عن أقصر خطاب في تاريخ جائزة نوبل للآداب

على الكاتب أن يكتب ما يريد قوله لا أن يقوله

عن أقصر خطاب في تاريخ جائزة نوبل للآداب

قد لا نستغرب إذا ما نبشنا عن أوجز خطاب في أرشيف خطابات جائزة نوبل للآداب، وألفيناه للروائي إرنست همنغواي، الشهير بفرادة التكثيف في جملته القصصية والروائية، حد التقشف، وقد جاء ذلك الخطاب في 334 كلمة، ولم يحضر الكاتب لإلقائه بسبب تعرضه لحادثي تحطم طائرتين كادتا أن توديا بحياته، فكلف إلقاءه في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول 1954 بدله سفير بلاده في استوكهولم بالسويد.

يلفت همنغواي الانتباه منذ البداية إلى حقيقة لاذعة، بملء التواضع، فبدل أن يستفيض في الحديث عن نفسه، عن سيرته، عن علاقته بالقراءة والكتابة، عن تجارب حياته، عن الامتنان لأسرته أو بلده، كما دأب معظم الفائزين قبله وبعده بالجائزة ذاتها أن يفعلوا حد التشابه، يمم بإبرة خطابه شطر العظماء من الكتاب الذين لم يحظوا بنيل نوبل للآداب، ممن يراهم جديرين بها وأكثر، محتفظا بأسمائهم لنفسه، إذ أفصح مباشرة بعد ديباجة الشكر السريعة: "لا يستطيع كاتب يعرف تمام المعرفة من هم الكتاب العظماء الذين لم يتلقوا جائزة نوبل، إلا أن يقبلها بفائض من التواضع، ولا داعٍ لسرد أيٍ من هؤلاء الكتاب هنا، لأن كل واحد منا يملك قائمته الخاصة منهم بناء على معرفته ووعيه".

لم يستطع صخب الجائزة أن ينزلق بالكاتب إلى فخ ذاتية مشفوعة بظلال نرجسية، ولا استطاعت رجتها أن تهز الأرض تحت قدميه، مثلما فعلت بكثيرين، استفاضوا في خطاباتهم النشوانة حد البهرجة، وهذا يحق لهم في كل الأحوال.

حتى إن ما سيأتي بعد مقام التواضع الجليل، سيكون حديثا بتعميم عما قد يكونه خطاب الكاتب، بالنظر إلى الأشياء المعتملة في وجدانه، فهي ليست مدركة بالضرورة لحظة الكتابة لدى مؤلفها، وسيكون محظوظا لو آلت مآلا أوضح في المحصلة، إذ لا استمرار لكاتب من دونها إذا ما كان يمتلك كيمياء خاصة: "قد لا تكون الأشياء مدرَكة تماما عندما يكتبها أحدنا، وقد يحالفه الحظ أحيانا ليحصل في النهاية على نتيجة واضحة. هذه التفاصيل إلى جانب الكيمياء التي يمتلكها الكاتب، هي ما ستجعله يستمر أو ستضعه في ذمة النسيان".

لا كتابة تستقيم دون عزلة

وكأن ما تضمره ورقة همنغواي اللاسعة، هي الشذرة المدسوسة في طي خطابه، على نحو مسنون: "الكتابة، في أفضل حالاتها، هي حياة في العزلة".

الكاتب يكتب عندما يكون وحده، وإذا كان كاتبا جيدا فعليه أن يواجه الأبدية أو انعدامها كل يوم


إرنست همنغواي

لا كتابة إذن تستقيم إلا بالعزلة وفق صاحب "الشيخ والبحر"، ولا شيء يمكن أن تضيفه المؤسسات الثقافية للكاتب، كذلك رعاية المنظمات المعنية بالكتاب، بل إن أقصى أثر لها، بما فيها الجوائز نفسها، هو أن تلطف أو تخفف وحدة الكاتب، مع التحذير بأن فقدان الكاتب هذه الوحدة كاشتراط وجودي، إذا ما حظي بمكانة اجتماعية مرموقة، قد يعرض أعماله لخطورة الرداءة، لمضاعفات الاهتراء الأدبي، وتدني أحوال القيمة الجمالية لما يكتبه: "الكاتب يكتب عندما يكون وحده، وإذا كان كاتبا جيدا فعليه أن يواجه الأبدية أو انعدامها كل يوم".

AFP
الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي في مصارعة الثيران بمدريد في خمسينات القرن الماضي.

يستأنف همنغواي انصرافه عن ذاته بعيدا، في خطاب نوبل الطريف هذا، منزاحا إلى ظلال تجربة الكتابة، وهو يجلو عنها إشراقات الحكم المنتخبة من سِفْر العزلة، فما من كتاب إلا وهو بداية جديدة للكاتب الحقيقي وأكثر من ذلك: "يجب على الكاتب أن يحاول دائما القيام بشيء لم يسبق أن قام به أحد من قبل أو فشل الآخرون في تحقيقه، وعندها، وفي معظم الأحيان، ومع محالفة الحظ له، سوف يحقق النجاح".

