رأي "العدل الدولية" بشأن تغير المناخ... نقطة تحول في المساءلة البيئية

تحديات تطوير البنية القانونية والسياسية للنظام الدولي

أ ف ب
أ ف ب
منظر لمحطة الطاقة شكوباو التي تعمل بالفحم البني جنوب هاله في 4 يناير 2024. يتم تشغيل المحطة، التي تم بناؤها في عامي 1995 و1996، من قبل شركة الطاقة الألمانية العملاقة يونيبر

رأي "العدل الدولية" بشأن تغير المناخ... نقطة تحول في المساءلة البيئية

أصدرت محكمة العدل الدولية، الهيئة القضائية الرئيسة للأمم المتحدة، رأيا استشاريا تاريخيا بتاريخ 23 يوليو/تموز 2025 حمل القضية رقم 187 بعنوان "مسؤولية الدول في مواجهة التغير المناخي"، انتهت فيه إلى جواز مساءلة الدول قانونيا بسبب التغير البيئي والاحتباس الحراري الناتج عن انبعاثات الغازات الدفيئة أو أي ملوثات بيئية أخرى نتيجة أنشطة هذه الدول الصناعية، بحسبان أن ذلك يعد إخلالا بالمعاهدات البيئة وحق الإنسان في الحياة الصحية وبيئة نظيفة ومستدامة على الصعيدين الوطني والدولي، بالإضافة لتأكيد المحكمة على ضرورة تعاون الدول مع بعضها البعض وبذل العناية الواجبة للحد من الضرر البيئي.

ويمثل هذا الرأي نقطة تحول كبرى في القانون الدولي البيئي، بوصفه سابقة قضائية وتاريخية، بما له من انعكاسات بالغة على تشكيل العلاقة بين السيادة الوطنية ومسؤولية الدول عالميا في مواجهة أزمة المناخ وما يترتب على ذلك من آثار، أخصها فتح الباب أمام الدول إلى إمكانية رفع دعوى قضائية ضد بعضها البعض أمام محكمة العدل الدولية استنادا إلى الأضرار البيئية والتغير المناخي.

وهو ما يطرح عدة تساؤلات جوهرية حول ذلك الموضوع، أهمها: ما هي اختصاصات محكمة العدل الدولية، وما الفرق بين ما تصدره من أحكام وقرارات وآراء استشارية؟ وما مدى إلزامية الآراء الاستشارية، وهل يمكن أن تُحدث أثرا قانونيا فعليا على الدول؟ وماذا يقصد بحقوق الإنسان البيئية؟ وهل تمثّل المسؤولية المناخية للدول تطورا في نظرية المسؤولية الدولية التقليدية أم قطيعة معها؟ وهل تُعد انبعاثات الغازات الدفيئة شكلا من أشكال الإضرار غير المشروع في القانون الدولي؟ وهل يؤدي الرأي الاستشاري إلى تحول في ميزان القوة بين الدول الصناعية والنامية؟ وما مدى إمكانية إقامة دعوى أمام المحكمة استنادا إلى هذا الرأي في حال ثبوت الضرر المناخي؟ وهل تُصبح الدول عرضة لما يمكن تسميته "المساءلة البيئية العابرة للحدود" على غرار المسؤولية عن جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية؟

وكانت الحملة للحصول على هذا الرأي الاستشاري قد بدأت خلال عام 2019، بمبادرة بدأتها منظمة طلابية تسمى "طلاب جزر المحيط الهادئ لمكافحة تغير المناخ" تتكون من 27 طالبا من طلاب كلية القانون بجامعة جنوب المحيط الهادئ بدولة فيجي، وما لبثت أن تبنت الحملة عام 2021 حكومة دولة فانواتو باقتراح مشروع قرار لتقديم طلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى محكمة العدل الدولية لإبداء رأي استشاري. ومن الملاحظ أن دولتي فيجي وفانواتو دولتان أرخبيليتان من دول إقليم أوشيانيا (Oceania)، التي تتكون من مجموعة جزر متفرقة صغيرة في المحيط الهادئ، مهددة بالغرق نتيجة ارتفاع مستوى سطح البحر، وسرعان ما لاقت الحملة تأييدا واسعا من باقي دول إقليم أوشيانيا والتي بدأت حملة موسعة في الأمم المتحدة لدعم اقتراح طلب إبداء الرأي الاستشاري، وقد نجحت جهود هذه الدول في جمع تأييد ما يزيد على 132 دولة، وقد تكللت هذه الجهود بتبني الجمعية العامة للأمم المتحدة رسميا لهذا الطلب وأصدرت قرارا رسميا برقم (A/77/L.58) في مارس 2023 "بطلب فتوى (رأي استشاري) من محكمة العدل الدولية بشأن التزامات الدول فيما يتعلق بتغير المناخ"، وقد تداولت المحكمة في ذلك الطلب حتى أصدرت فتواها غير الملزمة في يوليو 2025.

