معضلة التمويل المناخي... العالم يحتاج إلى"خطة مارشال"

300 مليار دولار سنويا جُل ما اتُفق عليه في وقت تقدر احتياجات الدول النامية بنحو 1,1 تريليون دولار في عام 2025

كيارا فيرشيزي
كيارا فيرشيزي

معضلة التمويل المناخي... العالم يحتاج إلى"خطة مارشال"

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبينما كانت دول أوروبا منهكة بسبب الحرب، وكانت على وشك الوقوع في دوامة من الفوضى والمشاكل الاقتصادية، مدت حليفتها الأولى، الولايات المتحدة الأميركية، يد العون من أجل دعم الاقتصادات الأوروبية الأميركية المشتركة. حينها، كُلف وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال، وهو أحد قادة الولايات المتحدة البارزين في الحربين العالميتين الأولى والثانية، الإشراف على خطة استراتيجية لدعم اقتصاد أوروبا. وبالفعل، خصصت الولايات المتحدة الأميركية جزءا من مواردها المالية بين عامي 1948 و1951، التي تُقدّر بنحو 13,3 مليار دولار (اليوم تزيد قيمتها على 150 مليار دولار)، من أجل دعم اقتصادات نحو 16 دولة أوروبية. وقد نجح برنامج التعافي الأوروبي، الذي عُرف بـ"خطة مارشال"، وهو مثال قوي على التآزر الواضح بين الولايات المتحدة وأوروبا في حل أزمة اقتصادية كبيرة.

مع ذلك، لم يحدث هذا التعاون لحل أزمة المناخ التي باتت تشكل تهديدا لحياة البشر والعديد من الكائنات الحية الأخرى على كوكب الأرض. على الرغم من وجود اتفاقية تشرف عليها الأمم المتحدة لحل أزمة المناخ، فإن هناك العديد من العقبات والعراقيل، خصوصا في ملف "التمويل المناخي"، الذي برز مع "اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في شأن تغير المناخ" (UNFCCC)، التي وُلدت في "قمة الأرض" في ريو دي جانيرو في البرازيل عام 1992، ودخلت حيز التنفيذ عام 1994، ومن ثم انطلقت المفاوضات بسلسلة من مؤتمرات الأطراف المعنية بتغير المناخ (COP). واليوم هناك 198 طرفا وقعت الاتفاقية.

وخلال انعقاد مؤتمر "كوب 15" في كوبنهاغن في الدانمارك، وافقت الدول المتقدمة على دفع 100 مليار دولار سنويا في حلول 2020، للدول التي تعاني من آثار التغيرات المناخية. لكن الحاجة تضاعفت بمرور الوقت لزيادة التمويل المناخي، وللحفاظ على الهدف المحدد في المادة الثانية من اتفاق باريس في عدم تجاوز متوسط الحرارة 1,5 درجة مئوية، مقارنة بمستويات حقبة ما قبل الصناعة. واتفقت الأطراف في عام 2021، على ما يُسمى بـ"الهدف الجماعي الكمي الجديد" (NCQG)، الذي كان من المقرر حسمه في "كوب 29" في باكو عاصمة أذربيجان. لذلك، سمي بـ"مؤتمر الأطراف المالي".

غير أن النتيجة جاءت محبطة. إذ اختُتم "كوب 29" بهدف جماعي كمي جديد يُقدّر بنحو 300 مليار دولار سنويا، مع تأجيل بعض النقاط إلى مؤتمر "كوب 30" في البرازيل، في وقت تقدر احتياجات الدول النامية لتمويل المناخ بنحو 1,1 تريليون دولار في عام 2025، وترتفع إلى 1,8 تريليون دولار في حلول 2030.

