عمر ياغي... قصة اللاجئ الذي بنى "بيوتا من الذرات"

من تفاعلات بسيطة إلى هياكل معقدة

المجلة
المجلة

عمر ياغي... قصة اللاجئ الذي بنى "بيوتا من الذرات"

حين ركب العالِم العربي عمر ياغي طائرته أمس، لم يكن ليدرك أنه سيصل إلى يوم من أعظم أيام حياته. لم يخطر في باله أن المكالمة الآتية من ستوكهولم ستغيّر مسار تاريخه العلمي، وتضع اسمه في سجل الخالدين بجائزة نوبل في الكيمياء لعام 2025. كانت رحلة عادية وكان يوما عاديا له — كأي يوم يمضيه بين طلبته في جامعة بيركلي، أو بين أنابيب المختبر ومجاهر الذرات التي يحبها — لكن العالِم استيقظ ليجد الكيمياء وقد منحت تاجها لابن عمّان الذي شيّد "بيوتا من الذرات" وربط بين العلم والحياة بخيوط من الإبداع. لقد نام باحثا، واستيقظ رمزا عربيا عالميا لمعنى المثابرة والاكتشاف.

تبدأ القصة في منتصف القرن العشرين وقبل حتى ولادة ياغي، كانت الكيمياء الصلبة لا تزال تعاني من حدودها القديمة. فالمواد المسامية – مثل الزيوليت والسيليكا – كانت معروفة، لكنها محدودة الشكل والتركيب، تشبه إلى حد بعيد الكهوف الحجرية داخل عالم الكيمياء، صلبة، وثابتة، ولكنها مغلقة على ذاتها. لم يكن أحد يتخيل آنذاك أن في إمكان العلماء بناء "هياكل" من الذرات تشبه الأبنية المعمارية الحديثة، يمكن تعديلها وتصميمها بدقة لتؤدي وظائف محددة. كان ذلك الحلم يبدو أقرب إلى الخيال العلمي منه إلى المختبر.

لكن في الستينيات والسبعينيات، بدأت فكرة جديدة تتسلل إلى عقول الكيميائيين: ماذا لو أمكننا دمج علم الفلزات بعلم العضويات لإنشاء مواد هجينة، تمتلك صلابة الفلز ومرونة المركبات العضوية في آن واحد؟ فبدل أن تكون الروابط المعدنية مجرد نقاط تماس بين ذرات جامدة، يمكن أن تصبح محاور لتكوين شبكات ضخمة ثلاثية الأبعاد، تفتح المجال لمسامات يمكن التحكم في حجمها، وشحنها، ووظيفتها.

كان هذا السؤال في جوهره هو البذرة الأولى لما سيعرف لاحقا بـ"الإطارات العضوية الفلزية" MOFs وهي المواد التي ستقود ثلاثة علماء – روبسون، كيتاغاوا، وياغي – بعد عقود إلى جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2025.

في أوائل الثمانينيات، كان الكيميائي البريطاني روبرت روبسون يعمل على تطوير بلورات معقدة تضم أيونات فلزية وروابط عضوية. لم يكن يسعى إلى تطبيق محدد، بل كان يحاول فهم كيف يمكن هذه الوحدات أن تتجمع لتُكون هياكل أكبر وأكثر انتظاما.

موقع جائزة الملك فيصل
خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز يُكرّم عمر ياغي بجائزة الملك فيصل في العلوم لعام 2015

في تلك الفترة، لم يكن أحد ينظر إلى هذه الشبكات بوصفها مواد وظيفية. كانت تعتبر مجرد "فضول كيميائي" – تركيب جميل على الورق، لكن بلا فائدة حقيقية. غير أن روبسون لاحظ شيئا مثيرا، فعندما تتجمع وحدات من الفلزات والروابط العضوية بطريقة معينة، فإنها لا تكون مجرد مركب، بل شبكة بلورية تمتد في الفضاء، تحتوي على فراغات داخلية. بدا الأمر كما لو أن الجزيئات بَنَت بيتا بأيديها، مع جدران من الذرات ونوافذ من الفراغات.

في عام 1989، نشر روبسون أول ورقة علمية تصف تركيبا ثلاثي الأبعاد متكررا من فلزات وروابط عضوية. لم يكن يعرف أنه بذلك يضع أول حجر في بناء علم جديد بالكامل. لكن ما فعله لاحقا كان أشبه بإرساء قواعد العمارة الكيميائية الحديثة: هندسة الفراغ.

كان العالم وقتها مفتونا بفكرة المواد المسامية الطبيعية، مثل الزيوليت، التي تستخدم في التكرير البترولي والامتصاص. لكن الزيوليت له عيب قاتل: لا يمكن تصميمه بحرية. فبنيته محددة طبيعة، ومساماته غير قابلة للتعديل.

أما فكرة روبسون فكانت ثورية لأنها تقترح عكس ذلك تماما: "إذا كان في إمكاننا أن نختار الفلز ونوع الرابط العضوي، ففي إمكاننا أن نصمم المادة كما نصمم مبنى معماريا". مع ذلك، لم يكن أحد يعلم بعد كيف يمكن جعل هذه الهياكل مستقرة. فغالبية تلك الشبكات كانت تنهار عند محاولة إزالة الجزيئات المحتجزة بداخلها، مثل المذيبات أو الماء.

في جامعة أريزونا بالولايات المتحدة، كان ياغي – الكيميائي المولود في الأردن الفلسطيني الأصل والسعودي الأميركي – يعمل على مشروع طموح لبناء مواد جديدة يمكنها امتصاص الغازات بكفاءة عالية

في نهاية الثمانينيات، في جامعة كيوتو اليابانية، كان شاب هادئ الملامح اسمه ساتوشي كيتاغاوا (Satoshi Kitagawa) يعمل في مجال كيمياء التنسيق، باحثا عن مواد جديدة يمكنها تخزين الغازات أو حمل الجزيئات النشطة. في عام 1997، وبينما كان يدرس مادة تنسيقية تحتوي على النحاس وروابط عضوية طويلة، لاحظ أن المادة يمكن أن تفقد المذيبات من مسامها دون أن تنهار البنية. كان ذلك اكتشافا غير متوقع على الإطلاق. فالمواد التي كانت تنهار عادة بمجرد تجفيفها، ظلت هذه المرة صامدة، محتفظة بهيكلها المسامي.