أصدر 5 قضاة من تشكيل المحكمة إعلانا أو بيانا، وهو بيان قانوني أو تعليق رسمي يُقدمه قاضٍ أو مجموعة من القضاة، يُستخدم لتوضيح وجهة نظر أو تسجيل موقف معين دون الخوض في تحليل قانوني موسع

ومحكمة العدل الدولية هي الهيئة القضائية الرئيسة للأمم المتحدة، تأسست عام 1945 بموجب ميثاق الأمم المتحدة، وتتخذ من قصر السلام بمدينة لاهاي في هولندا مقرا لها، وهي الجهاز الوحيد من بين الأجهزة الستة للأمم المتحدة الذي لا يتخذ من مدينة نيويورك مقرا له. وللمحكمة اختصاصان رئيسان، الأول: الاختصاص التنازعي، وهو ما يتعلق بالفصل في النزاعات القانونية بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ويتطلب ذلك الاختصاص موافقة جميع أطراف النزاع على عرضه أمام المحكمة، إما عبر اتفاق خاص أو بموجب اختصاص إلزامي ناشئ عن معاهدات منفصلة أو إعلانات قبول الاختصاص، وتكون الأحكام القضائية التي تصدرها المحكمة في هذا الصدد ملزمة قانونا للأطراف المعنية. ويلاحظ أن المحكمة أحيانا ما تصدر بعض القرارات أو الأعمال المادية، مثل التدابير المؤقتة أو الأوامر الإجرائية والتي تصدر لتنظيم سير القضايا أو حماية حقوق أطراف النزاع، والتي تكون ملزمة إلزاما نسبيا في سياقها. والثاني: الاختصاص الاستشاري (الإفتائي)، وفيه تصدر المحكمة آراء استشارية وفتاوى قانونية بناء على طلب إحدى هيئات الأمم المتحدة المخولة قانونا للتقدم بهذا الطلب، مثل الجمعية العامة أو مجلس الأمن، ويلاحظ في هذا الصدد أن الآراء الاستشارية والفتاوى القانونية للمحكمة غير ملزمة قانونا، ولا تتطلب موافقة أطراف النزاع، بل يتم طلبها مباشرة من إحدى هيئات الأمم المتحدة المخولة قانونا لطلب الفتوى، بيد أن لهذه الآراء والفتاوى ثقلا قانونيا وقيمة أخلاقية كبيرة، وتُسهم في إعادة صياغة العلاقات بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وتساعد في خلق قواعد قانونية جديدة وتوضيح وتفسير قواعد القانون الدولي وتوجيه السياسات العالمية.

أ ف ب
خلال جلسة محكمة العدل الدولية المكلفة بإصدار الرأي الاستشاري الأول بشأن الالتزامات القانونية للدول لمعالجة تغير المناخ، في لاهاي في 23 يوليو 2025

إجراءات إصدار الرأي الاستشاري

صدر الرأي الاستشاري في وثيقة من حوالي 140 صفحة باللغتين الإنجليزية والفرنسية، برئاسة رئيس المحكمة الحالي القاضي أيواسوا يوجي، وعضوية 14 قاضيا، وقد صدر بالإجماع في أغلب نقاطه، بينما صدر في بعض النقاط الأخرى بأغلبية 10 قضاة من أعضاء هيئة المحكمة، وعدد 4 آراء منفصلة، ويقصد بالرأي المنفصل، هو ذلك الرأي أو الحكم الذي يصدره قاضٍ في هيئة محكمة يكون متفقا مع رأي الأغلبية في النتيجة النهائية للفتوى أو الحكم، بينما يختلف مع الأغلبية في الأسباب، وذلك خلافا للرأي المخالف والمعارض الذي يختلف مع الأغلبية في النتيجة والأسباب. إضافة إلى ذلك أصدر 5 قضاة من تشكيل المحكمة إعلانا أو بيانا، وهو بيان قانوني أو تعليق رسمي يُقدمه قاضٍ أو مجموعة من القضاة، يُستخدم لتوضيح وجهة نظر أو تسجيل موقف معين دون الخوض في تحليل قانوني موسع.