"عندما تعطس أميركا، يُصاب العالم بالزكام". هذا مثل شائع يوحي بهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على الاقتصاد العالمي، وقدرتها على قيادة العالم. لكن، عندما يتعلق الأمر بأزمة المناخ، يبدو أنها تنحت عن دور القيادة، وتحمل هذه المسؤولية التاريخية

وعلى الرغم من أن مؤتمرات الأطراف انطلقت للمرة الأولى عام 1995 في برلين في ألمانيا، ولا تزال تُعقد سنويا، فإنها لم تتوصل إلى حل واقعي في ملف التمويل. فما هي الأسباب؟

انسحاب متكرر لأميركا من "اتفاق باريس"

"عندما تعطس أميركا، يُصاب العالم بالزكام". هذا مثل شائع يوحي بهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على الاقتصاد العالمي، وقدرتها على قيادة العالم. لكن، عندما يتعلق الأمر بأزمة المناخ، يبدو أنها تتنحى عن دور القيادة، وتذهب بعيدا نحو مصالحها التي تمنعها من تحمل المسؤولية التاريخية الواقعة على عاتقها، على الرغم من أنها الدولة الأكثر إنتاجا لانبعاثات الغازات الدفيئة في التاريخ. ففي مارس/آذار عام 2001، أعلن رئيس الولايات المتحدة آنذاك جورج دبليو بوش الإبن، انسحاب الولايات المتحدة من بروتوكول "كيوتو" الصادر عن مؤتمر الأطراف المعني بتغير المناخ في دورته الثالثة "كوب 3"، وكانت الأسباب المعلنة لهذا الانسحاب أنّ التزام البروتوكول يؤثر سلبا على الاقتصاد الأميركي. أثار هذا القرار سخط العديد من الناشطين البيئيين في الولايات المتحدة وخارجها.

انتهت ولايتا حكم الرئيس جورج بوش الإبن، وخلفه الرئيس باراك أوباما، الذي اكتسب شعبية بعد توقيع الولايات المتحدة "اتفاق باريس"، الصادر عن "كوب 15". ثم جاء الرئيس دونالد ترمب، الذي كان صريحا للغاية في شأن موقفه من أزمة المناخ، معربا عن نيته سحب الولايات المتحدة من "اتفاق باريس"، وكان ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2020. وفي وقت تراجعت شعبية ترمب، أتى الرئيس جو بايدن وأعاد الولايات المتحدة إلى "اتفاق باريس".

أ.ف.ب.
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يعرض قرارا تنفيذيا لانسحاب أميركا من اتفاقية باريس للمناخ، واشنطن، 20 يناير 2025

اليوم، عادت الكرة مرة أخرى إلى ملعب ترمب الذي سحب مجددا الولايات المتحدة من "اتفاق باريس".

الحقيقة أن الولايات المتحدة عندما تجلس إلى طاولات المفاوضات، يكون شغلها الشاغل عرقلة هذه المفاوضات. فهي من دول الشمال على أي حال.

وفي هذا الصدد، تواصلت "المجلة" مع "تحالف الخسائر والأضرار"، وجاء الرد من تيو أورموند-سكيبينغ، قائلا: "تتمتع الولايات المتحدة بتاريخ طويل في عرقلة أي تقدم في مجال الخسائر والأضرار لأنها لا تريد أن تجبر على سداد ديون المناخ التي تدين بها للجنوب العالمي في مقابل انبعاثاتها التاريخية. فهي أكبر ملوث".

مسؤوليات الشمال لدعم التكيف في الجنوب

عام 2024، وجدت دراسة منشورة في دورية "كلايمت" (Climate)  أن نحو 3,75 مليارات نسمة من سكان العالم (نحو نصف سكان العالم)، كانوا مسؤولين عن 8,9 في المئة فقط من انبعاثات الكربون التراكمية العالمية. ويتركز هؤلاء السكان في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل. بينما كان هناك نحو 757 مليون نسمة (يشكلون 10 في المئة من سكان العالم)، مسؤولين عن 46,8 في المئة من الانبعاثات الدفيئة العالمية، ويتركزون في الدول ذات الدخل المرتفع. وهنا تبرز التعقيدات التي تتداخل مع التوترات والاقتصادات العالمية.

في الجنوب العالمي، تتوقع جميع الأطراف السياسية أن يأتي تمويل المناخ من الشمال العالمي، بينما في الدول الغربية، يفشل معظم الأحزاب المتطرفة في الاعتراف بمسؤولية الشمال في دعم الجنوب في تمويل مبادرات التكيف

محمد السيوطي، مستشار رئيس جمهورية تشاد

مع ذلك، تصر دول الشمال على التنصل من المسؤولية فتلقي اللوم على الدول الأخرى. يقول الدكتور فاضل قابوب، أستاذ الاقتصاد ورئيس المعهد العالمي للازدهار المستدام لـ"المجلة": "هناك سياسة يتبعها هؤلاء، وهي إلقاء اللوم على الصين والدول المصدرة للنفط، يريدون منها أن تساهم على الرغم من أنه من الناحية التقنية، لم تتجاوز كل من الصين والدول المصدرة للنفط موازناتها الكربونية. لذا هم ليسوا مسؤولين عن غالبية تمويل المناخ".