كتب كيتاغاوا في دفتره حينها ملاحظة أصبحت شهيرة لاحقا: "المادة تبدو حية… تتنفس عندما تفقد المذيب وتعود إلى حالتها الأولى عند إعادة الامتلاء." لقد وُلدت أول مادة "قابلة للتنفس" في عالم المواد الصلبة.

دليل تجريبي

كان على كيتاغاوا أن يجد اسما لهذا النوع من المواد الجديدة. لم تكن "الشبكات التنسيقية" أو "المركبات المعقدة" تعبر بدقة عن الظاهرة. ففي هذه المواد، الفلزات ليست مجرد نقاط تجاذب كيميائي، بل "عقد" تربط بينها "روابط عضوية" لتشكل هيكلا هندسيا معقدا. ومن هنا جاءت التسمية التي ستصبح أيقونية: الإطارات الفلزية العضوية.

وفي ورقته الشهيرة المنشورة عام 1999، عرض كيتاغاوا أول دليل تجريبي على أن هذه المواد يمكن أن تحتفظ بمسامها وتُظهر سلوكا قابلا للعكس أثناء الامتصاص والتفريغ. هذه اللحظة اعتبرتها لجنة نوبل لاحقا "نقطة التحول التي نقلت الفكرة من فضول علمي إلى ثورة في علم المواد".

لو حاولنا أن نرسم الخط الزمني لتطور الفكرة، لوجدنا أن روبسون وضع البذرة النظرية: أن الفلزات والروابط العضوية يمكن أن تُكون شبكات هندسية. ثم جاء كيتاغاوا ليُبرهن أن هذه الشبكات ليست فقط ممكنة، بل قابلة للحياة كمواد مستقرة ذات مسامية دائمة. بهذا، تحول الحلم من بنية مثالية على الورق إلى مادة واقعية في المعمل يمكن لمسها ودراستها وتطبيقها.

لكن كانت هناك خطوة أخرى ضرورية قبل أن تُصبح الإطارات الفلزية مادة يتحدث عنها العالم: كيف يمكن التحكم في البنية والمساحة السطحية والمسامية بطريقة منهجية؟ وهنا يدخل اسم ثالث سيغير كل شيء: عمر ياغي.

REUTERS
شاشة تعرض ميدالية جائزة نوبل قبل إعلان جائزة نوبل في الكيمياء

في جامعة أريزونا بالولايات المتحدة، كان ياغي – الكيميائي المولود في الأردن – يعمل على مشروع طموح لبناء مواد جديدة يمكنها امتصاص الغازات بكفاءة عالية. كان يعرف أعمال روبسون وكيتاغاوا، لكنه أراد أن يذهب أبعد: أن يُحول الفكرة من تجارب متفرقة إلى منهج علمي لبناء المواد من الألف إلى الياء. بدأ ياغي يفكر كما يفكر المهندسون المعماريون: "إذا كانت الروابط هي الجسور، والعقد الفلزية هي الأعمدة، فبإمكاني أن أصمم البنية كما أشاء."

قد يبدو الأمر اليوم بديهيا – فالعلماء الآن يصنعون مئات الأنواع من مواد الإطارات الفلزية – لكن في التسعينيات، كان هذا التحول أقرب إلى انقلاب مفهومي إذ غيرت الطريقة التي نفكر بها في المواد الصلبة، لم تعد تُعتبر تراكيب ثابتة، بل هياكل قابلة للتصميم والتعديل مثل برامج هندسية ثلاثية الأبعاد.

تلك القفزة الفكرية وحدها كانت كفيلة بجعل لجنة نوبل ترى فيها "فتحا علميا يُقارن بثورة البوليمرات في القرن العشرين".

على المستوى الفلسفي، تمثل الإطارات الفلزية العضوية مثالا رائعا على كيف يمكن للكيمياء أن تُعيد تعريف الحدود بين "الصلب" و"الحي". فهي مواد تبدو جامدة، لكنها "تتنفس" وتمتلك قدرة على امتصاص وإطلاق الجزيئات كما لو كانت كائنات دقيقة. هي تُمثل تزاوجا مذهلا بين التركيب البلوري الدقيق والمرونة الديناميكية – مزيج كان يُظن مستحيلا لعقود.

ولد عمر ياغي في عمان عام 1965 لأسرة فلسطينية لاجئة من قرية المسمية التي أخليت قسرًا عام 1948. وعاش طفولته في منزل صغير مزدحم بالحياة والبشر — بيت يضم أطفالا كثيرين وحيوانات منزلية، بلا كهرباء ولا ماء جار. يقول في أحد لقاءاته: "تعلمت من ذلك المكان معنى النُّدرة، وكيف تصنع شيئًا من لا شيء".

وفي سن الخامسة عشرة، شجعه والده على السفر إلى الولايات المتحدة، مؤمنا بأن مستقبله لا يمكن أن يبنى إلا على التعليم. وصل ياغي إلى أمريكا لا يعرف سوى القليل من الإنجليزية، فبدأ من الصفر في كلية هدسون فالي المجتمعية، ثم انتقل إلى جامعة ولاية نيويورك في ألباني حيث أكمل دراسته الجامعية.

ثم نال درجة الدكتوراه من جامعة إلينوي في أوربانا–شامبين عام 1990 بإشراف الكيميائي الشهير والتر كلمبرر، ثم انتقل إلى جامعة هارفارد باحثًا زائرا بعد فوزه بزمالة من مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية. بدأ ياغي مسيرته الأكاديمية أستاذا مساعدًا في جامعة ولاية أريزونا (1992–1998)، ثم انتقل إلى جامعة ميشيغان حيث شغل كرسي روبرت باري في الكيمياء.