بالنبرة ذاتها التي افتتح بها الخطاب، سيقفل صاحب "لمن تقرع الأجراس"، عائدا إلى الكتاب المرموقين، إلى الأدب الجيد وفق دقة توصيفه، على سبيل الإشارة الأبلغ من العبارة: "كم كانت صناعة الأدب لتكون بسيطة لو كان كل ما علينا أن نقوم به هو إعادة صوغ الأدب الذي كتب بطريقة جيدة".

لا يقف همنغواي عند هذه الضفة التي خص بها زمرة من الكتاب أو ظواهر بعينها من الكتابة المبتذلة، إنما تعنيه تماما الضفة الأخرى، وهي المنذورة لكُتاب الجسارة المطلقة، من ذوي النزوع المغامر في ما وراء الحدود المرسومة: "لقد حظينا بكتاب مرموقين في الماضي، لأنه كان عليهم دوما أن يتخطوا حدود قدراتهم، متجهين بشجاعة نحو الصعاب".

كل ما سلف من خطابه المكثف يراه همنغواي استطالة أكثر من اللازم، إذ يقرر أن ينهيه بما يليق من نسغ، طالما تألقت به نهايات قصصه اللاذعة: "لقد تحدثت مطولا باسم الكُتاب. على الكاتب أن يكتب ما يريد قوله، لا أن يتحدث به".

وكأن الورقة غير معنية بجائزة نوبل، بل غير معنية بذاتية همنغواي بالأحرى. كيف لا وهي ممعنة في صوغها الموجز بالكُتاب على نحو عام، ما يجب أن يكون عليه الكاتب بصورة من الصور، لا على سبيل تقديم النصائح وهذا ليس مقامها، بل من منطلق ذريعة تخص الكتابة في المجمل، ولأن مهمة الكاتب في الأول والأخير هي الكتابة، فعليه أن يتحاشى ما أمكن الكلام، وليكتبن ما يريد التلفظ به أو يصمت في أفضل الأحوال.

AFP
الرئيس الأمريكي جون كينيدي والسيدة الأولى جاكلين كينيدي مع عدد من الفائزين بجائزة نوبل في البيت الأبيض عام 1962.

استعارة جبل الجليد

يبدو خطاب همنغواي المقتضب بسيطا علانية، شأن قصصه التي تشهر رأس جبل الجليد، فيما بقيته غارقة في ظلمة المحيط، وبذا يتماهى مع أسلوبه المفرد، الذي لم تنل منه سطوةُ الجائزة حبةَ خردل تغيير، فبالقدر الذي تتقوض كثافة كلماته، تتسع كثافات رؤاه، وبالقدر الذي يصوغه متواضعا، تتسامق أفكاره، إذ مدار تأملاته كيفما كانت سريعة، تتسلل بحزمة ضوء جارحة إلى أشد المناطق غسقية في حرفة الأدب، العزلة والخلود.

Jonathan Nackstrand / AFP
شخص يغادر الأكاديمية السويدية قبل إعلان جائزة نوبل للآداب لعام 2025 في ستوكهولم.

إذا ما جاز توصيف أقصر خطابات جائزة نوبل للآداب، على سبيل الطرافة، الخاص بهمنغواي، فلن نجد أفضل من أحد عناوين نصوصه القصصية، الموسومة بـ"قصة قصيرة جدا"، مع أنه نشرها سابقا عام 1924 كفصل ضمن "في عصرنا الحاضر".

كم كانت صناعة الأدب لتكون بسيطة لو كان كل ما علينا أن نقوم به هو إعادة صوغ الأدب الذي كتب بطريقة جيدة

 

ما يشفع إذن لهمنغواي في ورقته الموجزة جدا، ليس طرافة زهدها الكمي وحسب، بل زهدها النوعي في ما يشتبك بذاته وزمنه، منحازا لدقة الانضباط كما في أسلوب كتابته، وهو ما يجعلها خارجة بقدر وافر من الشغب عن مدار الخطابات المطولة للجائزة، خاصة تلك التي كتبت وفق قواعد مشتركة، مع أن الاستثناء منها جدير بأن يكون درسا لا في سيرة الكتابة والحياة وحسب، بل في سيرة كاتبها أخلاقيا وإنسانيا، إزاء قضايا عصره المزمنة، في تلازم حكيم بين ما يربطه بمحليته البالغة العمق، وكونيته البالغة الشمولية، دونما تنكر لهشاشة الذات، وقلق الوجود وعزاء الفن، مثلما نلفي ذلك بقوة دامغة في روح ما بعد الحرب العالمية الثانية في كلمة هرمان هسه، وفي الانتصار للإنسان مع رفض هزيمته بأيما شكل، بشجاعة وشرف كما في كلمة وليام فوكنر، وفي التوتر بين عزلة الفنان وواجبه تجاه الآخرين في كلمة ألبير كامو، وفي الجمال والبساطة وشعر الزن وفن الشاي في خطاب ياسوناري كاواباتا، وعن مائة عام من عزلة أميركا اللاتينية، تحت ويلات العنف السياسي،النفي، والتهميش فضلا عن الأسطورة والتاريخ في خطاب غارثيا ماركيز، على سبيل المثل لا الحصر.

 

font change