ويتابع: "وهذا في الحقيقة تكتيك استخدمته أميركا والاتحاد الأوروبي لفترة طويلة لصرف الانتباه والإنكار وإلقاء اللوم على الآخرين، بدلا من تكثيف الجهود وتحمل مسؤوليتهم القانونية والأخلاقية والمالية عن تمويل المناخ".

الخلافات السياسية... والتضامن المطلوب

على الرغم من الاعتراف بأزمة المناخ على نطاق واسع خلال السنوات المنصرمة، بما في ذلك الدول غير الديمقراطية، لا يزال التمويل محل جدل نتيجة الخلافات السياسية والتوجهات المختلفة، ليس فقط بين الدول، بل داخل كل دولة

وبحسب محمد السيوطي، مستشار رئيس جمهورية تشاد، في حديثه إلى "المجلة"، "في الجنوب العالمي، تتوقع جميع الأطراف السياسية أن يأتي تمويل المناخ من الشمال العالمي، بينما في الدول الغربية، تفشل معظم الأحزاب المتطرفة في الاعتراف بمسؤولية الشمال العالمي في دعم الجنوب العالمي في تمويل مبادرات التكيف الخاصة به. وقد أثر هذا الاختلاف للأسف على تعبئة الأهداف المناخية الطموحة والتمويل في مفاوضات مؤتمر الأطراف".

كيارا فيرشيزي

أما الدكتور باتريك بوند، الأستاذ المتميز ومدير مركز التغيير الاجتماعي في جامعة جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا، فيرى أن الخلافات السياسية المؤدية لفشل تمويل المناخ ناتجة من ثلاث أيديولوجيات، هي أولا، إنكار المناخ، والسياسات اليمينية المتطرفة المناهضة للبيئة التي قدمها دونالد ترمب بنشاط أكبر، ثانيا، العمل المناخي، والاعتقاد بأن الأسواق والتكنولوجيا قادرة على حل الأزمة في إطار الرأسمالية، بتوجيه من الدول الغربية وحلفائها، وثالثا، العدالة المناخية، وهي الحاجة إلى معالجة القضايا البيئية والاجتماعية من منظور تحويلي نظرا لإخفاقات السوق/التكنولوجيا وتوازنات القوى المعاكسة.

من جانبها، تقول حنين كيسكس، وهي مسؤولة سياسية بارزة في منظمة "غرينبيس" الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لـ"المجلة"، إن "الافتقار إلى الإرادة السياسية يعني أن الدول الغنية تواصل التهرب من مسؤولياتها المالية. ويعكس هذا الانفصال فشلا أخلاقيا في إعطاء الأولوية للإنصاف والعدالة في تمويل المناخ". بينما ترى جيس بيجلي، رئيسة السياسات في التحالف العالمي للمناخ والصحة، أن الدول المتقدمة فشلت في الانخراط بشكل هادف في المناقشات التحضيرية قبل باكو من خلال إهمال اقتراح هدف تمويلي.

صراعات جيوسياسية تستنزف الموازنات

لا يخلو الأمر من الصراعات والتوترات السياسية، سواء بين الدول النامية أو الدول المتقدمة الكبرى، مما ينعكس سلبا على العمل المناخي ويعرقله. وهذا ما يؤكده السيوطي، إذ يقول لـ"المجلة"، إن "الدول تميل إلى تبني موقف مشترك عندما يتعلق الأمر بالمفاوضات العالمية بما في ذلك تغير المناخ. مثل هذا الموقف في كثير من الحالات لا يعكس أولويات المقاطعات أو التحديات الخاصة بها. ومن الأمثلة على ذلك كيف كانت الحرب بين روسيا وأوكرانيا بمثابة عائق أمام مفاوضات المناخ لسنوات عديدة".