يمكن تعريف حقوق الإنسان البيئية بأنها تلك الحقوق التي تتفرع من الحقوق الأساسية للإنسان التي تطلبها البشرية ولا يمكنها الاستغناء عنها أو الحياة من دونها

ويمكن إيجاز الأسباب التي شيدت المحكمة إفتاءها عليها في النقاط التالي:

1- المسؤولية الدولية عن الأضرار البيئية نتيجة الأهمال: الدول التي تفشل في منع الضرر البيئي الجسيم، سواء بعدم ممارسة العناية الواجبة أو الفشل في استخدام كافة الوسائل المتاحة لها لمنع هذا الضرر، يمكن أن تُحاسب دوليا، بحسبان أن هذا الفشل يُعتبر خرقا لالتزاماتها بموجب القانون الدولي.

2- التوسع في مفهوم الأفعال غير المشروعة دوليا: إذا أخفقت دولة في اتخاذ الإجراءات المناسبة لحماية النظام المناخي من انبعاثات الغازات الدفيئة، قد يُشكل فعلا غير مشروع دوليا يُنسب إلى تلك الدولة، مما يؤدي إلى مسؤوليتها القانونية.

3- التشدد في مفهوم العناية الواجبة في تنفيذ الالتزامات القانونية الناشئة من الاتفاقيات الدولية بشأن المناخ: حيث ينبغي على الدول ممارسة "العناية الواجبة الصارمة" عند إعداد وتنفيذ الالتزامات القانونية الناشئة من الاتفاقيات الدولية بشأن المناخ وخاصة "اتفاقية باريس"، ويتعين أن يكون تنفيذ هذه الالتزامات بفعالية على المستوى الوطني، مع مراقبة الأجهزة الدولية المختصة لتنفيذ الدول لهذه الالتزامات وأن لا تخضع للسلطة التقديرية الواسعة للدول.

4- حماية حقوق الدول المتضررة: يمكن للدول المتضررة المطالبة بوقف السلوك غير المشروع أو الإغفالات، وتقديم ضمانات بعدم التكرار، و/أو الحصول على تعويضات عن الأضرار الناتجة عن الانتهاكات المناخية.

5- التوسع في مصادر الالتزامات القانونية البيئية والمناخية: أكد الرأي الاستشاري على أن التزامات الدول لا تنبع فقط من المعاهدات المناخية، بما في ذلك "اتفاقية باريس"، ولكن أيضا من القانون الدولي العرفي (مثل واجب منع الضرر عبر الحدود وواجب التعاون بين الدول) والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وقد أقامت محكمة العدل الدولية رابطا مباشرا بين الخطأ والضرر والعلاقة السببية التي تؤسس للمسؤولية التقصيرية الموجبة للتعويض استنادا إلى التزامات الدول المناخية بوجه عام والقانون الدولي لحقوق الإنسان.

حقوق الإنسان البيئية

يمكن تعريف حقوق الإنسان البيئية بأنها تلك الحقوق التي تتفرع من الحقوق الأساسية للإنسان التي تطلبها البشرية ولا يمكنها الاستغناء عنها أو الحياة من دونها، وأشهرها الحق في العيش في بيئة آمنة ومستدامة والتي تعتمد عليها كافة الحقوق الأخرى، مثل الحق بالحصول على الغذاء والمياه النظيفة والمأوى المناسب والتعليم.

وهو ما أقرته المحكمة، معتبرة أن هذه الحقوق من الحقوق الأساسية المرتبطة بحقوق الإنسان الأخرى، كالحياة والصحة، وأكدت الفتوى أن انبعاثات الغازات الدفيئة المفرطة قد تشكل عملا غير مشروع دوليا استنادا لمبدأ منع الضرر عبر الحدود، مما يُلزم الدول بمسؤوليات قانونية تشمل إزالة الضرر والتعويض.

ويمثل هذا النهج تطورا في نظرية المسؤولية الدولية التقليدية، التي تركز على الأضرار المباشرة، حيث يوسّع الرأي الاستشاري من نطاق المسؤولية ليشمل الأضرار المناخية غير المباشرة والتراكمية، دون أن يشكل قطيعة كاملة معها، بل يعززها بمبادئ العدالة المناخية، وقد شددت المحكمة على مبدأ العناية الواجبة، مما يعني أن الدول ملزمة قانونا باتخاذ تدابير استباقية للحد من الانبعاثات، وإلا فإنها تتحمل المسؤولية عن الأضرار البيئية العابرة للحدود، ويعكس هذا التطور دمج حقوق الإنسان بالقانون البيئي، مع التركيز على حماية الدول الضعيفة مناخيا، مثل الدول الأرخبيلية والجزر الصغيرة، من آثار تغير المناخ الناتجة عن انبعاثات الدول المتقدمة.