في عام 1999، أعلن ياغي أول مادة من هذا النوع أطلق عليها اسم MOF-5، وكانت هذه نقطة تحول تاريخية في الكيمياء الحديثة

وفي أواخر التسعينيات، كان المشهد العلمي مهيأ لتغيير جذري. فالاكتشافات التي أنجزها روبسون وكيتاغاوا كانت بمثابة بذور متناثرة على أرض خصبة، تنتظر من يجمعها ويحولها إلى علم متكامل. ذلك الشخص كان عمر ياغي، الكيميائي الذي امتلك رؤية غير تقليدية جعلته ينظر إلى المادة الصلبة لا كمجموعة ذرات ثابتة، بل كنظام هندسي يمكن تصميمه كما يصمم المهندس ناطحة سحاب. لم يكن ياغي مجرد باحث يجرب ويلاحظ، بل كان يضع أسس ما يمكن وصفه اليوم بـ"هندسة الفراغ" أو "الكيمياء البنيوية".

حين بدأ ياغي عمله في جامعة أريزونا منتصف التسعينيات، كان هدفه بسيطا في ظاهره ومستحيلا في جوهره: بناء مادة صلبة مسامية قابلة للتصميم الذري. كان يرى أن الخطوة الأولى هي وضع مبادئ عامة يمكن من خلالها ربط وحدات عضوية بفلزية، بطريقة تتيح التحكم الكامل في شكل المسامات وحجمها وكيميائها الداخلية. فبدل الاعتماد على الطبيعة لتشكيل المواد، أراد أن يصنعها الإنسان وفق مخطط محدد. وقد لخص فكرته في عبارة شهيرة أصبحت محور علم جديد: "الكيمياء الشبكية".

الفكرة الجوهرية التي ميزت الكيمياء الشبكية عن غيرها هي أن البنية النهائية للمادة يمكن التنبؤ بها مسبقا من خلال اختيار نوعين من اللبنات: العقد (العقد الفلزية) والوصلات (الروابط العضوية). فإذا كانت العقد تحدد شكل الإطار العام، فإن الوصلات هي التي تكون الجسور والمسافات بين هذه العقد، ومن ثم تتحكم في المسامية ومساحة السطح الداخلية. بهذا الأسلوب البنائي، استطاع ياغي أن يحول فكرة MOFs إلى علم تصميم حقيقي، أشبه بما فعله المعماريون حين انتقلوا من الأكواخ إلى المدن المخططة.

عصر جديد

في عام 1999، أعلن ياغي أول مادة من هذا النوع أطلق عليها اسم MOF-5، وكانت هذه نقطة تحول تاريخية في الكيمياء الحديثة. المادة الجديدة احتوت على عقد من الزنك وروابط عضوية من حمض التيرفثاليك، لتشكل شبكة بلورية مذهلة ذات مسامية غير مسبوقة. الأهم أن المساحة السطحية للمادة تجاوزت 3000 متر مربع لكل غرام واحد، وهو رقم لم يُسجل لأي مادة صلبة في ذلك الوقت. وللمقارنة، فإن مترا واحدا من هذه المادة يمكن أن يحتوي على مساحة سطحية تعادل مساحة ملعب كرة قدم مضغوطة داخل حبيبات مجهرية.

كان اكتشاف MOF-5 بمثابة إعلان رسمي لميلاد عصر جديد في علم المواد. فالمسامية لم تعد ظاهرة عشوائية تظهر في بعض المعادن أو الأكاسيد الطبيعية، بل أصبحت خاصية قابلة للتصميم والتعديل. وبعد ذلك بسنة واحدة فقط، بدأ ياغي وفريقه بتطوير سلسلة كاملة من الإطارات أطلقوا عليها أسماء مثل MOF-74 وIRMOF وZIFs، وكل منها يتميز ببنية مختلفة ووظائف متخصصة. هذه العائلة الجديدة من المواد جعلت من الممكن تخزين الهيدروجين والميثان بكثافات غير مسبوقة، وامتصاص غازات سامة، وحتى التقاط ثاني أكسيد الكربون من الجو.

لكن عبقرية ياغي لم تكن في الاكتشاف وحده، بل في تحويل الفوضى إلى نظام. لقد وضع قواعد واضحة لبناء المادة من وحدات بسيطة، بحيث يمكن أي باحث في العالم أن يصمم الإطارات الفلزية العضوية بمجرد اختيار نوع الفلز ونوع الرابط العضوي المناسب. بذلك تحولت الكيمياء من علم يعتمد على التجريب المستمر إلى علم تصميم يمكن التحكم في نتائجه مسبقا. وكما وُصفت أعماله في تقرير نوبل، فقد فتح الباب أمام "تحكم بشري في الفراغ الذري".

ومع مرور السنوات، أصبحت مختبرات العالم تتسابق في بناء مكتبات من الإطارات الفلزية العضوية. فبفضل القواعد التي وضعها ياغي، صار في الإمكان بناء آلاف الهياكل المختلفة، بعضها يشبه الإسفنج، وبعضها يشبه الخلايا الحية، وبعضها يتمدد وينكمش كالرئة أثناء التنفس. لم تعد المادة الصلبة شيئا جامدا، بل أصبحت كيانا ديناميكيا يتفاعل مع محيطه. هذا التحول غير نظرة العلماء إلى مفهوم المادة ذاته، وأصبحوا يتحدثون عن "ذكاء المادة" و"مرونتها" كما لو كانت كائنا حيا.