الصراع العالمي بين رجال الأعمال الكبار والأثرياء من جهة، ونظام المناخ من جهة أخرى، يعادل أيضا صراعا بين الأجيال الحالية والمستقبلية

الدكتور باتريك بوند، مدير مركز التغيير الاجتماعي في جامعة جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا

أما الدكتور باتريك بوند، فيرى أن الصراعات الجيوسياسية تتسبب في الاستخدام غير المجدي لموازنات الدول، كما في حالات شن الحروب، خصوصا في غزة، وفي الغزو الروسي غير القانوني لأوكرانيا في أعقاب الزحف غير المبرر لحلف شمال الأطلسي شرقا. ويقول لـ"المجلة": "إن الصراع العالمي بين كبار رجال الأعمال والأثرياء من ناحية، ونظام المناخ من ناحية أخرى، يعادل أيضا صراعا بين الأجيال الحالية والمستقبلية".

تحديات اقتصادية أم غياب الإرادة سياسية؟

شهد عام 2024 الكثير من التحديات الاقتصادية. فبحسب مجلة "فوربس"، زاد التضخم في المملكة المتحدة، بينما تعاني الصين من الركود الاقتصادي، وألمانيا بعض الانكماش في اقتصادها، وهناك دول كثيرة تعاني من أزمات اقتصادية في آسيا. وهذا قد يعود سلبا على قضية التمويل المناخي، إذ يقول السيوطي "إن الاقتصاد العالمي يواجه أزمات متعددة بما في ذلك الأمن والتضخم، مما يؤدي إلى تنافس الأولويات وخصوصا من قبل الاقتصادات الغربية. إن التحدي المناخي، على الرغم من بقائه قضية عالمية، لا يؤثر بالتساوي على جميع الدول، وبالتالي فإن الاستجابة أقل تنسيقا".

وبينما ينمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بصورة متوسطة، إذ بلغ النمو 3,2 في المئة في عام 2024، إلا أن هناك سوءا في توزيع هذا النمو، أدى وفقا للدكتور باتريك بوند "إلى ظهور أنظمة أو حركات شعبوية يمينية في السلطة أو قريبة من السلطة، حيث تستخدم كراهية الأجانب وكراهية النخب والحروب الثقافية للفوز في الانتخابات من خلال صرف الانتباه عن المشاكل الملموسة التي يواجهها الفقراء والطبقة العاملة".

أ.ف.ب.
ممثل فيليبيني خلال احتجاجات تدعو لحماية البيئة يقف بداخل كرة شفافة في وقفة احتجاجية، في العاصمة مانيلا، 25 أبريل 2025

لكن جيس بيجلي ترى أن التحديات الاقتصادية ليست عذرا، بل إشارة إلى ضرورة تعزيز العمل المناخي ومده بالتمويل اللازم للخروج من الأزمة، وإلا ستكون العواقب وخيمة. وتقول لـ"المجلة": "إن تكاليف الفشل في اتخاذ إجراءات في شأن تغير المناخ من شأنها أن تخلف دمارا كبيرا في الاقتصاد العالمي، وبدرجة أكبر كلما طال تأجيل الاستثمارات اللازمة". ويتفق معها الدكتور فاضل قابوب، الذي يرى أن التحديات الاقتصادية العالمية، هي مجرد عذر واهٍ، وهذا حدث في "كوب 29". على سبيل المثل، قدم وفد الولايات المتحدة تحت إدارة بايدن حججا واهية تتضمن استلام ترمب السلطة، وكأنهم يقولون: "حسنا، من الأفضل أن تقبلوا أي شيء قليل نقدمه لكم هنا. وإلا فأنتم تعلمون أنكم لن تحصلوا على أي شيء لأن ترمب قادم وسيدمر هذه العملية برمتها". الأمر نفسه بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي الذي ألقى باللوم على بوتين على خلفية دعم أوكرانيا في الحرب الروسية-الأوكرانية، واستنزاف موارد الاتحاد المالية.

من جانبها، تقول حنين كيسكس لـ"المجلة": "ليس هناك نقص في المال، بل نقص في الإرادة السياسية فقط. يجب أن يتحمل تكاليف تغير المناخ أولئك الذين يتحملون أكبر قدر من المسؤولية عن التسبب فيه - الدول الأكثر تلويثا والشركات والأفراد - وأولئك هم الأكثر قدرة على الدفع"، وتضيف: "إن جعل الملوثين يدفعون، يرسي نهجا عادلا لجمع التمويل الذي تشتد الحاجة إليه".

