الواقعية السورية والتهديدات الإسرائيلية

تحتاج دمشق للعودة إلى الاتفاق الأمني السابق

الواقعية السورية والتهديدات الإسرائيلية

استمع إلى المقال دقيقة

في الوقت الذي تخوض فيه المنطقة معركة مصيرية لتحدد شكل الدولة الوطنية، وللتخلص من إرث الميليشيات التي سيطرت عليها خلال العقود الـ4 الماضية، يبدو رئيس الحكومة الاسرائيلية كمن يخوض حروبا غير متجانسة الأهداف.

أخطأت "حماس" ليلة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولم يعد من ضرورة للتذكير بنتائج هذا الخطأ الكارثي على غزة والفلسطينيين، فالعالم يسمع ويرى ما يعيشه الفلسطينيون من أهوال ومآس. هذا الخطأ الذي كلف الفلسطينيين الكثير تسبب أيضا في خسائر لا تعوض على المحور الإيراني أو ما يعرف بمحور الممانعة.

انتهت قوة "حزب الله" الذي سيطر على لبنان لعقود، ومهما حاول أمينه العام نعيم قاسم ورئيس كتلته النيابية محمد رعد التهديد بحرب أهلية والقول إن "الحزب" بدأ يتعافى من الضربات القاتلة التي تعرض لها بعد "حرب الإسناد"، إلا أن الحقيقة أن "الحزب" كما عرفناه أصبح من الماضي ولم يعد أمامه أي أفق لاستعادة "أمجاد" سطوته، بعد أن قطع شريان الحياة الذي كان يتغذى عليه عبر طريق طهران دمشق مع سقوط نظام الأسد في سوريا ووصول نظام معاد لإيران إلى السلطة بعد كل المجازر والفظائع التي ارتكبتها طهران وأذرعها في سوريا.

بعد أيام من سقوط الأسد وهروبه، وأثناء استقبال الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع لرئيس الحكومة اللبنانية حينها نجيب ميقاتي، تسرب إلى الإعلام كلام على لسان الشرع مفاده إعجاب الشرع بتجربة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وهذا الإعجاب ليس تفصيلا بل هو نهج اتضح مع الوقت أن إدارة الشرع اتخذته لحل ما يمكن حله من مشكلات مع إسرائيل.

انتهى العمل باتفاق فك الاشتباك لعام 1974 بعدما أعطي الجيش السوري أوامر بالانسحاب من جميع مواقعه أثناء رحلة هروب بشار الأسد إلى موسكو، وما هي إلا ساعات قليلة حتى أعلن نتنياهو ذلك.

اعتبرت إسرائيل أن الفرصة مواتية لتدمير ما بقي من الجيش العربي السوري، فاستمرت بشن الغارات على سوريا وتحديدا على مواقع الجيش وأماكن وجود آلياته وأسلحته الثقيلة.

تسرب إلى الإعلام إعجاب الشرع بتجربة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وهذا الإعجاب ليس تفصيلا بل هو نهج تتخذه إدارة الشرع لحل ما يمكن حله من مشكلات مع إسرائيل

لم يكتف نتنياهو بذلك، بل أصر على التدخل في الشؤون الداخلية لسوريا مستغلا حالة عدم الاستقرار التي تعيشها البلاد، فكانت أحداث السويداء كما كان القصف على دمشق، وهذه المرة كان القصف رسالة سياسية أكثر منه أمنية، حتى اغتيال الرئيس أحمد الشرع كان على طاولة نتنياهو لولا التدخل السعودي-الأردني-التركي عبر الأميركيين حيث أدرك أن أي عمل من هذا النوع سينتج عنه انهيار شامل في سوريا لن تستفيد منه إلا طهران و"داعش".

تغيرت لهجة دمشق بعد ذلك، ولكن قرارها لم يتغير، خرج الشرع في خطاب متلفز في ساعات الصباح الأولى بعد قصف إسرائيل لمقر قيادة الأركان ولقصر الشعب وقال: "لسنا ممن يخشى الحرب ونحن الذين قضينا أعمارنا في مواجهة التحديات والدفاع عن شعبنا، لكننا قدمنا مصلحة السوريين على الفوضى والدمار"، لم يلجأ إلى خطاب العنتريات والتهديد والوعيد الذي اشتهرت به "قوى الممانعة" في كل مرة كانت ترد على أي عمل أو تصريح إسرائيلي. أدرك حساسية الوضع السوري الهش وإمكانات سوريا للدخول في أي مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل.

عادت الوساطات خلف الأضواء وتحديدا الأميركية، وكان لقاء باريس الأخير الذي لم يكن اللقاء الأول حسب ما سرب خلال الفترة الماضية في الإعلام، إلا أنها كانت المرة الأولى التي تعلن فيها سوريا عبر وكالة الأنباء الرسمية (سانا) خبر اللقاء، إذ ذكرت أن وزير الخارجية والمغتربين أسعد الشيباني، التقى وفدا إسرائيليا لمناقشة عدد من الملفات المرتبطة بتعزيز الاستقرار في المنطقة والجنوب السوري.

وفي وقت لم تسم الوكالة الوفد الذي التقاه الشيباني، نقل موقع "أكسيوس" الأميركي، أن اللقاء جمع الشيباني  مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، المقرّب من نتنياهو، والمبعوث الأميركي إلى سوريا، توماس باراك.

تحتاج سوريا اليوم للعودة إلى الاتفاق الأمني السابق، ولكن المنطقة أيضا تحتاج الأمر نفسه، ففتح أي جبهة حرب في سوريا سيعني الفوضى

وما هي إلا دقائق على الإعلان الرسمي عن اللقاء حتى بدأت حملة إعلامية شرسة ضده. تزعّم الحملة إعلاميون وصحافيون عرب داعمون لمحور الممانعة وإن اختلفوا أحيانا تكتيكيا أو كلاميا مع سياسة إيران في المنطقة. حملة تتهم سوريا بالتخاذل والتطبيع والجلوس مع الإسرائيلي الذي يجوّع أطفال غزة. تجاهل هؤلاء أن "حماس" نفسها تفاوض إسرائيل عبر وسيط، كما تجاهلوا أن "حزب الله" فاوض إسرائيل عبر الوسيط الأميركي للوصول لوقف إطلاق نار.

تجري المفاوضات السورية-الإسرائيلية اليوم وحسب ما ذكرت "سانا" حول خفض التصعيد والتوصل لتفاهمات تدعم الاستقرار في المنطقة، وإعادة تفعيل اتفاق 1974. في الواقع لم يذكر أي مصدر أن موضوع التطبيع أو التوصل إلى اتفاق سلام هو ما يتم بحثه اليوم.

تحتاج سوريا اليوم للعودة إلى الاتفاق الأمني السابق، ولكن المنطقة أيضا تحتاج الأمر نفسه، ففتح أي جبهة حرب في سوريا سيعني الفوضى والتي تنبه العرب والأميركيون إلى أن المستفيد الوحيد منها سيكون إيران لإعادة إحياء الميليشيات التابعة لها، و"داعش" الذي ينمو في الفوضى والحروب.

font change