من الناحية العلمية، كان أحد أهم إنجازات ياغي، قدرته على تحقيق توازن بين الصلابة الكيميائية والمرونة الفيزيائية. فغالبية المواد الصلبة تنهار عندما تتعرض للضغط أو التمدد، لكن بعض الإطارات الفلزية التي صممها يمكن أن تتغير أبعادها أو حجم مسامها دون أن تفقد انتظامها البلوري. هذه الخاصية التي تُعرف باسم "المرونة التنفسية" جعلت MOFs مثالية لتطبيقات الامتزاز الذكي، حيث يمكنها امتصاص جزيئات معينة ثم إطلاقها عند تغيير درجة الحرارة أو الضغط.

وقد سمح ذلك بفتح مجالات جديدة بالكامل، خصوصا في الطاقة والبيئة. فبدلا من البحث عن خزانات ضخمة لتخزين الغازات، أصبح في الإمكان تعبئتها داخل مواد صلبة آمنة يمكن التحكم بها بسهولة. كما أظهرت أبحاث لاحقة أن بعض MOFs يمكنها امتصاص ثاني أكسيد الكربون بشكل انتقائي حتى في وجود بخار الماء، وهو إنجاز لم تستطع تحقيقه أي مادة أخرى بالكفاءة نفسها. بهذه الطريقة، تحولت MOFs من فضول أكاديمي إلى أداة محتملة في مكافحة تغير المناخ.

كان ياغي يدرك أن جوهر الاكتشاف لا يكتمل إلا إذا أصبح متاحا للجميع، لذلك أطلق مشروعا طموحا أطلق عليه اسم "مكتبة الإطارات الفلزية"، وهي قاعدة بيانات مفتوحة تسمح للعلماء من أنحاء العالم بتسجيل هياكلهم الجديدة ومقارنتها بعضها ببعض. هذه الخطوة جعلت مجال MOFs أحد أسرع المجالات نموا في الكيمياء الحديثة، حيث يتضاعف عدد المواد المكتشفة تقريبا كل عام.

من الناحية النظرية، ما فعله ياغي يمكن اعتباره نقلة فلسفية في الكيمياء

لم تكن إنجازات ياغي محصورة في الجانب الأكاديمي فحسب، بل امتدت إلى الصناعة. فقد أنشأ بالتعاون مع شركات كبرى مشاريع لتطوير مواد MOF لاستخدامها في تنقية الهواء وتخزين الطاقة والتقاط الغازات الصناعية. كما نجح في تطوير نوع جديد من الإطارات أطلق عليه COFs أو "الإطارات العضوية التساهمية"، وهي شبكات تشبه MOFs ولكن بدون فلزات، مما يمنحها استقرارا أكبر في البيئات القاسية. وهكذا توسع مفهوم الكيمياء الشبكية ليشمل عائلات جديدة من المواد التي تجمع بين التنظيم البلوري والدقة الجزيئية.

من الناحية النظرية، ما فعله ياغي يمكن اعتباره نقلة فلسفية في الكيمياء. فبدل أن تكون المادة نتيجة تفاعل كيميائي غير متحكم فيه، أصبحت هي الهدف الذي يُبنى وفق تصميم مسبق. إنها المرة الأولى في تاريخ العلم التي يصبح فيها الكيميائي "مهندسا للفراغ" وليس مجرد خادم للتفاعلات. وربما لهذا السبب قالت لجنة نوبل في تقريرها إن أعمال ياغي تمثل "تحولا من كيمياء الاكتشاف إلى كيمياء البناء".

لكن ما يميز هذه القصة أكثر هو التناغم بين العقول الثلاثة التي أسست المجال: روبسون الذي وضع الإطار المفهومي، كيتاغاوا الذي أثبت إمكان الاستقرار البنيوي، وياغي الذي بنى على اكتشافاتهما منهجا شاملا جعل من الممكن تصميم المواد كما نصمم الجسور والمباني. إنها قصة تشبه سمفونية علمية عزف كل منهم فيها نغمة مختلفة، لكنها معا صنعت لحنا كيميائيا جديدا.

الإرث الحقيقي

اليوم، بعد أكثر من ربع قرن على نشر أول أوراق MOF، تحولت هذه المواد إلى موضوع أبحاث في آلاف المختبرات حول العالم، وتُستخدم في أكثر من مئة تطبيق صناعي وتجاري، من تخزين الهيدروجين في السيارات إلى استخلاص الذهب من مياه البحر. وقدرت بعض الدراسات أن عدد الهياكل المعروفة تجاوز تسعمئة ألف تركيب، وكل عام تُضاف إليها آلاف جديدة. كل ذلك بدأ من فكرة واحدة: أن المادة ليست قدرا طبيعيا، بل نظام يمكننا تصميمه من الصفر.

AFP
هاينر لينكه، رئيس لجنة نوبل للكيمياء، يشرح الابتكار باستخدام نموذج خلال مؤتمر صحافي للفائزين بجائزة نوبل في الكيمياء لعام 2025

بهذا الاكتشاف، لم يعد العلم يبحث فقط عن المواد، بل أصبح يبتكرها. والنتيجة أن الكيمياء لم تعد مجرد علم للتفاعل، بل علم للبناء. وهذا هو الإرث الحقيقي لياغي وزملائه، إرث جعل من الذرات لبنات بناء لعالم جديد تُكتب فيه القوانين بيد الإنسان، لا بيد المصادفة.

بعد أن رسخ عمر ياغي أسس الكيمياء الشبكية، كانت الخطوة التالية هي اختبار هذا البناء الجديد في ميدان الواقع. لم يكن الهدف فقط إثبات أن الإطارات الفلزية العضوية يمكن بناؤها، بل أن يكون لها تأثير فعلي في عالم الطاقة والبيئة والصناعة. ومع مطلع الألفية الجديدة، بدأ العلماء يدركون أن تلك المواد المسامية لا تمثل مجرد اكتشاف أكاديمي، بل ثورة صامتة في مفهوم "المادة الوظيفية".