تكيّف مطلوب بلا تمويل

يندرج الهدف العالمي للتكيف من "اتفاق باريس" في المادة السابعة منه. والتكيف عبارة عن مجموعة من التدابير التي يستطيع من خلالها البشر التصدي لآثار التغيرات المناخية والظواهر المتطرفة المصاحبة لها. لتحقيق ذلك، ينبغي للدول المتقدمة دعم الدول النامية بالتمويل اللازم لمساعدتها في تحقيق أهداف التكيف. مع ذلك، ترتفع فجوة تمويل التكيف عاما بعد عام، إذ قُدّرت هذه الفجوة في "تقرير فجوة التكيف لعام 2024" بما يتراوح بين 187 و359 مليار دولار أميركي. ويبدو واضحا أن تحقيق أهداف التكيف مرتبط بالتمويل المناخي. غير أن الأنظار موجهة بصورة خاصة لدعم أهداف التخفيف، ووفقا لمصدر من الوفود العربية أنه يعمل على تعطيل مفاوضات التخفيف لإعطاء مساحة لمفاوضات التكيف.

تدعي الولايات المتحدة وأوروبا وبقية الملوثين التاريخيين اليوم إنهم لا يملكون المال لتمويل الأضرار البيئية التي تسببوا بها، وهذا مجرد عذر

الدكتور فاضل قابوب، أستاذ الاقتصاد ورئيس المعهد العالمي للازدهار المستدام

يعود ذلك إلى أسباب عدة، لعل أبرزها أن مشاريع التخفيف تجذب الاستثمار والمشاريع، أي أن لها عائدا ماديا، على عكس تمويل التكيف، الذي يهدف لمساعدة البشر في صد أو مقاومة آثار التغيرات المناخية. لكن الاهتمام بدعم التكيف ازداد على مدار السنوات المنصرمة، إذ توضح إريكا موراندوزو، الحقوقية والباحثة في جامعة "ليدز" البريطانية ومنسقة قسم المناخ والحقوق في شبكة المناخ الإيطالية، لـ"المجلة"، أنّ "اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في شأن تغير  المناخ (UNFCCC)، تم تطويرها بناء على نتائج تقرير الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ الأول (1990)، الذي، على الرغم من نطاقه الأوسع، ركز في الغالب على كيفية زيادة الأنشطة البشرية بشكل كبير لتركيز الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمي. وقد أفضى إلى تثبيت التزام تخفيف آثار تغير المناخ من خلال خفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمي". لذلك، صار التخفيف هو الأولوية القصوى.

إنفوغراف: الفحم الحجري يبقى أكبر مصادر الطاقة... والتلوث في العالم

تتابع إريكا قائلة "في هذا المشهد، كان من المتوقع أن يكون التكيف استجابة ثانوية مع فشل جهود التخفيف. مع ذلك، طالما أن الآثار السلبية لتغير المناخ تؤثر بشكل متزايد على حياة الناس وسبل عيشهم، ويتقدم العلم في ربط النقاط، بدلا من الاستجابة الثانوية، يبدو أن التكيف ضروري". بمرور الوقت، تطور الاهتمام بالتكيف، وظهر جليا في خطة عمل بالي (COP13)، وكذلك في إطار التكيف في كانكون (COP16)، وأشار "اتفاق باريس" بصورة واضحة إلى الهدف العالمي للتكيف. لكن، لا يزال هناك العديد من العراقيل في المفاوضات المتعلقة به، كونه يحتاج للتمويل المناخي، والعائد منه يختلف عن عائد استثمارات التخفيف.

منح أم قروض للتمويل المناخي؟

يدفعنا ما سبق إلى النظر في "خطة مارشال" مرة أخرى، التي كانت تدعم أوروبا ماليا بالمنح والقروض، مما جعل الأمر يسيرا على الدول الأوروبية في برنامج تعافيها الاقتصادي. لكن الحسابات تتغير عندما يصل الأمر إلى التمويل المناخي، فتصر الدول الممولة على إعطاء قروض وليس تقديم منح، إذ يقول الدكتور فاضل قابوب "كانت 'خطة مارشال' في الغالب عبارة عن منح، وليست قروضا وفخا اقتصاديا". وعلى الرغم من ذلك "وبطريقة ما، تقول الولايات المتحدة وأوروبا وبقية الملوثين التاريخيين اليوم إنهم لا يملكون المال لتمويل الأضرار البيئية التي تسببوا بها، وهذا مجرد عذر. الاقتصاد واضح جدا. يمكنهم تحمل ذلك، لكن الإرادة السياسية غير موجودة".

