فعل حكومتي المجر ومنغوليا لتؤكد ذلك، حيث وُصفت المحكمة بأنها "لعبة عالية المخاطر" تدفع دولا إلى التفكير بالانسحاب رسميا أو تجاهل أحكامها بصورة متكررة.

البدائل الإقليمية والوطنية: تآكل القانون الدولي

تسهم هذه الديناميات في تعميق تآكل القانون الدولي ذاته، وتفتيت الإطار القانوني العالمي، وتقويض مؤسساته. ومع ذلك، تشهد الساحة الدولية عودة متزايدة إلى "المجالات الوطنية" بوصفها مرجعا قضائيا.

ففي إعلان انسحابها، أكدت دول تحالف الساحل عزمها إنشاء آليات عدالة بديلة تحافظ على السيادة وتستند إلى القيم الوطنية. وبالفعل، أُنشئت المحكمة الجنائية لحقوق الإنسان في منطقة الساحل لتجسيد هذا التوجه.

ا ف ب
يظهر مقعد فارغ محجوز لرئيس النيجر عبد الرحمن تشياني في الدورة العادية السادسة والستين لهيئة رؤساء الدول والحكومات التابعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) في أبوجا في 15 ديسمبر 2024

يمثل الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، بهذا المعنى، إعادة تأكيد على حق الدول في صياغة مفهومها الخاص للعدالة بعد عقود شعرت خلالها بأنها مجرد موضوعات للقانون الدولي، وليست أطرافا متكافئة فيه.

عندما تتحول المؤسسات القانونية الدولية إلى واجهة سياسية، يخضع القانون نفسه لحسابات الجغرافيا السياسية. ويتوقف عن كونه معيارا عالميا ملزما، ليعود إلى ساحة السياسات الوطنية والإقليمية حيث تحدد العدالة وفق موازين القوى.

هذا التآكل لا يقتصر على المحكمة الجنائية الدولية، بل يهدد الثقة بالمؤسسات الدولية برمتها، محدثا أثر الدومينو. ويزداد الالتباس بفعل عجز الرأي العام عن التمييز بين "محكمتي لاهاي": المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.

من نورمبرغ إلى لاهاي، لم يتحقق مشروع العدالة العالمية، بل وُلدت واجهة قانونية زائفة، تكشف في جوهرها عن غياب فعلي للقانون الدولي.

font change