في ذلك الوقت، كانت البشرية تواجه تحديات معقدة: تغير مناخي متسارع، وازدياد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وحاجة متزايدة إلى تخزين طاقة نظيفة. فمصادر الطاقة المتجددة مثل الشمس والرياح تعاني من مشكلة قديمة هي عدم الاستقرار الزمني، أي أن الكهرباء تُنتَج عندما لا يكون الطلب في ذروته. وكان السؤال الملح: أين يمكن أن نحتفظ بهذه الطاقة؟ وكيف يمكن تخزين الغازات بكثافة عالية دون الحاجة إلى ضغطها في أسطوانات خطيرة؟

بدأت التطبيقات الطبية تلوح في الأفق. فالمسامات النانوية داخل MOFs يمكن أن تحمل جزيئات دواء وتطلقها ببطء في الجسم، مما يتيح علاجا أكثر دقة وفعالية

جاءت الإطارات الفلزية العضوية لتقدم إجابة غير متوقعة. فبفضل مسامها الدقيقة ومساحتها السطحية الهائلة، يمكنها احتجاز كميات ضخمة من الغازات في حجوم صغيرة. بدأ الاهتمام أولا بتخزين الهيدروجين، ذلك العنصر الذي يُعد وقود المستقبل. فالهيدروجين غاز خفيف جدا، يصعب ضغطه أو تسييله، وتخزينه يمثل عقبة رئيسة أمام انتشار سيارات خلايا الوقود. لكن بعض أنواع MOFs، خصوصا تلك التي طورها فريق ياغي مثل MOF-177 وMOF-210، أظهرت قدرة مدهشة على امتصاص كميات من الهيدروجين تفوق أي مادة معروفة حينها.

كانت هذه النتيجة بمثابة صدمة إيجابية. فالمواد التي تبدو مسحوقا عاديا تحت المجهر، استطاعت أن تخزن غازا خفيفا بكثافة تعادل أحيانا ضغط الأسطوانات المعدنية، لكن في ظروف معتدلة من الحرارة والضغط. بدأ الحديث عن "بطاريات غازية صلبة" قائمة على MOFs، وعن إمكان استخدامها في السيارات أو الطائرات الصغيرة أو حتى في الأجهزة المحمولة. وعلى الرغم من أن الطريق لا يزال طويلا أمام التطبيقات التجارية الواسعة، إلا أن الفكرة وحدها كانت كافية لتغيير طريقة التفكير في الطاقة.

وبينما كانت فرق البحث تعمل على الهيدروجين، بدأت مجموعات أخرى تكتشف ميزة مختلفة لهذه المواد: قدرتها الفائقة على التقاط ثاني أكسيد الكربون. ففي ظل تصاعد القلق من الاحتباس الحراري، صار البحث عن مواد يمكنها امتصاص هذا الغاز من المداخن أو حتى من الهواء الجوي من أولويات العالم الصناعي. ولأن ثاني أكسيد الكربون جزيء صغير قطبي، فإن تصميم مسامات دقيقة تتناسب مع حجمه وشحنته كان تحديا حقيقيا. لكن الإطارات الفلزية العضوية كانت الأنسب لهذا الدور، إذ يمكن تعديل الروابط العضوية داخلها بإضافة مجموعات كيميائية تزيد انجذابها للجزيئات الغازية.

إسفنجة الجزيئات

في عام 2011 أظهر فريق بحثي في جامعة كاليفورنيا أن بعض MOFs قادرة على التقاط أكثر من 20% من وزنها من ثاني أكسيد الكربون في كل دورة، مع قابلية لإعادة الاستخدام دون فقد في الكفاءة. هذا الرقم جعل الشركات تفكر جديا في إنشاء مرشحات صناعية تعتمد على هذه المواد لتنقية الغازات المنبعثة من المصانع ومحطات الطاقة. وقد وصف أحد الباحثين وقتها هذه النتيجة بعبارة لخصت روح الاكتشاف: "لقد وجدنا إسفنجة للجزيئات".

وفي الوقت ذاته، بدأت التطبيقات الطبية تلوح في الأفق. فالمسامات النانوية داخل MOFs يمكن أن تحمل جزيئات دواء وتطلقها ببطء في الجسم، مما يتيح علاجا أكثر دقة وفعالية. كانت هذه الخاصية مثالية لتوصيل الأدوية المضادة للسرطان، التي تحتاج إلى الوصول إلى أنسجة معينة دون الإضرار بالخلايا السليمة. وبالفعل، أُنتجت تجريبيا أنواع من الإطارات الفلزية المحملة عقاقير مثل الدوكسوروبيسين، وأظهرت نتائج واعدة في التجارب الحيوانية. لم يكن العلماء يبالغون حين قالوا إن هذه المواد تمثل "مركبات ذكية تعرف أين تذهب ومتى تعمل".

لكن أكثر ما أدهش المجتمع العلمي هو تنوع التطبيقات التي يمكن أن تخدمها مادة واحدة بتعديلات طفيفة. فمثلا، التغيير البسيط في نوع الفلز – من الزنك إلى النحاس أو الزركونيوم – يؤدي إلى اختلاف كبير في الثبات الحراري والكيميائي للمادة، مما يجعلها مناسبة لمجالات مختلفة. كذلك يمكن تغيير طول الرابط العضوي ليتحكم في قطر المسامات بدقة النانومتر. وكأننا أمام لعبة هندسية مجهرية، فيها يمكن للعلماء أن يرسموا خواص المادة كما يرسم الرسام ألوان لوحته.

لم يتوقف الأمر عند الطاقة أو الطب. فالإطارات الفلزية العضوية وجدت طريقها أيضا إلى مجالات تحليل المياه، واستشعار الغازات السامة، وحتى تحفيز التفاعلات الكيميائية. في كل مرة يكتشف الباحثون خاصية جديدة، يزداد الإيمان بأن هذه المواد تمثل منصة مفتوحة للتطبيقات المستقبلية. وفي بعض المعامل، جرى استخدامها كأغشية لفصل الغازات، إذ يمكنها التمييز بين جزيئات متقاربة في الحجم مثل الأوكسيجين والنيتروجين. هذه القدرة على الفصل الانتقائي جعلت منها بديلا واعدا لتقنيات الفصل التقليدية التي تستهلك طاقة هائلة.