.أ.ف.ب

وباعتباره مؤتمر الأطراف المالي، يرى قابوب أن المفاوضات لم تفشل في "كوب 29" من الناحية الفنية، لأن الموافقة تمت عليه، أي أن المفاوضات كانت ناجحة على الورق. لكنها لم تنجح من منظور الدول النامية لسببين: الأول، لم يكن حجم التمويل كافيا، إذ قدر التعهد النهائي بـ300 مليار دولار، بينما تجاوز المطلوب تريليون دولار.

انقسامات في دول الجنوب

والسبب الثاني هو نوع التمويل المحفز للديون. ويوضح قابوب "المصطلح المستخدم هو حشد 300 مليار دولار، والحشد لا يعني التمويل العام، وليس المنح، بل القروض من مصارف التنمية المتعددة الأطراف من القطاع الخاص، مما يعني على الأرجح الإيقاع الاقتصادي من النوع الذي رأيناه بخصوص الـ 100 مليار دولار التي تم تقديم معظمها في شكل قروض غير ميسرة، أي بأسعار فائدة مرتفعة، وبالتالي دفع الدول النامية إلى أزمة ديون أعمق".

على الرغم من أن الجنوب العالمي من أغنى المناطق على مستوى العالم من حيث الموارد الطبيعية وإمكانات الطاقة المتجددة، فإن دوله، بسبب قوى الاستعمار، مصممة على أن تكون مصدر المواد الخام الرخيصة للدول الصناعية، وأن تستهلك الناتج الصناعي من الشمال العالمي، وتكون موقعا للتكنولوجيا القديمة التي لم تعد دول الشمال في حاجة إليها. ويلفت قابوب إلى الانقسامات الواضحة بين دول الجنوب وقال "نحن لسنا أقلية في النظام، بل نحن منقسمون للغاية، مما يعني أن ثقلنا الاقتصادي غير منظم ومستغل استراتيجيا لممارسة الضغط. وهذه هي القطعة المفقودة من اللغز في المناخ والمفاوضات والديون. في أي مفاوضات على المستوى المتعدد الأطراف، يتمتع الجنوب العالمي المتحد، بشكل جماعي، بالثقل الاقتصادي والجيوسياسي المحتمل لممارسة هذا النوع من الضغط".

"خطة مارشال" ليست متاحة

من أبرز التعقيدات في قضية التمويل المناخي، عدم وجود خطة واضحة ومنظمة في هذا الإطار. يرى الدكتور هشام عيسى، المنسق المصري السابق لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في شأن تغير المناخ، أنه لكي تكون قضية تمويل المناخ متكاملة، يجب وضع نظام واضح يلزم الدول المتقدمة تمويل العمل المناخي، ويقول لـ"المجلة": "يجب أن تكون مصادر التمويل محددة ومستدامة. على سبيل المثل، باستطاعة الدول المتقدمة تحديد نسبة من الناتج المحلي الإجمالي لها، نصف في المئة، ربع في المئة، أيا كان، لكن المهم أن تكون نسبة واضحة للتمويل المناخي. بعد ذلك، يتم ترتيب أولويات المشروعات، سواء مشاريع التخفيف، التكيف، نقل القدرات والتكنولوجيا، إلخ".

من جانب آخر، لا يوجد قوانين ملزمة أو قواعد منظمة مثل "خطة مارشال"، ولتحقيق هذا، هناك حاجة إلى الضغط في المفاوضات. وبحسب الدكتور فاضل قابوب "يجب أن يكون هناك إجماع وتصويت للغالبية في أي عملية متعددة الأطراف. وهذا يعني أن الدول التي تتمتع بأكبر وزن اقتصادي وجيوسياسي، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تميل إلى التأثير على هذه العملية، وهي الدول المسؤولة عن دفع التكاليف. ولا تريد هذه الدول وضع نفسها في موقف ملزم قانونا".

font change