يثير الرأي الاستشاري تساؤلات حول إمكانية تكريس مفهوم قانوني دولي جديد وهو "المساءلة البيئية العابرة للحدود"، على غرار المسؤولية عن جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية

ويثير الرأي الاستشاري، تساؤلات حول تأثيره على ميزان القوى بين الدول الصناعية والنامية، وإمكانية إعادة تشكيل العلاقات الدولية في ضوء مفهوم العدالة المناخية، إذ تعزز الفتوى من موقف الدول النامية، خاصة الدول الأرخبيلية والجزرية الضعيفة مناخيا، بتأكيدها مبدأ المسؤوليات المشتركة المتباينة، مما يُلزم الدول الصناعية ذات الانبعاثات العالية تاريخيا بتحمل عبء أكبر. هذا التحول المعنوي والقانوني يمنح الدول النامية أداة ضغط في المحافل الدولية، لكنه لا يغير بشكل مباشر ديناميكيات القوة الاقتصادية أو السياسية بسبب طبيعته غير الملزمة. أما إمكانية إقامة دعوى أمام المحكمة استنادا إلى هذا الرأي، فتواجه عقبة رئيسة تتمثل في ميثاق المحكمة، الذي يشترط موافقة طرفي النزاع لقبول الاختصاص في القضايا التنازعية وفقا لنص المادة 36 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، ففي حال ثبوت الضرر المناخي، قد تستند الدول المتضررة إلى ذلك الرأي الاستشاري كمرجع قانوني لإثبات المسؤولية، لكن غياب موافقة الدول الصناعية الكبرى يحد من إمكانية رفع دعوى مباشرة. وقد يُستخدم الرأي الاستشاري كذلك في دعاوى وطنية أو إقليمية، أو كأساس لمطالبات التعويض عن الخسائر المناخية في مفاوضات دولية، مما يعزز العدالة المناخية رغم التحديات القانونية.

أ ف ب
يحمل تلاميذ مدرسة سوانجو ميلي الابتدائية والثانوية، الواقعة في قرية ميلي، شمال بورت فيلا، عاصمة فانواتو، لافتات أثناء التقاط صورة لهم في 24 يوليو 2025

المساءلة البيئية العابرة للحدود

يثير الرأي الاستشاري تساؤلات حول إمكانية تكريس مفهوم قانوني دولي جديد وهو "المساءلة البيئية العابرة للحدود"، على غرار المسؤولية عن جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية، حيث يؤكد الرأي أن انبعاثات الغازات الدفيئة المفرطة قد تُشكل عملا غير مشروع دوليا إذا تسببت في ضرر بيئي عابر للحدود، استنادا إلى مبدأ منع الضرر المنصوص عليه في القانون الدولي العام. لكن، وعلى عكس الجرائم الدولية التي تُحاكم أمام محاكم مثل المحكمة الجنائية الدولية، فإن المساءلة البيئية تواجه تحديات قانونية وعملية. أولا، صعوبة إثبات العلاقة السببية بين انبعاثات دولة معينة وأضرار محددة، مثل ارتفاع مستوى البحر في دولة أخرى. ثانيا، الطبيعة الافتائية للرأي الاستشاري وعدم إلزاميته، مما يحد من إمكانية فرض عقوبات مباشرة. ومع ذلك، يعزز الرأي الاستشاري من فكرة المسؤولية المشتركة المتباينة، والتي بموجبها تتحمل الدول المتقدمة مسؤولية أكبر بسبب انبعاثاتها الصناعية التاريخية، وقد يمهد هذا لتطوير آليات مساءلة مستقبلية، مثل التعويضات عن الأضرار المناخية، لكنه لا يرقى بعد إلى مستوى المسؤولية الجنائية الدولية. لكن يبقى السؤال الأصعب: هل من الممكن أن تُشكل الأضرار البيئية الجسيمة جريمة دولية في المستقبل؟ على الرغم من أن الرأي الاستشاري يضع حجر الأساس القانوني لهذه الفرضية الجدلية، لكنه يظل غير ممكن في ظل الظروف الدولية الراهنة، إذ يتطلب التغلب على عدة تحديات جسيمة لإقراره، أخصها تطوير البنية القانونية والسياسية للنظام الدولي، وهو ما يتطلب توافق الدول الصناعية الكبرى على هذا المبدأ وهو ما يستبعد حدوثه بسبب تحملها تاريخيا العبء الأكبر من الملوثات البيئية والانبعاثات الغازية.

font change