ظهرت المواد المركبة التي تمزج الإطارات الفلزية مع الغرافين أو البوليمرات الموصلة، مما أعطاها خواص إلكترونية جديدة

من الجانب الاقتصادي، بدأت بعض الشركات الناشئة في العقد الثاني من الألفية في تحويل نتائج الأبحاث إلى منتجات تجارية. شركة أميركية طورت مرشحات هواء منزلية تعتمد على MOFs لامتصاص الرطوبة والملوثات، بينما شركة ألمانية استخدمتها في تصنيع أجهزة تنقية هواء سيارات فاخرة. وفي عام 2019 أُعلن مشروع لاستخدام الإطارات الفلزية في استخلاص الماء من الهواء الجاف، حيث تستطيع المادة امتصاص بخار الماء ليلا وإطلاقه نهارا عند ارتفاع الحرارة، منتجة بذلك ماء صالحا للشرب حتى في الصحاري. لقد بدت الفكرة كأنها سحر علمي: مسحوق يحول الهواء إلى ماء.

على الجانب الأكاديمي، كان من المدهش أن العلماء لم يكتفوا ببناء MOFs جديدة، بل بدأوا في دمجها بمواد أخرى لتكوين مركبات هجينة أكثر تعقيدا.

فظهرت المواد المركبة التي تمزج الإطارات الفلزية مع الغرافين أو البوليمرات الموصلة، مما أعطاها خواص إلكترونية جديدة. هذه الهجائن أصبحت تُستخدم الآن في تصميم حساسات متقدمة وأقطاب بطاريات ذات أداء استثنائي. وفي هذا المعنى، أصبحت MOFs أشبه بالمنصة التي يمكن البناء عليها لتطوير أي مادة مستقبلية تقريبا.

ما يجعل هذه القصة أكثر إثارة، هي الطريقة التي غيرت بها رؤية العلماء للعلاقة بين البنية والوظيفة. فقبل ظهور الكيمياء الشبكية، كان الباحثون غالبا يكتشفون المادة أولا ثم يدرسون خصائصها. أما الآن، فقد أصبح في الإمكان تصميم الخصائص قبل صنع المادة. هذا الانقلاب الفكري هو الذي جعل لجنة نوبل تصف المجال بأنه "انتقال من كيمياء الاكتشاف إلى كيمياء التصميم"، وهي العبارة التي تلخص روح العصر العلمي الجديد.

AFP
لجنة نوبل للكيمياء تعلن أسماء الفائزين بالجائزة

ولأن العلم لا يقف عند حد، فقد بدأت التوجهات الحديثة تستكشف كيف يمكن جعل هذه المواد أكثر استدامة. فالمعروف أن بعض الإطارات القديمة كانت تتفكك بوجود الرطوبة أو الحرارة العالية، لذا يعمل الباحثون الآن على تطوير MOFs مقاومة للظروف القاسية، باستخدام فلزات مثل الزركونيوم والتيتانيوم. وقد نجح فريق من جامعة برنستون في إنتاج نوع من MOF يمكنه البقاء مستقرا عند 400 درجة مئوية دون فقدان مساميته، مما فتح الباب لاستخدامها في المحركات الصناعية ومحطات توليد الطاقة.

أول المجالات التي أظهرت الإمكانات الهائلة لهذه المواد كان تخزين الغازات

ومع ذلك، تبقى أعظم إنجازات هذا المجال هي تلك التي تمس كوكب الأرض نفسه. ففي وقت يعاني فيه العالم من انبعاثات هائلة وارتفاع درجات الحرارة، يمكن أن تمثل هذه المواد جزءا من الحل. فقد اقترحت دراسات حديثة إمكان دمج MOFs في فلاتر هوائية ضخمة توضع فوق المباني أو داخل المصانع، بحيث تلتقط ثاني أكسيد الكربون مباشرة من الهواء وتخزنه أو تعيد استخدامه في صناعة الوقود الاصطناعي. بل إن بعض الشركات بدأت بالفعل تجارب تجارية محدودة في هذا الاتجاه.

وربما كانت أكثر التطبيقات شاعرية هي تلك التي تتعلق بتخزين الروائح والنكهات. فبعض أنواع MOFs يمكنها احتجاز جزيئات عطرية وإطلاقها تدريجيا، مما يجعلها مفيدة في صناعة العطور والأغذية. إن المادة نفسها التي تُستخدم لالتقاط الغازات السامة في المصانع يمكن أن تملأ زجاجة عطر في متجر راق — وهذا بحد ذاته يختصر المفارقة الجميلة بين العلم والتذوق الإنساني.

ومع توالي هذه الاكتشافات، بات واضحا أن الإطارات الفلزية العضوية ليست مجرد فرع من فروع الكيمياء، بل جسر بين العلوم جميعها. فهي تمس الفيزياء عندما نتحدث عن خصائص الامتزاز، والهندسة عندما نصمم البنية، والطب عندما نحمل الدواء، والبيئة عندما نحاول إنقاذ المناخ. إنها مثال حي على أن الحدود بين العلوم لم تعد حقيقية، وأن عصر التخصص المنغلق قد ولى.

ومع نهاية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، صار يُنظر إلى هذا المجال بوصفه إحدى الركائز الأساس للثورة الخضراء المقبلة. فبدلا من الاعتماد على حلول تقليدية لإدارة الطاقة والموارد، توفر MOFs لغة جديدة تتحدث بها المادة نفسها. وربما لهذا السبب قال أحد أعضاء لجنة نوبل عند إعلان الجائزة عام 2025: "لقد أعادت هذه المواد تعريف ما نعنيه بكلمة مادة".

