فيما تقارب الروائية الفرنسية أني إرنو - المولودة في العام 1940، وحائزة نوبل للآداب في العام 2022 - تجربتها الكتابية المديدة، مقتفية أثر العمليات الكيميائية التي تحدث في وعيها ولاوعيها أثناء الكتابة، أو التي تحدثه فيهما عملية الكتابة، تكثر من تكرار العبارة الآتية: عندما نكتب تكون "الذاكرة أقوى من الواقع". وهي تقصد ما في الذاكرة - ذاكرتها- من متاهة صور وإشارات وكلمات وظلال أشخاض وأطيافهم، يكون الواقع الذي فات زمنه وانقضى بلا عودة ولا رجوع، هو مصدرها أو مادتها الأولى. وتضيف إرنو أن "تخييل الذاكرة" هو ما يمنح الكتابة قوتها الفنية، وبلا التخييل تفقد الكتابة فنيتها، وتصير تقريرا عن الواقع.
القطيعة الزمنية وتخييل الذاكرة
وخصت آني إرنو شرح أو تقصي علاقة كتابتها بالذاكرة والزمن، بكتاب صغير الحجم وغنيّ بمادته، سمته "العودة إلى إيفتو". وإيفتو بلدة/مدينة صغيرة في النورماندي بشمال فرنسا الغربي. أمضت فيها الكاتبة طفولتها ومراهقتها وصباها مع أهلها، قبل انقطاعها عنها بعد بلوغها الرابعة والعشرين من عمرها. وهي عادت إليها في كهولتها كاتبة معروفة، كي تتحدث إلى أهلها عن أثرها وحضورها في كتابتها، فقالت إنها "البيت الذي لا أكف عن العودة إليه" بوصفه "المجال المكين الذي تتجذر فيه كتابتي".
وكان الكتاب صدر بالفرنسية في العام 2013. وفي الشهر التاسع من العام الحالي 2025، أصدرته بالعربية "دار الجمل" بترجمة وقّعها التونسي مبارك مرابط الذي ترجم لإرنو أيضا "مذكرات فتاة" و"العار" و"الشاب" و"السنوات"، وقد صدرت كلها عن "الجمل".
وإذا كانت كلمات أو مفاهيم ثلاثة - الواقع، الذاكرة، والزمن - هي ركائز مقاربة إرنو لعالمها الكتابي، فإن المصدر المادي الأساس لذاكرتها، هو المكان وزمنه الاجتماعي اللذان تتدخل المخيلة في صوغهما، أو اللذان يمثلان في ذاكرة الشخص الذي عاش شطرا من حياته فيهما، ويستعيدهما بعد انفصاله أو انقطاعه عنهما. أي إنه المكان الذي يتراكم فيه عيش المرء منذ الطفولة وبداية تفتح الوعي الذي يراكم الشعور بالأنا أو بالذات المنفصلة والمستقلة، بالوقت والزمن وتجارب الحياة. وقد تستمر أو لا تستمر الإقامة في هذا المكان حتى المراهقة والشباب، لكن من الضروري أن تنقطع في وقت ما، لتتحول تلك الإقامة، مكانا وزمن عيش فائتين ومنقطعين، ومعينا لذكريات يداخلها التخييل الذاتي الذي يشكل العنصر الأساس في الكتابة الفنية.