أسماها الرئيس السوري أحمد الشرع "قهر الجغرافيا"، ويطلق عليها الكثير من اللبنانيين "لعنة الجغرافيا"، ولكن الجغرافيا بين البلدين، أمر ثابت لن يتغير، وسيبقى البلدان جارين أيا كان الحاكم فيهما.
منذ لحظة سقوط النظام السوري، وهروب بشار الأسد إلى موسكو، عمت الاحتفالات الساحات في سوريا كما في لبنان، لا أحد ينكر جرائم الأسدين في لبنان، دخل حافظ الأسد لبنان على دماء الشهيد كمال جنبلاط، وأخرج منه على دماء الشهيد الرئيس رفيق الحريري، وبين الاغتيالين قتل نظام الأسدين مئات آلاف السوريين واللبنانيين.
لحظة سقوط الأسد، وتولي أحمد الشرع زمام السلطة في دمشق، هي لحظة حاسمة في تاريخ البلدين، هي المرة الأولى والفرصة الأولى، لقيام علاقات طبيعية بين بلدين تجمع بينهما الجغرافيا، كما التاريخ والعلاقات العائلية.
الشرع لا يترك مناسبة إلا ويعلن فيها أن دمشق ترغب بأفضل العلاقات مع لبنان، وأنها لا تريد أن تكون عامل عدم استقرار، لا عامل استقواء بين اللبنانيين، عشرات المسؤولين الحالين والسابقين، يرسلون رسائل إلى دمشق، يرغبون بلقاء الرئيس، وفي المقابل ترفض دمشق إحياء فكرة "عنجر"، وعنجر هي مدينة لبنانية، كانت مقرا أمنيا شغله كل من رئيسي فرع الاستخبارات في القوات السورية في لبنان (اللواء غازي كنعان، وبعده العميد رستم غزالة).
بين البلدين الكثير من الملفات العالقة، بعضها يعود لحقبة الاستقلال، كملف ترسيم الحدود، وبعضها لحقبة الوجود العسكري السوري في لبنان، وبعضها يعود لحقبة الثورة السورية، وتدخل "حزب الله" اللبناني إلى جانب قوات الأسد بالقتال ضد السوريين، الذين انتفضوا في مارس/آذار 2011.
الشرع لا يترك مناسبة إلا ويعلن فيها أن دمشق ترغب بأفضل العلاقات مع لبنان، وأنها لا تريد أن تكون عامل عدم استقرار، لا عامل استقواء بين اللبنانيين
هناك نية عند الحكومة اللبنانية، ومصلحة لمعالجة هذه الملفات، وهناك نية عند الجانب السوري، وقرار جدي لمعالجة جميع الملفات، ضبط الحدود مصلحة مشتركة، لبنان التزم أمام المجتمع الدولي بعد الحرب الأخيرة بين "حزب الله" وإسرائيل على ضبط الحدود، وخصوصا أمام تهريب السلاح والمخدرات، سوريا أيضا تعي أن ضبط الحدود، هو مصلحة أمن قومي، من هذه الحدود يحاول "حزب الله" ومن خلفه إيران، التسلل إلى سوريا لزرع الفتنة وزعزعة الاستقرار.
ملف المفقودين اللبنانيين في سجون الأسدين، ملف شائك ولكنه ضرورة لطي صفحة سوداء حكمت البلدين، ولكن يتجاهل بعض اللبنانيين، أن هناك أكثر من 300 ألف مفقود سوري في سجون الأسد الأب والولد، وأن هذا الأمر، وإن كان أولوية، إلا أنه يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد والتقنيات الحديثة لمعالجته، ولا يمكن أن يظن عاقل أن الملف يُحل بقرار سياسي فقط، وليس خلال أيام أو أسابيع.
اللافت في لبنان، وفي الوقت الذي تكرر الحكومة اللبنانية رغبتها ونيتها بإقامة أفضل العلاقات مع سوريا، هو خروج أصوات من داخل الحكومة نفسها، للتشويش على هذا الأمر، ومن لا يعرف لبنان، يظن أنه فقط حلفاء الأسد و"حزب الله" هم من يحاولون التشويش، لكن الأمر ليس كذلك.
في لبنان بعض من يحاول التشويش فقط للتشويش، أو ليقول "نحن هنا"، يرفضون إطلاق سراح المعتقلين السوريين من السجون اللبنانية، وهم يدركون تمام الإدراك، أن معظمهم فُبركت لهم ملفات أمنية، تماماً كما كانت تُفبرك لهم، أي للمشوشين، إبان الوجود السوري في لبنان، وحتى بعد خروجه، وفترة سيطرة "حزب الله" على الكثير من مفاصل الدولة.
في لبنان بعض من يحاول التشويش فقط للتشويش أو ليقول "نحن هنا"
نعم العدالة مطلب للجميع، محاكمة من اغتال الرئيس بشير الجميل، ومن اغتال الشهيد لقمان سليم والعشرات بينهما، ومحاكمة من اغتال وقتل مئات آلاف السوريين، ولكن أين المنطق بربط إطلاق سراح معتقلين، على خلفية الثورة السورية، التي انتصرت بمحاكمة مجرمين هاربين من العدالة منذ عشرات السنين؟
هل يجب أن نصدق أن فرقاء معارضين لـ"حزب الله" يعملون اليوم على التشويش على العلاقة بين الدولتين اللبنانية والسورية فقط، لتسجيل مواقف "انتخابية" تصب بمصلحة شد العصب الطائفي، قبل الانتخابات النيابية المقبلة؟ أم أن الأمر أبعد من ذلك؟
هي فرصة أمام البلدين اليوم، فرصة لم تحصل سابقا، وقد لا تتكرر لاحقا، فرصة تعاون حقيقي يستفيد منه لبنان، في إطار انفتاح العالم على سوريا سياسيا واقتصاديا، فهل سيسمح لأسباب ضيقة جدا، أن يضيع البعض هذه الفرصة على البلدين، أم أن إصرار رئيس الحكومة اللبنانية ونائبه، ستكون أقوى من تشويش المشوشين.
وليتذكر الجميع على طرفي الحدود، أن استقرار سوريا، هو شرط أساسي اليوم، لقيام دولة حرة ومستقلة في لبنان، فلندع الصغائر جانبا، وننظر إلى مصلحة البلدين والشعبين، لا إلى مصالح حزبية وطائفية، لا تبني دولا ولا تحقق استقرارا.