في ختام هذه المرحلة من القصة، يمكن القول إن اكتشاف MOFs لم يكن مجرد إنجاز علمي، بل حدث ثقافي أيضا. لقد أعاد إلى الكيمياء بريقها الإبداعي، وأثبت أن هذا العلم العريق لا يزال قادرا على مفاجأتنا بعد قرون من الاكتشافات. وكما أن العمارة غيرت وجه المدن، فإن الكيمياء الشبكية غيرت وجه المادة. أما الطريق إلى المستقبل، فسيبدأ من السؤال الذي طرحه ياغي قبل سنوات: إذا كنا نستطيع تصميم المادة، فهل يمكننا يوما أن نصمم الكوكب؟

إمكانات هائلة

بعد أن اكتملت اللبنات النظرية والتجريبية في يد عمر ياغي، لم تعد الإطارات الفلزية العضوية مجرد تجربة مختبرية مذهلة، بل أصبحت نظاما ماديا يمكن تصميمه بدقة، وتوقع سلوكه، وضبط خصائصه تبعا للاحتياج الصناعي أو البيئي. لقد دخلت الكيمياء بذلك مرحلة جديدة من "الهندسة على مستوى الذرة" حيث لا يكتفي الباحث بتحليل المادة بل يخطط لتشييدها من الصفر وفق نموذج ذهني مسبق.

أول المجالات التي أظهرت الإمكانات الهائلة لهذه المواد، كان تخزين الغازات. فالمسامية غير المسبوقة في MOFs، التي تتجاوز أي بنية مسامية معروفة، جعلتها بيئة مثالية لاحتجاز جزيئات صغيرة كالهيدروجين والميثان وثاني أكسيد الكربون. أظهرت الدراسات الأولى في مطلع الألفية الجديدة أن بعض الإطارات، مثل MOF-5 الذي طوره فريق ياغي عام 1999، يمكن أن تمتص كميات هائلة من الهدروجين تفوق قدرتها الوزنية أي مادة معروفة في ذلك الوقت. وبفضل قدرتها على الامتلاء والتفريغ عند ضغوط منخفضة، طرحت هذه المواد نفسها كمرشح رئيس لتخزين وقود الهيدروجين في السيارات الكهربائية المستقبلية.

وفي المقابل، وجدت تطبيقات أخرى أكثر إلحاحا في مجال الاحتباس الحراري. فالتقاط ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي أو من مداخن المصانع يُعد من أكثر تحديات القرن الحادي والعشرين تعقيدا. المواد المسامية التقليدية كالزيوليت أو الكربون المنشط لم تعد كافية، إما بسبب محدودية مسامها أو ضعف انتقائيتها. أما MOFs، فتميزت بقدرتها على التعديل الجزيئي الدقيق: يمكن إدخال مجموعات كيميائية محددة داخل المسام لتزيد ارتباطها الانتقائي بجزيئات CO₂ دون التأثير على الغازات الأخرى. وهكذا أصبح من الممكن تصميم شبكة تلتقط غازا معينا دون غيره، ثم تطلقه عند تسخين بسيط أو تغيير الضغط. هذا المفهوم — الانتقائية التفاعلية — غير قواعد اللعبة في تقنيات تنقية الهواء، وتحلية الغاز الطبيعي، ومعالجة الانبعاثات.

بالتوازي مع تلك النجاحات، فتحت الإطارات الفلزية العضوية الباب أمام تطبيقات في الفصل الكيميائي والتحفيز. فبما أن المسام تعمل كمصفاة ثلاثية الأبعاد يمكن هندستها بأبعاد جزيئية، فقد أصبحت وسيلة لفصل الجزيئات المتشابهة في الحجم أو الشكل — وهي مهمة بالغة الصعوبة في الصناعة البتروكيميائية. كما جرى استخدام بعض الإطارات كمحفزات متجانسة وغير متجانسة في الوقت ذاته: إذ تسمح مواقعها الفلزية النشطة بتنشيط جزيئات التفاعل، بينما تحافظ البنية البلورية على ثباتها بعد انتهاء العملية. وبهذا الجمع بين الانتقائية والصلابة، وُلد جيل جديد من المحفزات يمكن إعادة استخدامها دون فقد فعاليتها.

يصر ياغي في حديثه على أن الجائزة ليست تتويجا له وحده، بل اعتراف بجيل كامل من الباحثين الذين يعتقدون أن الكيمياء يمكن أن تُحدث فرقا في البيئة والطاقة والغذاء إذ يقول "كل اكتشاف جديد هو دعوة للتفكير كيف نعيش على هذا الكوكب، وكيف نحافظ عليه للأجيال القادمة"

لم يقتصر الإبداع على المختبرات الأكاديمية، فبعد عام 2010 بدأت شركات كيميائية كبرى في تحويل هذه المواد إلى منتجات تجارية. ظهرت تطبيقات في تخزين الغاز الطبيعي المضغوط، وأخرى في أنظمة تنقية الهواء داخل الغواصات والمركبات الفضائية. حتى أن وكالة "ناسا" درست إمكان استخدام MOFs لالتقاط ثاني أكسيد الكربون في كبسولات رواد الفضاء. كانت هذه النقلة من البحث إلى السوق نتيجة مباشرة لبساطة الفكرة التي زرعها ياغي، أن تصميم المادة يمكن أن يكون عملية هندسية تُنفذ على الورق قبل أن تتجسد في المختبر.

من الناحية النظرية، امتد تأثير الإطارات الفلزية إلى ما هو أبعد من التطبيقات. فقد ألهمت فكرا جديدا في الكيمياء يُعرف بـ"الكيمياء الشبكية". هذا الفرع، الذي صاغه ياغي رسميا في مطلع الألفية، يقوم على مبدأ ربط الوحدات الجزيئية عبر روابط تساهمية قوية لتشكيل هياكل متكررة وثابتة. وبذلك انتقلت الكيمياء من مرحلة اكتشاف المواد بالمصادفة إلى مرحلة تصميمها المنهجي. في هذا السياق، لم تعد MOFs سوى البداية؛ فقد ظهرت لاحقا أطر عضوية تساهمية (COFs) وأطر هيدروجينية (HOFs) وغيرها، كلها تنحدر فكريا من المفهوم نفسه.

AFP
لجنة نوبل للكيمياء تعلن أسماء الفائزين بالجائزة

على المستوى الأكاديمي، أصبحت MOFs ميدانا متفجرا للنشر العلمي. فخلال عقدين فقط، تجاوز عدد الأبحاث المنشورة عنها خمسين ألف ورقة علمية، مع معدل نمو سنوي من الأعلى في تاريخ الكيمياء الحديثة. وقد دخلت في مناهج الجامعات وأصبحت موضوعا رئيسا في المؤتمرات الدولية. هذا التوسع الهائل لم يكن نتيجة الضجيج الإعلامي، بل كان انعكاسا لطبيعة المجال الذي يجمع بين الفيزياء والكيمياء والهندسة وعلوم المواد في آن واحد.

بقاء الكوكب

أما الأثر الأعمق، فربما يكمن في التحول المفاهيمي الذي أحدثه هذا الاكتشاف في تصور العلماء لطبيعة المادة. قبل عصر MOFs، كان يُعتقد أن الخصائص البنيوية الدقيقة لا يمكن التحكم فيها إلا في الجزيئات الصغيرة. أما اليوم، فقد أصبح ممكنا بناء مواد ضخمة تتسم بدقة التنظيم الذري التي كانت حكرا على الجزيئات العضوية. هذه النقلة الفكرية وضعت الكيمياء في مكان أقرب إلى العمارة، حيث يُصمم "البيت الجزيئي" وفق مقاييس محددة مسبقا، لا وفق ما تمليه المصادفة أو القيود الطبيعية.

ومن الناحية البيئية، قد يكون لإسهامات ياغي وكيتاغاوا وروبسون أثر يتجاوز المختبر والصناعة إلى قضايا بقاء الكوكب نفسه. فإمكان التقاط الكربون، وتخزين الطاقة، وتنقية المياه باستخدام مواد مصممة على المستوى الذري، تفتح الباب أمام حلول علمية حقيقية لأزمات المناخ. بالفعل، يجري اليوم اختبار أطر فلزية عضوية في مشاريع لامتصاص الرطوبة من الهواء الصحراوي لاستخلاص المياه الصالحة للشرب، وهي تطبيقات طورها فريق ياغي في جامعة كاليفورنيا بيركلي. بهذه الطريقة يعود العلم إلى خدمة الإنسان في أكثر صوره مباشرة.

رويترز
العالم عمر ياغي يعمل في مختبر جامعة كاليفورنيا بيركلي الأميركية

ورغم كل هذا التقدم، تبقى الإطارات الفلزية العضوية ميدانا مفتوحا للأسئلة. فثباتها الحراري والكيميائي لا يزال يشكل تحديا في بعض التطبيقات القاسية، كما أن تصنيعها على نطاق صناعي يتطلب خفض التكلفة وتحسين قابلية التدوير. ومع ذلك، فإن الاتجاه العام يشير إلى أن هذه الصعوبات تُحل تدريجيا عبر إدخال مفاهيم جديدة كالإطارات المختلطة (Hybrid MOFs) أو تلك التي تحتوي على معادن أرضية نادرة. إن مرونة هذا الحقل هي التي تضمن استمراره في التطور لسنوات طويلة قادمة.

في حديث عمر ياغي بعد الإعلان، تبرز نبرة العالم الذي لم يتوقف عن الحلم بالمواد القادرة على "بناء عالم أنظف وأكثر استدامة". يتحدث بتواضع واضح، وكأن إنجازه لم يكن نصرا شخصيا بقدر ما هو انتصار لفكرة العلم المفتوح والتعاون بين العقول.

يشرح ياغي أن الهياكل العضوية المعدنية (MOFs) ليست مجرد مواد جديدة، بل طريقة جديدة للتفكير في المادة ذاتها: بناء المادة ذرةً ذرة، كما يبني المهندس المدينة حجرا حجرا. هذه الفلسفة جعلت الكيمياء تنتقل من الاكتشاف إلى "الخلق"، من مراقبة الطبيعة إلى تصميمها.

يصر ياغي في حديثه على أن الجائزة ليست تتويجا له وحده، بل اعتراف بجيل كامل من الباحثين الذين يعتقدون أن الكيمياء يمكن أن تُحدث فرقا في البيئة والطاقة والغذاء إذ يقول "كل اكتشاف جديد هو دعوة للتفكير في كيف نعيش على هذا الكوكب، وكيف نحافظ عليه للأجيال القادمة".

عندما أعلنت لجنة نوبل عام 2025 فوز روبسون وكيتاغاوا وياغي، لم تكن تحتفي بمجرد اكتشاف مادة جديدة، بل بنقلة فكرية كاملة في طريقة تعامل الكيمياء مع المادة. لقد أصبح التصميم الواعي للهياكل هو لغة المستقبل، تماما كما كانت المعادلة هي لغة الكيمياء الكلاسيكية. إن الجائزة لم تُمنح فقط على ما تم إنجازه، بل على ما أُتيح من إمكانات لما يمكن إنجازه بعد ذلك.

في هذا المعنى، يمكن القول إن قصة الإطارات الفلزية العضوية ليست خاتمة مرحلة، بل افتتاح لعصر جديد. عصر تتقاطع فيه الكيمياء مع الذكاء الاصطناعي في تصميم المواد، وتلتقي فيه الهندسة الجزيئية بالاستدامة البيئية، ويصبح فيه الإنسان أكثر قدرة من أي وقت مضى على إعادة تشكيل المادة بما يخدم بقاءه ومستقبله.

font change

مقالات ذات صلة